صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

منذ بدء جماعات "محور المقاومة الإقليمى" المدعوم إيرانياً: حزب الله اللبنانى، جماعة أنصار الله الحوثية اليمنية، مليشيات "المقاومة الإسلامية" فى العراق، عملها العسكرى تحت مسمى "وحدة الساحات" دعماً للمقاومة الفلسطينية فى مواجهة العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة رداً على عملية طوفان الأقصى فى 7 أكتوبر 2023، بدا واضحاً حالة الغياب التام للنظام السورى عن تلك الجبهات، بالرغم من كونه جزءاً مهماً من هذا المحور، وحصل على "مستوى فائق" من الدعم والإسناد من قبل المحور نفسه سواء من إيران الداعم الإقليمى له، أو من حزب الله اللبنانى والمليشيات العراقية، تحديداً منذ بدء سنوات صراعه مع المعارضة المسلحة فى عام 2011، أى على مدار الثلاثة عشرة عاماً الماضية. وفى الوقت نفسه، وعلى مدار السنوات نفسها، ظلت الأراضى السورية سواء فى الجنوب السورى، أو فى المناطق الوسطى فى دمشق وما حولها، وصولاً إلى اللاذقية التى تمثل الحاضنة الشعبية لنظام الأسد، أهدافاً مباشرة للغارات العسكرية الإسرائيلية بهدف ضرب البنية العسكرية لإيران ومقرات وعناصر الحرس الثورى فى هذه المناطق، واستهداف كذلك المليشيات المسلحة العراقية العاملة فى سوريا، وممرات نقل الأسلحة والذخائر من لبنان إلى الداخل السورى؛ أى لم يكن النظام السورى على مدار السنوات الماضية بعيداً عن الاستهداف العسكرى الإسرائيلى، ولم يكن قادراً كذلك على الرد على أي من هذه العمليات باستثناءات "نادرة" تم فيها تفعيل منصات الدفاع الجوى ضد بعض هذه الاستهدافات.   

لكن وبعد اغتيال إسرائيل الأمين العام لحزب الله اللبنانى حسن نصر الله فى 27 سبتمبر 2024، توسعت أهداف الحكومة اليمينية فى إسرائيل لتشمل ليس فقط الجنوب اللبنانى، ولكن أيضاً الرغبة فى إحداث تغييرات عسكرية فى الجولان المحتل تجاه الحدود السورية، استغلالاً للحدث. وبدا من تحركات الجيش الإسرائيلى على الأرض أن ثمة من المؤشرات ما قد يشير إلى احتمالية التجهيز لنوع ما من العمل العسكرى، الذى قد لا يرتقى لمرتبة "الغزو البرى"، لكنه فى الوقت نفسه يعيد ترتيب الأوضاع فى الجولان المحتل من قبيل إقامة حواجز جديدة على الحدود بين هضبة الجولان ومنطقة الشريط منزوع السلاح على الحدود مع سوريا، وهو ما يفتح مجالات لتفسيرات جديدة تشير إلى "احتمالات" مفادها إما الالتفاف من جبهة الجولان لاستهداف أعمق لحزب الله نحو الشرق على الحدود اللبنانية، أو الاستعداد عسكرياً لتكون سوريا هى المحطة التالية بعد لبنان فى سلسلة الجرائم الإسرائيلية الحالية.

حسابات النظام السورى

حالة الصمت التام والنأى بالنفس التى انتهجها النظام السورى – دبلوماسياً وعسكرياً - تجاه أحداث الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة على مدار عام كامل (أكتوبر 2023 – أكتوبر 2024) وتداعياتها حتى على الساحة السورية نفسها، بدت وكأنها رغبة مباشرة من قبل النظام فى الابتعاد عن تداعيات هذه الحرب، بما قد يجنب سوريا أية عمليات عسكرية كبرى تقوم بها إسرائيل كالغزو البرى مثلاً انطلاقاً من جبهة الجولان المحتل. وقد حاول الأمين العام لحزب الله اللبنانى حسن نصرالله، قبل اغتياله، تفسير حالة النأى بالنفس التى التزمها النظام السورى، وردها حينها إلى سياسة قوى المحور بشأن "توزيع الأدوار" وفقاً للمهام المطلوبة ما بين دعم عسكرى يتم فعلاً من ناحية، ودعم مادى ومعنوى دون الدخول مباشرة للمعركة من ناحية ثانية، هذا على الرغم من أن معدل الاستهدافات العسكرية فى سوريا منذ مطلع عام 2024، ووفقاً لبيانات المرصد السورى لحقوق الإنسان، بلغ 95 استهدافاً ما بين 78 عملية جوية، و17 عملية اختراق برى وإنزال.

