راهنت إسرائيل من خلال ضرباتها المكثفة على حزب الله منذ تفجيرات البايجرز في 17 سبتمبر 2024، على إضعاف الحزب من قمته القيادية حتى قواعده المنتشرة في مختلف المناطق اللبنانية، مما يسهل مهمة الغزو البري عندما يحين وقته. كما حاولت أيضاً تأليب الرأي العام اللبناني ضد حزب الله وتحفيز المعارضة التقليدية لنشاطه كي يصبح الحزب محاصراً بالضربات العسكرية الإسرائيلية من الخارج، وبالسخط الشعبي الذي يطالب بتقليص نفوذه وربما أيضاً يشي بمواقع تمركزه بالداخل.
وكان التعويل كبيراً على حركة النزوح السكاني من مناطق نفوذ حزب الله إلى المناطق اللبنانية الأخرى كي يصبح ثمن استضافتهم ثقيلاً بالنظر للوضع الاقتصادي السيئ وبالنظر أيضاً للاستهدافات الإسرائيلية المتحركة بما قد يحفز نوعاً من التنازع الأهلي بين اللبنانيين المناصرين والمناوئين لحزب الله.
وظنت تل أبيب أنها حققت الهدف العسكري عندما اغتالت بشكل متوالٍ قادة الصف الأول لحزب الله وخاصة الأمين العام حسن نصرالله، وهو حدث جلل لم يشهده الحزب من قبل مما أدى إلى إرباك مرحلي في أدائه السياسي والإعلامي والعسكري لعدة أيام. ولكن مع بداية محاولات إسرائيل للتوغل البري في 1 أكتوبر الجاري، بدا أن قدرات الحزب العسكرية في أرض الميدان في الجنوب لم تتأثر بما حل بالضاحية الجنوبية من ضرب مراكز للقيادة والاتصالات الإدارية واللوجستية.
أما الهدف السياسي بتأليب الرأى العام اللبناني ضد حزب الله ومحاولة استدراجه لفتنة داخلية، فلا يزال غير محسوم، وتبقى الاحتمالات بشأنه مفتوحة في ظل تنامي استقطاب داخلي في مواجهة محاولات واسعة لبناء وحدة وطنية ضد العدوان الإسرائيلي.
محاولة استعادة المبادرة العسكرية
مفاجأة استعادة حزب الله لفعاليته العسكرية بلغت ذروتها مساء الأحد 13 أكتوبر الجاري عبر هجوم نوعي بسرب من الطائرات المسيّرة التي اخترقت الحدود لمسافة نحو 70 كم قبل أن تصيب معسكراً تدريبياً للواء جولاني في بينيامينا جنوب حيفا مُخلِّفة 4 قتلى وأكثر من 60 مصاباً. جاء هذا الهجوم ليمثل ذروة عمليات حزب الله خلال الأسبوعين الماضيين، حيث نفذ في يوم واحد 38 عملية ضد إسرائيل سواء قصف صواريخ ومسيرات أو صد للتوغل البري. انطلقت المسيرات من لبنان مضللة الدفاعات الجوية الإسرائيلية بعد أن تم تشتيتها بعشرات من الصواريخ على الشمال الإسرائيلي من إصبع الجليل شرقاً مروراً بصفد وصولاً إلى عكا وحيفا غرباَ. وصف نائب الأمين العام لحزب نعيم قاسم هذا الهجوم في خطابه الأخير بأنه مرحلة جديدة تستهدف "إيلام العدو" وستنفذ وتستمر في عموم الأراضي الإسرائيلية تماماً كما تستهدف إسرائيل عموم الأراضي اللبنانية.
