د. خالد حنفي علي

باحث مصري، مؤسسة الأهرام

 

حاول الكاتب والروائي الهندي بانكاج ميشرا تحليل اضطرابات السياسة العالمية في كتابه "عصر الغضب.. تاريخ الحاضر" الذي صدر عام 2017[1]، من خلال الربط بين أحداث مختلفة السياقات والدوافع، لكنها عبرت عن تنامي مشاعر الغضب في العالم مثل: إرهاب تنظيم "داعش" في الشرق الأوسط، صعود ترامب في السياسة الأمريكية، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست). وعزا ذلك إلى أن الحداثة وانتشار العولمة والبحث القاسي للرأسمالية عن الربح أدت إلى اتساع التفاوتات والحرمان داخل المجتمعات، وإضعاف سلطة الدول وشرعيتها مما أفسح الطريق أمام صعود الأصوليات الدينية والقومية المتطرفة.

 لم يهدأ الغضب العالمي بعد تلك السنوات، بل تأجج وعبر عن نفسه في مظاهر أكثر حدة، كالغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، وهجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 ثم رد الأخيرة بحرب إبادة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والتي توسعت لتشمل دولاً أخرى في الشرق الأوسط المأزوم بالأساس بصراعات أهلية وتدخلات خارجية، والصعود السياسي لأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وعودة ترامب ثانية لترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر عام 2024، إضافة إلى تنامي الاحتجاجات الشعبية في العالم، حيث زادت بنسبة 244 بالمائة خلال العقد الأخير، وفقاً لمؤشر السلام العالمي[2].

في كل هذه الأحداث، مثلت مشاعر الغضب سواء للأفراد أو الجماعات أو الدول أحد محفزات تشكيل التفاعلات السياسية داخل الدول أو فيما بينها، لكن ذلك العامل العاطفي تعرض للإهمال لصالح التركيز أكثر على مظاهره الملموسة، كالحروب والثورات والاحتجاجات والإرهاب وغيرها. يرجع ذلك إلى هيمنة منطق عقلاني على التحليلات السياسية يستند على حسابات المصالح والقوة والاختيار الرشيد، فضلاً عن حالة التعقيد التي تنطوي عليها تحليل مشاعر الغضب كونها ردود فعل ذاتية وفسيولوجية وإدراكية تتسم بالتقلب والغموض والتداخل مع مشاعر سلبية أخرى، كالخوف والإحباط والعجز والإهانة وغيرها.

مع صعود الاتجاهات النقدية، نالت المشاعر والعواطف أهمية في الحقل السياسي على أساس افتراض مفاده أن العاطفة والعقل لا ينفصلان في عمليات صنع القرار[3]. فالسياسة يصنعها ويتأثر بمخرجاتها بشر تحركهم مشاعر تُضفي معنى إنسانياً على أفكارهم وتصرفاتهم. صحيح مثلاً أن هنالك حسابات عقلانية تكمن خلف الغزو الروسي لأوكرانيا لكن لا يمكن فصلها عن مشاعر الغضب لدى القيادة السياسية (بوتين) والمجتمع، جراء إهانة روسيا على يد الغرب إما بسبب إرث تفكك الاتحاد السوفيتي السابق أو تمدد حلف الناتو في النطاق الجغرافي الحيوي لروسيا.

قد تخلق أيضاً المشاعر عندما تنتقل من بعدها الفردي الذاتي إلى الجماعي بنى قيمية وثقافية واجتماعية تؤثر في التفاعلات السياسية. فما كان للدولة القومية أن تتبلور فقط بفعل صلح وستفاليا وممارسة وظائفها العامة إزاء شعب في نطاق جغرافي معين، وإنما أيضاً لنشوء مشاعر جماعية بفعل عمليات التخيل والإدراك المشترك للفكرة القومية ورموزها، على نحو طرحه بندكت أندرسن في كتابه "المجتمعات المتخيلة". تلك المشاعر الجماعية المشتركة التي تترابط مع الانتماء والهوية قد تلعب دوراً ضاغطاً أو مسانداً لسياسات الدول، حيث قد يجري استثارة غضب الجمهور وطاقته الانفعالية في أوقات الحروب والصراعات والثورات.