لكن تعامل النظام السورى مع تطورات الأحداث وتصاعد وتيرة العدوان الإسرائيلى على القطاع يعكس تفسيرات مغايرة يدور مجملها فى متغير "الحسابات الجديدة للنظام السورى"؛ والتى تشمل عدة أمور:

أولها، يشير إلى رغبة نظام الأسد في الاستفادة من حالة العودة إلى السياق العربى التى حققها بعودته للجامعة العربية فى مايو 2023، وتحديداً حالة دعم دولة الإمارات العربية له منذ بدء مسار تطبيع العلاقات فى عام 2018، بالرغم من عدم تقديمه أى تنازلات تجاه مبادرة "خطوة مقابل خطوة" التى أقرتها الجامعة فى سياق إعادة تأهيل النظام عربياً. وفى السياق نفسه، ثمة ترويج لأنباء تفيد بوجود بعض التفاهمات التى توصل إليها النظام –عبر وسطاء – مع واشنطن، وفقاً لمعادلة تتضمن "حياد النظام" عن عمل "محور المقاومة الإقليمى" مقابل "ضمان مستقبله" والعودة إلى سياسة إعادة التأهيل والنظر فى العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه.

وثانيها، يتمثل في محاولات النظام السورى تحقيق قدر من "الاستدارة" فى مواقفه الإقليمية بعيداً عن الراعى الإقليمى الإيرانى؛ أو بمعنى أكثر دقة "تكييف الموقف اعتماداً على طبيعة المتغيرات والتطورات"، وهنا تحديداً تشير بعض المصادر إلى تصاعد خلافات كامنة بين طهران ودمشق، وذلك على وقع حالة "التخلى" التى يبديها النظام عن تفاعلات "محور المقاومة الإقليمى" على مدار عام من عمر العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، وعدم توفير النظام أى نوع من الحماية العسكرية والاستخباراتية لمقرات الحرس الثورى تحديداً فى سوريا منذ بدء نشاط "محور المقاومة" وعمله فى إسناد المقاومة الفلسطينية، الأمر الذى عرَّض كثير من كوادره وصفوفه الأولى لعمليات اغتيال واسعة من قبل إسرائيل. هذا بخلاف عدم حمايته أو رده على عملية الاستهداف الإسرائيلى المباشر لمقر القنصلية الإيرانية فى دمشق فى إبريل 2024.

وثالثها، ينصرف إلى انخفاض التكلفة بالنسبة للنظام جراء الاستهدافات العسكرية الإسرائيلية؛ بمعنى أن كل الاعتداءات الإسرائيلية على أهداف فى سوريا هى أهداف تابعة لإيران سواء من حيث البنية العسكرية أو مخازن الأسلحة والذخيرة أو حتى الأفراد التى يتم استهدافها، أما خسائر الجيش السورى النظامى تحديداً فتكاد تكون ضئيلة ومحددوة للغاية. يضاف إلى ذلك رغبة النظام فى عدم الدخول فى أتون صراع إقليمى حاد وهو لايزال يواجه وجود عسكرى على أراضيه لثلاثة قوى هى روسيا والولايات المتحدة وتركيا، فضلاً عن فقدانه السيطرة على مناطق الشمال بالكامل لصالح الإدارة الذاتية الكردية، بخلاف استمرار المظاهرات الاحتجاجية فى محافظات الجنوب فى درعا والسويداء تحديداً، احتجاجاً على تردى مستوى المعيشة ونقص الخدمات وهى المناطق التى دخلت فى مصالحات مع النظام مقابل تخليها عن دعم المعارضة. وهذا كله يمثل من وجهة نظر النظام تحديات لا تمكنه من الدخول فى أى مسار للتصعيد الإقليمى عبر "محور المقاومة".  

ورابعها، يتعلق بالإجراءات التى اتخذتها الفرقة الرابعة فى الجيش السورى بقيادة ماهر الأسد، لاسيما بعد أن استهدفت إسرائيل أحد مقراتها فى ضربة عسكرية بريف دمشق فى 29 سبتمبر 2024، وهى فرقة كانت منوطة بالتعاون المباشر مع عناصر الحرس الثورى الإيرانى الموجودة فى سوريا، وتتولى كذلك مهام نقل السلاح والذخائر من سوريا إلى لبنان. واتخذت هذه الفرقة إجراءات من شأنها "فك الارتباط" تدريجياً مع المليشيات الإيرانية العاملة فى الأراضى السورية، منها التوقف عن نقل السلاح لها، ومنعها من استهداف الوجود العسكرى الأمريكى انطلاقاً من الاراضى السورية، ويلاحظ هنا أن الاستهدافات الأخيرة  للقواعد الأمريكية فى التنف وحقل العمر وكونيكو يوم 27 أكتوبر 2024، تشير بعض الأنباء إلى أن مصدرها من داخل العراق وإن لم تعلن  المليشيات مسؤليتها عنها.