لم تكن هذه المرة الأولى التي تنجح فيها مسيّرات حزب الله في اختراق الشمال والوصول إلى حيفا، فقبل أسبوع ذكّر حزب الله بقدراته الاستخباراتية المحدثة عبر بث فيديو تجسسي لعدد من المنشآت العسكرية والمدنية بخليج حيفا شملت قواعد عسكرية ومصانع وجامعة وأبراج رادارات للدفاع الجوي. ولكنها المرة الأولى التي تحمل فيها هذه المسيّرات كتلة تفجيرية بهذا الحجم لتصيب تجمعاً للجنود الإسرائيليين في أحد المقرات العسكرية السرية في حيفا. ويبدو من ذلك استعادة حزب الله لقدراته على الاختراق الاستخباراتي للكشف عن مواقع وبنك أهداف جديد لصواريخه من البنية العسكرية والصناعية في خليج حيفا بينما يبدو أن إسرائيل قد استهلكت بنك الأهداف الأساسي لديها بعد نحو شهر من القصف المكثف. ويريد حزب الله بذلك استعادة توازن الردع بعد أسابيع من استباحة ضاحية بيروت الجنوبية بالقصف الجوي العنيف، ليقول أن قصف الضاحية يساوي قصف حيفا، وقصف بيروت يساوي قصف تل أبيب.
معادلة القصف المتبادل ليست متوازنة بالتأكيد، فالقدرات الجوية الإسرائيلية غير محدودة، بينما يمكن لحزب الله خرق الدفاعات الإسرائيلية بمسيّرات متسللة من حين لآخر أو صواريخ متوسطة المدى بشكل شبه روتيني.
حافظ حزب الله على نشاطه الصاروخي اليومي مبرهناً على أن الهجوم الإسرائيلي على لبنان لن يعيد سكان الشمال الإسرائيلي إلى منازلهم كما سبق أن وعد نصرالله قبل أيام من اغتياله. وتدريجياً، رفع حزب الله من الكثافة الصاروخية اليومية لنشاطه لتصل إلى متوسط يومي يفوق 200 صاروخاً. كما أدخل صواريخ جديدة للمعركة مثل صواريخ فادي بنسخها الأربعة ذات المدى القصير والمتوسط حتى 200 كم، بالإضافة إلى صواريخ فلق وبركان ذات المدى الطويل والحمولة التفجيرية الثقيلة. ومؤخراً انضم صاروخ قادر 2 إلى المجموعة الصاروخية المستخدمة ووصل إلى محاذاة ناتانيا على بعد 90 كم من الحدود. الهدف كان توسيع دائرة الاستهداف لتوازي حجم السكان الذي أجبروا على التهجير من جنوب لبنان والبقاع، وهو ما تحقق بالفعل بالنظر إلى تقارير إسرائيلية تشير إلى نزول نحو مليونيّ إسرائيلي للملاجيء وتوقف حركة الطيران بمطار بن جوريون وتفعيل صفارات الإنذار في 194 بلدة ومدينة إسرائيلية خلال الهجمات الصاروخية لحزب الله مساء الأحد 13 أكتوبر الجاري[1]. هذا مع الأخذ في الاعتبار أن ترسانة صواريخ حزب الله -طويلة المدى وثقيلة الحمولة ودقيقة التوجيه- التي تزعم إسرائيل أنها دمرت ثلثيّها، لم تستخدم بعد، ليس لأنها دُمرت بحسب المزاعم الإسرائيلية بل لأن حزب الله لا يريد استنزاف كل ترسانته في الأيام الأولى من حرب يعتقد أنها ستكون طويلة. ويبدو أن حزب الله لا يزال يكافح لسد الخرق الاستخباراتي الذي أصابه ولا يريد أن يكشف ويستخدم كل أوراق قوته خلال مرحلة الاختراق الراهنة. ولكن إذا كان هدف إنزال الإسرائيليين إلى الملاجئ قد تحقق، فإن إبقائهم فيها ليس وارداً لأن التهديد الذي يُخلِّقه حزب الله يستمر لدقائق بينما النزوح اللبناني من الجنوب والبقاع مستمر بشكل متواصل، وهو ما يضغط على الجبهة الداخلية اللبنانية بشكل أعمق مما يضغط على جبهة إسرائيل الداخلية.