بالتالي، ليس ممكناً تجاهل أثر المشاعر والعواطف ومنها الغضب، في فهم ما يجري في السياسة، إنما تحديد وزنها النسبي وأثرها في الحسابات العقلانية للفاعلين السياسيين. لذلك، برزت أساليب عدة  لتحديد الأثر السياسي للعامل العاطفي، كاستطلاع رأي الجمهور عن مشاعره بعد الأحداث السياسية مثل مؤشر مركز جالوب العالمي للمشاعر والعواطف[4]، أو الاستقراء الكمي والكيفي لسرديات القادة والحكومات أو تحليل تعليقات وتدوينات الجمهور على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن يظل السؤال المطروح: كيف تؤثر مشاعر الغضب في ديناميات تشكيل الظواهر السياسية سواء داخل الدول والمجتمعات أو العلاقة فيما بينها؟. تستدعي الإجابة محاولة تفكيك مفهوم الغضب السياسي وأنماطه، ومراحل انتقاله من الشعور إلى السلوك، فضلاً عن الجدالات والإشكاليات المرتبطة به. تكمن أهمية تلك المحاولة في أن الغضب من المشاعر النشطة والهجومية في المجال السياسي مقارنة بالخوف أو الحزن أو الإحباط، حيث قد يقترن بإجراءات انتقامية وعقابية لإزالة مسبباته، كما قد يخلق قوة حشد وتعبئة سياسية تقود إلى صراعات مدمرة أو تغيرات بناءة([5].

الغضب السياسي.. مضامين وأنماط متعددة

يرتبط شعور الغضب بالسخط والحنق والتمرد والهياج وغيرها، وتتداخل تلك المعاني مٍع مجالات عديدة نفسية واجتماعية وثقافية وسياسية، لكن ثمة اتفاقاً عاماً في النظر للغضب على أنه رد فعل للمرء تجاه حدث ما يشكل تهديداً أو عائقاً أمام تحقيق الأهداف أو التوقعات. يرجع رد الفعل ذلك إلى تصور المرء أن العائق المسبب للغضب "غير عادل"، وأنه يستحق أكثر مما يحصل عليه، ومن ثم ينظر للتعبير عن شعوره بالغضب على أنه دفع للضرر أو الأذى أو فرصة للحصول على الأفضل. وبينما تتراوح درجات الغضب بين الانزعاج الخفيف والغضب الشديد، فإنه يتضمن ثلاثة مكونات أساسية: فسيولوجية (أي يصدر الغضب نتاج تفاعل بين المشاعر والجسد)، معرفية (الغضب يجعل المرء يدرك طبيعة وضعه ويقارنه بما يتطلع له أو بالآخرين)، سلوكية (قد ينطوي الغضب على رغبة في تحويل الشعور إلى سلوك انتقامي أو عقابي لمجابهة التهديد)[6].

إلا أن الغضب، كاستجابة شعورية مضادة لعائق مطروح في الحاضر قد يختلف نسبياً عن الاستياء الذي يعكس مرارات عميقة ومتراكمة تستمر من الماضي إلى الحاضر، لكن تلك المرارات قد تتحول إلى بيئة حاضنة تعمل على نشر العدوى العاطفية للغضب وتحوله إلى شعور جماعي. يختلف أيضاً الغضب كشعور عن العدوان كسلوك عنيف لفظي أو مادي ضد الآخر، لكن الأول قد ينتقل للثاني إذا تم تنفيذ الانتقام من مسببات الغضب، بينما في أحيان أخرى تظل مشاعر الغضب متجمدة، دون التعبير عنها في خطابات أو سلوكيات بفعل الخوف من عواقب الأفعال. هنا، تفرق الأدبيات بين غضب سلبي يستهدف التدمير للآخر، وغضب إيجابي يدافع عن النفس والقيم والحقوق دون الجور على حقوق الآخرين، وغضب كامن تحت السطح قد يتحين الفرصة للخروج إلى العلن [7].