رؤية إسرائيل تجاه سوريا فى الوقت الراهن

ترى إسرائيل فى عدوانها على قطاع غزة على مدار عام كامل (أكتوبر 2023 – أكتوبر 2024) أن الحرب الحالية تختلف كلية عن أى حرب سابقة خاضتها ضد المقاومة الفلسطينية؛ بالنظر إلى حجم ونوع عملية طوفان الأقصى من ناحية، وبالنظر أيضاً إلى كونها الحرب التى شهدت تفاعلاً فعلياً من جانب "محور المقاومة الإقليمى" المدعوم من قبل إيران فى العراق ولبنان واليمن، تجاه إسرائيل من ناحية ثانية. ومن ثم باتت هذه الأذرع الإيرانية تشكل – وفقاً لرؤية الحكومة الإسرائيلية - "حلقة نار" حول إسرائيل فى المنطقة، وأنها تخوض معها "حرباً وجودية"، وبالتالى، فهى مطالبة باستهداف حلقة النار هذه دون أية قيود أو شروط تمنعها من ذلك. وكان هذا التصور واضحاً ومباشراً فى تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو التى قال فيها أن إسرائيل ستصل إلى كل مكان فى الشرق الأوسط يمثل تهديداً لها، وأنها بصدد تغير "خريطته" كلية. من هنا يجب وضع حسابات النظام السورى الهادفة إلى "تحييد" موقفه من "محور المقاومة الإقليمى" - أملاً فى "النجاة" من عدوان إسرائيلى محتمل - فى ميزان التقييم بما يطرح تساؤلاً مهماً حول "حيادية" النظام السورى عن التصعيد الإقليمى الراهن، وهل تمنعه فعلياً أن يكون هدفاً لإسرائيل أم لا؟. تجدر الإشارة هنا إلى وجود حالة من "عدم اليقين" بشأن الموقف الإسرائيلى تجاه جذب سوريا لساحة الصراع على غرار الحالة فى لبنان، ومن ثم فإن الحديث سيدور فى سياق من "الاحتمالات" التى قد تزداد أو تقل حظوظها وفرصها ومنها:

1- وجود خطأ فى التقدير الاستراتيجى من جانب النظام السورى: وذلك بخصوص حسابات إسرائيل تجاهه؛ بمعنى فشل رؤية النظام القانعة بأن إسرائيل قد لا تستهدف سوريا مباشرة، وإنما ستكتفى باستهداف مناطق تمركز الحرس الثورى والمليشيات التابعة لإيران فيها كما هو معتاد. هذا الاحتمال مردود عليه بأن سلوك الجيش الإسرائيلى منذ الأزمة فى غزة يأتى استجابة لضغوط الحكومة اليمينية، وهى حكومة عنصرية متشددة ترى فى حالة التصعيد الحالى "فرصة" لتحقيق أهدافها فى كل الجبهات بما فيها الجبهة السورية، وأن الاختلاف فقط فى التوقيت؛ أى توقيت الإقدام على هذه الخطوة، لأن هذه الحكومة ترغب فى الحصول على صورة "النصر الكامل"، كما تعلن دائماً، وهى حالة تدفع فيها الجيش إلى عدم التوقف، بل الاستمرار بالمنهجية نفسها، والانتقال من مرحلة إلى أخرى ومن موقع جغرافى إلى آخر، بدليل أن هذا الجيش صعد ضرباته العسكرية على وسط وجنوب سوريا تزامناً مع الضربة التى وجهتها إسرائيل إلى إيران فى 26 أكتوبر 2024، رداً على الضربات التى وجهتها لها الأخيرة داخل إسرائيل وأحدثت خسائر كبيرة فى مطلع أكتوبر المذكور.