الرهان الإسرائيلي على التوغل البري والهيمنة الجوية
مع تزايد الحشود العسكرية على الحدود الإسرائيلية-اللبنانية، أتيح لحزب الله أهداف جديدة وسهلة يقتنصها بالصواريخ قصير المدى، وهي تجمعات الجنود والآليات التي أصبحت أكثر ظهوراً داخل الأراضي الإسرائيلية قبل عبورها إلى لبنان. منذ بداية أكتوبر، حاول جيش الاحتلال الإسرائيلي الدخول إلى الجنوب عبر عدة نقاط من أقصى الشرق في إصبع الجليل – كفر كلا والعديسة وميس الجبل وبليدا- مروراً بمارون الراس ويارون في القطاع الأوسط حتى أقصى الغرب في اللبونة والناقورة على شاطيء المتوسط. وكان التكتيك الإسرائيلي يقضي بمحاولة التسلل من نقطة تلو أخرى لاستكشاف نقاط الضعف في التمركز العسكري لحزب الله بطول الحدود المشتركة التي تبلغ حوالي 130 كم، ولكن في كل النقاط واجه صعوبة بالغة في التوغل والسيطرة على الأرض.
حاول الإسرائيليون الدخول من نقطة الناقورة خلف مركز قوات اليونيفل الدولية كي تصيب نيران حزب الله الدفاعية قوات اليونيفل قبل القوات الإسرائيلية، ولكن حزب الله قال في بيان له إنه امتنع عن قصف القوات الإسرائيلية المتوغلة حفاظاً على حياة جنود القوات الدولية. فتقدم الإسرائيليون وأصبحوا في مواجهة القوات الدولية التي رفضت الانسحاب وإخلاء مواقعها فوجه الجيش الإسرائيلي نيرانه ضدها وأصاب 5 من الجنود الدوليين في خمس خروقات متتالية خلال الأسبوع الأخير بالناقورة غرباً وموقع راميا في القطاع الأوسط.
في النهاية، تمكن الجنود الإسرائيليون من التوغل من محور راميا ولكن الاحتفاظ بالأرض والتمركز فيها يظل محل شك وجدل كبير. وكان نعيم قاسم قد ذكر في خطابه الأخير أن التمسك بالأرض ومنع تقدم الجيش الإسرائيلي ليس هدفاً بحد ذاته ولكن تكبيده الخسائر الكبيرة بما يدفعه للانسحاب هو الهدف الأهم. وهذا يعني أن مقاتلي حزب الله قد ينسحبون أو يكمنون لبعض الوقت لإتاحة فرصة لحدوث توغل وانتشار إسرائيلي ثم ينفذون كميناً ضد القوات المتوغلة. هذا التكتيك قد تكرر في عدة نقاط خلال الأسبوع الماضي ولكنه كان على مسافة أقل من 800 متر وأسفر عن جرحى وقتلى رُصد نقلهم بمروحيات عسكرية إسرائيلية إلى مستشفيات الشمال. ولكن التوغلات الإسرائيلية في اليومين الأخيرين التي رُصدت في راميا تراوحت بين 2-3 كم ورُصد منها أيضاً وقوع إصابات فيما تفرض الرقابة العسكرية الإسرائيلية قيوداً على الكشف عن أرقام وتوقيتات وأماكن حدوثها.
على التوازي مع التوغل من الجنوب اللبناني، قامت القوات الإسرائيلية بالتقدم في محور الجولان السوري المحتل وأزالت بعض الألغام من الشريط الحدودي وجرفت جزءاً من الأرض قبل أن تُعيد تثبيت السياج الحاجز بعد ترحيله لبضعة مئات من الأمتار داخل الأراضي السورية[2]. هدف التحركات الإسرائيلية على الحدود مع سوريا غير مفهوم بدقة ولكنه قد يتراوح بين احتمالين: الاحتمال الأول، هو تنفيذ احتلال موازٍ داخل الأراضي السورية في نفس الوقت مع التوغل داخل الأراضي اللبنانية لتأمين القوات المتوغلة من إمكانية استهدافها من داخل الحدود السورية. والاحتمال الثاني، والأخطر، هو محاولة العبور من نقطة تلاقي الحدود الإسرائيلية-السورية-اللبنانية، كي تتقدم القوات الإسرائيلية أولاً إلى سوريا ومنها إلى لبنان بحيث يتم مباغتة مقاتلي حزب الله من حيث لا يحتسبون، أي من الحدود السورية-اللبنانية وليس الإسرائيلية-اللبنانية. هذا الالتفاف أو المناورة تفترض أن تحصينات حزب الله موجهة للحدود مع إسرائيل وليس للحدود مع سوريا، كما تفترض أيضاً أن حزب الله سيقع في فخ بين مجموعتين من القوات الإسرائيلية إحداهما تتقدم من إسرائيل والأخرى تطبق من الجهة المعاكسة من سوريا. قدرات حزب الله الدفاعية على الحدود مع سوريا غير معروفة ولا يمكن التكهن بمدى نجاح هذا السيناريو من عدمه. ولكن التوغل من إصبع الجليل له محاذير أخرى حتى لو تم من إسرائيل وليس من نقطة الحدود مع سوريا، منها مثلاً أنه الخط المستقيم الأقصر الذي يوصل القوات الغازية إلى نهر الليطاني، مما قد يعزل البقاع الغربي عن الجنوب اللبناني. وبالتالي قد يؤدي إلى حصر مقاتلي حزب الله مرة أخرى بين مجموعتين من القوات الغازية إحداها جنوباً والأخرى شمالاً، وقد يقطع الاتصال بين خطوط الإمداد الخلفية وبين المقاتلين في قرى وبلدات الشريط الحدودي في الجنوب. ويعتمد نجاح هذا السيناريو من عدمه على افتراض أن خطوط الإمداد غير قابلة للاستبدال أو أن الإمداد قد تم بالفعل ليغطى فترة طويلة من الحرب وليس بحاجة لتجديده من وقت لآخر.