في المجال السياسي، تظهر مشاعر الغضب كاستجابة من أفراد أو جماعات أم دول على سياقات غير عادلة تخص عمليات توزيع السلطة والثروة والهوية. وبينما يحكم الغضب الفردي عوامل فسيولوجية وسمات نفسية وشخصية وسياقية معقدة، لذا بدا التركيز في الأدبيات أكثر على التعامل مع ثلاثة أنماط أساسية من الغضب أكثر تأثيراً في التفاعلات السياسية، وهي الجماعية والنخبوية والإلكترونية، ويمكن توضيحها على النحو الآتي:

أولاً: الغضب الجماعي

يعبر هذا النمط عن استجابة مشتركة لمجموعة من الناس رداً على ظلم متصور، أي ظلم يعتقدون أنه واقع عليهم (حتى لو لم يرى الآخرون ذلك)، بفعل عدم استجابة سياسات السلطة لتفضيلاتهم أو توقعاتهم بالاستحقاق. من ثم، يصبح التعبير عن الغضب سواء في خطابات أو سلوكيات مدخلاً لإصلاح تلك الأوضاع الظالمة. لكن الغضب الجماعي ليس حاصل جمع غضب كل فرد على حدا، إنما ينتج بفعل التشارك المجتمعي في الانتماء الهوياتي والقيمي والثقافي والخضوع لظروف سياسية واقتصادية واجتماعية متقاربة. ويخلق هذا التشارك وعياً جماعياً بقيم ومعتقدات وأفكار ومعايير معينة تشكل البيئة العامة التي تنتقل فيها عدوى الغضب بين الأفراد[8].

 هنا، يرى جوستاف لوبون أن العواطف الجماعية الغاضبة بدائية وتفتقد للعقلانية وقد تتحول إلى عنف وتطرف، لاسيما أن انتشار عدواها في المجتمعات يستند على التقليد والتحريض من قبل القادة السياسين الذين يستثيرون مشاعر الجمهور بالشعارات والخطب الحماسية والعاطفية وليس الحجج والبراهين، خاصة أن الفرد- برغم كونه واعياً– إلا أنه عندما ينصهر في روح الجمهور تتغير شخصيته وتسيطر عليه ذهنية جماعية لا واعية[9].

تعرضت وجهة نظر لوبون لانتقادات حادة، لكونه حصر الوعي والعقلانية في الفرد دون الجماعة، حيث رأت أدبيات اشتراكية أن الغضب الجماعي له بعد عقلاني ومعرفي وينطوي على نوع من الوعي، لأنه يحفز المقهورين على إدراك طبيعة أوضاعهم للخروج من أسر الاستغلال والهيمنة التي فرضتها نخب وطبقات حاكمة ورأسمالية، فضلاً عن أنه علامة على حيوية المجتمعات وعدم موتها رمزياً، بل وقدرتها على تغيير أوضاعها للأفضل. تجلت تلك النظرة في مجتمعات حولت غضبها الجماعي إلى حروب للتحرير الوطني ضد الاستعمار الغربي في أفريقيا وأمريكا اللاتينية أو نضال الأقليات السوداء ضد العنصرية في الولايات المتحدة [10].

قد يختلف الغضب الجماعي من حيث دوافعه ومظاهره من مجتمع إلى آخر، لكنه في لحظة تاريخية معينة قد يصبح متزامناً في عدة دول تعبيراً عن اضطرابات السياسة العالمية وتداعياتها على المجتمعات. في العام 1968، برزت احتجاجات في الولايات المتحدة وأوروبا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، وعبرت عن قضايا مختلفة، كالمطالبات بالحقوق المدنية ورفض العنصرية وقمع الأنظمة العسكرية، ومعارضة الحروب، خاصة تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام آنذاك. ومع انتشار العولمة وثورة الاتصالات والتكنولوجيا، تبلور الغضب الجماعي العابر للحدود ليعكس تشابه الظروف السياسية والاقتصادية لدول في إقليم معين مثل الثورات العربية في 2011 أو قضايا عالمية مشتركة كاحتجاجات حركة احتلوا وول ستريت في العديد من الدول ضد هيمنة الرأسمالية والشركات الكبرى، أو المظاهرات العالمية المنددة بجرائم إسرائيل والمطالبة بوقف حرب غزة الأخيرة.