2- صعوبة التعويل على الوجود الروسى والأمريكى: يُدخل النظام السورى فى حساباته احتمالية أن يؤدى الوجود الروسى فى سوريا، الذى وفر له الحماية الدولية على مدار 13 عاماً، إلى كبح جماح إسرائيل ومنعها عن استهدافها حالة رغبتها فى توسيع التصعيد؛ ويتجاهل هنا أن إسرائيل لطالما استباحت الأجواء السورية فى ظل الوجود الروسى، بل إن ثمة تنسيقاً أمنياً فى الأجواء السورية بين روسيا وإسرائيل منذ عام 2017، وهو ما يشير إلى خطأ التقديرات السورية أيضاً؛ فالإجراءات التى اتخذتها روسيا داخل سوريا مؤخراً، لاسيما بعد بدء العدوان الإسرائيلى على لبنان، تشير إلى صعوبة التعويل على تصور النظام السورى باحتمالية توفير روسيا حماية له من عدوان إسرائيلى محتمل. ومن هذه الإجراءات: مطالبة القوات الروسية العاملة فى سوريا للحرس الثورى الإيرانى بضرورة إخلاء مناطق تمركزه الموجود بالقرب من مطار دير الزور العسكرى، وترحيل كافة المقرات ونقاط المراقبة العسكرية إلى مناطق داخل دير الزور لكن بعيدة عن المطار. أيضاً ممارسة ضغط مباشر على النظام السورى لفك ارتباطه تدريجياً بالحرس الثورى الإيرانى وعناصره المتواجدة فى سوريا، وكذلك عناصر المليشيات الموجودة والتابعة لإيران بهدف تجنيب سوريا توسيع الاستهداف العسكرى الإسرائيلى المحتمل. أيضاً اتجهت قوات الشرطة العسكرية الروسية إلى إخلاء مواقعها فى مناطق المراقبة المتواجدة فى المحافظات السورية الجنوبية والقريبة من حدود الجولان المحتل، حيث أخلت أعلى موقع مراقبة لها هناك والموجود فى محافظة درعا، وتشير الأنباء إلى أن هذا الإخلاء تم بالتفاهم مع القوات الإسرائيلية منعاً للصدام بينها وبين القوات الروسية.

3- احتمال تفعيل الجيش الإسرائيلى جبهة الجولان المحتل: ترى إسرائيل أن تفعيل جبهة الجولان من شأنه الإسراع بحسم المعارك البرية فى جنوب لبنان؛ باعتباره مساراً بديلاً عن مسار الدخول إلى الجنوب اللبنانى عبر الشريط الحدودى مباشرة، بما يمكن الجيش الإسرائيلى من الالتفاف من الجبهة السورية عبر الجولان المحتل إلى داخل البقاع اللبنانى من ناحية الشرق؛ حينها سيكون الجيش الإسرائيلى خلف نهر الليطانى بمسافة تزيد عن 10 كيلومتر، ولتحقيق ذلك فإن إسرائيل لابد لها من تحريك أو توسيع شريط الحدود مع سوريا إلى ما بعد الجولان المحتل. وبالرغم من أن هذا الاحتمال لم يحدث حتى اللحظة، حيث قرر الجيش الإسرائيلى الدخول إلى الجنوب اللبنانى عبر مناطق الحدود المباشرة معه، إلا أن ثمة متغيرات يجب أخذها فى الحسبان وهى: حدوث دخول فعلى للجيش الإسرائيلى لمناطق فى ريف محافظة القنيطرة جنوب سوريا لا يتعدى أمتاراً، وهذا الدخول كان مصحوباً بمعدات عسكرية تشمل جرافات ووضع أسلاك شائكة وحواجز فى مسافة هذه الأمتار، ما يعنى أن ثمة جزءاً فعلياً من محافظة سورية ولو كان صغير المساحة (مصادر تشير إلى تجريف أراضى على امتداد 500 متر) تم استقطاعه بقوة عسكرية إسرائيلية. يضاف إلى ذلك سيطرة فكرة ضرب سوريا على جهاز الاستخبارات الإسرائيلى نفسه، باعتبار أن الجبهة السورية تمثل ممراً إيرانياً من العراق إلى لبنان يتم عبره إمداد حزب الله فى لبنان بالأسلحة والذخيرة.

فى الأخير، يمكن القول إن النظام السورى سيظل منتهجاً سياسة النأى بالنفس عن تفاعلات "محور المقاومة الإقليمى" مع تصاعد تداعيات العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، وفقاً للمبررات السابق عرضها، وأنه بصدد العمل على فك ارتباطه تدريجياً عن المحور، وكذلك العمل على تقليص حجم النفوذ الإيرانى فى سوريا مستقبلاً، فى استدارة نوعية بعيداً عن حلفائه الذين دعموا بقائه على مدار 13 عاماً، رغبة منه فى منع نظامه من الاستهداف العسكرى الإسرائيلى الذى قد يصل إلى مرحلة "الغزو البرى"، ومحاولة للخروج من العزلة التى فرضتها عليه التبعية لإيران إلى ساحة إقليمية مغايرة قد تمنحه قبولاً دولياً يعيد تأهيله للاندماج الدولى والإقليمى، بما يجعله قادراً على تجاوز عزلته وتخفيف العقوبات المفروضة عليه، والانفتاح على متطلبات إعادة الإعمار.