وعلى التوازي مع ذلك، يستمر القصف الإسرائيلي لقرى وبلدات الجنوب والبقاع مع إصدار أوامر لإخلاء القرى قبل ما يقارب الساعة من قصفها. بينما توقف القصف الإسرائيلي على الضاحية وبيروت لنحو 6 أيام قبل أن يعود مرة أخرى الطيران الإسرائيلي لاستهداف العاصمة. وكان نجيب ميقاتي رئيس حكومة تصريف الأعمال قد اعتبر أن هذا الهدوء في سماء بيروت يعكس تفاهماً حديثاً مع واشنطن تعهدت فيه بإلزام تل أبيب بخفض التصعيد ضد العاصمة، ولكن معاودة استهداف بيروت يقلص من صدقية واشنطن في فرض هذا الإلزام. بينما قد يشي الهدوء الذي طال بيروت خلال الأسبوع الأخير باستنزاف بنك الأهداف الذي بحوزة الإسرائيليين والرغبة في جمع معلومات محدثة بشأن الانتشار المحتمل لحزب الله. وهذا الاحتمال يرجحه استمرار التحليق التجسسي للمسيرّات الإسرائيلية فوق سماء بيروت، بالإضافة إلى الكشف عن القبض على عدد من العملاء بمعرفة مخابرات الجيش والقوى الأمنية للاشتباه بمحاولتهم جمع معلومات والتقاط صور في الضاحية الجنوبية.
إلى جانب ذلك، توسعت إسرائيل في تنفيذ قصف عنيف ضد أهداف مدنية في كل من البقاع والجنوب، فضلاً عن نقاط مختارة بعناية في جبل لبنان والشمال، حيث لجأ النازحون إلى أماكن آمنة. طال القصف الإسرائيلي محيط مستشفى تمنين ورياق في البقاع مما أدى لتضرر بالغ لأبنية المستشفيين وإصابات في صفوف المرضى والطاقم الطبي. وكذلك استهدف القصف الإسرائيلي بلدة برجا في قضاء الشوف مما أدى لسقوط 4 ضحايا و18 إصابة، وقصف بلدة المعيصرة في قضاء كسروان بجبل لبنان مما أوقع 9 ضحايا وأصاب 15 آخرين[3]. يُضاف إلى ذلك، قصف عنيف على بدة إيطو ذات الأغلبية المسيحية في قضاء زغرتا شمالاً مما أدى إلى وقوع 21 ضحية وعشرات المصابين[4]. وهنا، فإن توسيع دائرة الاستهداف الإسرائيلي في لبنان يكشف عن رغبة إسرائيلية في تكبيد حزب الله خسائر تختصم من رصيده الداخلي مع اللبنانيين ليس فقط من بيئته القريبة ولكن أيضاً من الطوائف والمناطق الأخرى.
تحدى ترميم الجبهة الداخلية
أثار استهداف قوات اليونيفل سخطاً دولياً خاصةً من الدول التي تشارك بقواتها في لبنان وفي مقدمتها إيطاليا وفرنسا وإسبانيا. كما رفض الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو جوتيريش طلباً من نتنياهو بسحب هذه القوات من مواقعها في الجنوب اللبناني، وقال أنها ستظل في مواقعها لتنفيذ مهامها وأي استهداف متعمد لها يرقى لجريمة حرب وخرق للقانون الدولي الإنساني. تتكون اليونيفل من نحو 10 آلاف جندي من 50 دولة مختلفة من أوروبا وآسيا وأمريكا الجنوبية وتحظى بإجماع لبناني داخلي على دورها وأهمية مهامها. وقد ساهم في تزايد حالة السخط الدولي إزاء العدوان الإسرائيلي على لبنان ارتفاع حصيلة القتلى والجرحى من المدنيين والتي تخطت نحو 2300 ضحية وأكثر من 11 ألف إصابة. وكانت دعوة ماكرون لوقف تسليم الأسلحة لإسرائيل لدفعها للقبول بوقف إطلاق النار بمثابة بداية خجولة لتكوّن جبهة دولية تمارس ضغوطاً حقيقية ضد الحكومة الإسرائيلية[5]. ولعل الموقف الفرنسي بدأ يتبدل تدريجياً منذ شروع إسرائيل في حربها ضد لبنان، مما يؤطر لبعض التمايز بين الموقفين الفرنسي والأمريكي إزاء السلوك الإسرائيلي في المنطقة. فعلى عكس الموقف الأمريكي الذي سمح بتوسيع أهداف الحرب الإسرائيلية إلى لبنان، ويحثها فقط على خفض استهداف المدنيين وليس وقف الحرب في المجمل، يسعى الفرنسيون للوصول إلى وقف فوري لإطلاق النار في لبنان على التوازي مع تحضير الأرضية لانتخاب رئيس توافقي في لبنان في أقرب فرصة.
تحاول الدعاية الإٍسرائيلية الترويج لنجاح خطط التوغل في الجنوب اللبناني بما يسمح بتنفيذ الوجه الآخر من الخطة وهي الهيمنة على المشهد السياسي الداخلي في لبنان. إذ تسعى تل أبيب إلى تفكيك تماسك الجبهة الداخلية لحزب الله وكسر الثقة بينه وبين جمهوره من جهة وبينه وبين حلفائه من جهة أخرى، فضلاً عن إشعال المواجهة بينه وبين خصومه. وقد استهدف القصف الجوي العنيف خلق موجة كبيرة من النزوح - مليون ومائتي ألف - كي تثير السخط على نشاط حزب الله المناوئ لها سواء بين جمهوره المباشر الذي تم تهجيره أو جمهور اللبنانيين الذين استقبلوا النازحين في مختلف المناطق. ثم توسع القصف الجوي لأحياء أخرى ببيروت خارج الضاحية الجنوبية ليبدو أن إسرائيل ستطارد الخارجين من الضاحية إلى أي مكان آخر يذهبون إليه، فيُحجم اللبنانيون بالتالي عن إيواء النازحين الهاربين من القصف. آخر الضربات الموجهة لبيروت كانت الخميس 9 أكتوبر الجاري بمحاولة اغتيال لمنسق الاتصالات السياسية لحزب الله وفيق صفا في حى البسطة حيث أسفر الهجوم عن انهيار عقار كامل ومقتل 22 مدنياً وإصابة 100 آخرين مع أنباء عن نجاة صفا نفسه[6].
منذ اغتيال نصرالله وتوسيع القصف الجوي على الضاحية، توقف حزب الله عن نعي قادته ومقاتليه، وهذا يناقض أسلوبه منذ عام ولكن يتطابق مع أسلوبه خلال حرب عام 2006، حيث سكت عن الاعتراف بخسائره حتى إعلان وقف إطلاق النار. وبالتالي لم يعد من الممكن التحقق من مدى نجاح الاغتيالات في صفوف قيادته ولكن أدائه في الميدان يعكس أن المواقع القيادية قد تم ملأها كما سبق وأكد نائب الأمين العام نعيم قاسم في خطابه الأول. من جهة ثانية، بثت إسرائيل صوراً وتصريحات لثلاثة عناصر ادعت أنها أسرتهم من قوة الرضوان دون أن تحدد بدقة مكان تمركزهم، بينما لم يعلق حزب الله على عملية الأسر المزعومة، وهو أمر من الصعب التحقق من صحة حدوثه في الوقت الراهن.
ولكن رغم استعادة المبادرة ميدانياً والتي أثبتها حزب الله خلال الأسبوعين الماضيين، تبدو الجبهة الداخلية اللبنانية بحاجة لترميم عاجل لوقف محاولات بث الفتنة بين حزب الله واللبنانيين عموماً. وقد أُعيد ترتيب صفوف المعارضة من خصوم حزب الله عبر لقاء عقده سمير جعجع زعيم حزب القوات اللبنانية وجمع فيه المعارضة المسيحية التي تطالب بحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية وبانتخاب فوري لرئيس يتعهد بنزع سلاح حزب الله[7]. ورغم أن هذه هي المطالب المعتادة لخصوم حزب الله منذ تشكيل قوى 14 آذار في 2005، ولكن إعادة إطلاقها في هذا التوقيت ومن خلال رموز مسيحية حصراً يجعل التماسك الأهلي اللبناني على المحك. فقسم من خصوم حزب الله من الطوائف الأخرى كالسُنة والدروز توقف عن المطالبة بسحب سلاحه منذ بداية الحرب كي لا يتفق في خياراته السياسية مع إسرائيل بالتزامن مع عدوانها العنيف على لبنان.
فيما يتولى رئيس مجلس النواب نبيه بري البحث مع الحلفاء لاختيار مرشح توافقي لانتخابه رئيساً للبنان، ولكن الاتصالات مع الخصوم المسيحيين البارزين مثل القوات والكتائب اللبنانية لا تبدو متاحة في الأفق. إذ يشدد أغلب القيادات السياسية اللبنانية على تطبيق القرار 1701 لوقف إطلاق النار الفوري على جبهة لبنان وإعادة نشر الجيش اللبناني مع قوات اليونيفل في الجنوب، بينما يُذّكر خصوم حزب الله بالقرار 1559 الذي صدر في 2004 لنزع سلاح حزب الله قبل اغتيال رفيق الحريري. ولكن المشهد السياسي اللبناني اليوم ليس مطابقاً لما كان عليه الحال في ثورة الأرز عام 2005، فثورة أخرى قامت بلبنان في 2019 وكانت ضد رموز الطبقة الحاكمة التي اعتبرت جميعها فاسدة ومرسخة للحكم الطائفي. وقسم مهم من هذه القوى التي برزت في 2019 منخرط اليوم في دعم النازحين لترميم الجبهة الداخلية في مختلف المناطق ذات التكوينات الطائفية المتعددة.
ويبدو مستبعداً حتى الآن أن تسود دعاية خصوم حزب الله الذين يريدون محاسبته بشكل فوري داخلياً بالتزامن مع عدوان إسرائيل على لبنان من الخارج. ولكن يبرز تحدى مدى نجاح حزب الله في مد جسور التواصل مع التكوينات السياسية والاجتماعية الأخرى التي تشترك معه مرحلياً في هدف مقاومة العدوان الإسرائيلي كي يوسع من القاعدة الداعمة له على المدى الطويل، وهو أمر في غاية الصعوبة، خاصة أن حزب الله نفسه قد ساهم في إجهاض ثورة 2019 ثم عطّل على مدار عامين انتخاب رئيس جديد للبلاد كي يضمن أن يكون متوافقاً مع رؤيته لمواجهة إسرائيل. واليوم يبحث التنازل عن مرشحه المفضل ليكون المرشح توافقياً يبني له قاعدة دعم في أوساط لبنانية أوسع من حاضنته الشعبية المباشرة. بينما يتعاون حلفاء حزب الله على الأرض مع نشطاء مستقلين لاستضافة النازحين ووقف أي نزاع أهلي بشأن هذا النزوح إلى المناطق اللبنانية المختلفة.
في النهاية، يدرك حزب الله جيداً أن تحقيق مفاجآت في الميدان العسكري ليس كافياً إذا لم يتزامن مع توسيع للأوساط الداعمة له في المجتمع اللبناني ولكن سبل تحقيق ذلك تبقى صعبة في ظل ارتفاع الخسائر البشرية والمادية للعدوان الإسرائيلي.