ثانياً: الغضب النخبوي

يرتبط هذا النمط بقادة الجماعات العرقية والقبلية والحزبية أو الحكومات حال مواجهة تهديدات تعترض أهدافهم وتوقعاتهم. وهو نمط يدحض الفكرة الشائعة بأن الغضب مقصور على الجماهير أو أنه لا يرتبط أحياناً بحسابات عقلانية ونفعية في المجال السياسي. من الممكن أن يصبح الغضب النخبوي جزءاً من السمات الشخصية والنفسية للقادة والنخب السياسية لكنه قد يكون مدروساً أو ما يسميه البعض "تسليح الغضب"، أي استخدامه لأغراض سياسية مثل: حشد الجمهور للمشاركة في الصراعات أو الاحتجاجات أو الانتخابات أو شرعنة سياسات الحكومات لمواجهة تهديدات دول أخرى[11].

تاريخياً، برز قادة وظفوا الغضب سياسياً، كهتلر الذي عمل عبر خطاباته على استثارة مشاعر الغضب لدى المجتمع الألماني، من خلال إشعاره بأنه تعرض للإذلال الوطني بسبب الإملاءات التعسفية لمعاهدة فرساي التي أسدلت الستار على الحرب العالمية الأولى، كما استخدم المشاعر الجماعية الغاضبة لشرعنة توسعاته في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، من خلال توظيف فكرة "الاستثنائية" في الفكر النازي لمواجهة المجتمعات الأخرى التي تعيق طموحاته. أما حديثاً، فيتم تسليح الغضب من قبل قادة مثل ترامب ونتنياهو، وزعماء الجماعات الإرهابية وغيرهم. فمثلاً، تُظهر 11 ألف تغريدة لترامب على موقع إكس (تويتر سابقاً) أن أكثر من نصفها كان هجمات غاضبة على الآخرين [12]، وهو يستهدف من وراء ذلك إثارة مشاعر مناصريه لتكثيف مشاركتهم الانتخابية أو التطوع أو التبرع بالمال.

تعتمد دينامية توظيف القادة السياسيين للغضب على تسرب مشاعرهم ومفرداتهم ووجهات نظرهم وسلوكياتهم في وصم الخصوم وإهاناتهم إلى الجمهور المتلقي، لكن ذلك يخضع لشرط جوهري يتعلق بمدى التقارب السياسي أو الهوياتي أو الحزبي أو العرقي بين أولئك القادة وأنصارهم، فالعدوى العاطفية، كإحدى النظريات المفسرة لانتشار الغضب، قد تكون أكثر قابلية للانتقال حال وجود خلفيات مشتركة بين مصدر خطاب الغضب ومتلقيه. بالتالي، قد لا تتخطى عدوى الغضب لخطابات القادة الحدود الحزبية أو العرقية لأنصارهم، أي لا تستطيع التأثير على مجموعات أخرى متنافسة لا تؤمن بأفكارهم أو معتقداتهم أو رؤيتهم للعالم [13].

لذلك، يكرس الغضب النخبوي حالة الاستقطاب السياسي في الدول والمجتمعات المنقسمة ليتماهى مع خطوط الانقسام الحزبي والاجتماعي والعرقي، وهو نمط برز في مناطق الصراعات المسلحة في الشرق الأوسط وأفريقيا. فتلك الصراعات، وإن عبرت إجمالاً عن غضب جماعي على السياسات غير العادلة للأنظمة السياسية، لكنها تحولت بفعل توظيفات النخب المتنازعة إلى حالة من الغضب المتشظي والمتضاد، يسعى فيه كل طرف إلى حشد الأنصار الغاضبين لتبرير عمليات العدوان والاستهداف المتبادل.

ثالثاً: الغضب الإلكتروني

ارتبط هذا النمط بانتشار أدوات ثورة الاتصالات والتكنولوجيا، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي التي بدت كأداة ووعاء يتشكل فيه الغضب الجماعي والنخبوي، حيث يتم التعبير عنه من خلال بيانات أو تدوينات أو تعليقات أو رموز أو صور أو فيديوهات وغيرها. قد يكون الغضب الإلكتروني استجابة تلقائية نتاج مثيرات معيقة أو مدروسة، أي تستخدمه مجموعات منظمة لأهداف سياسية أو تسعى لتخليقه أو بناء تشبيك بين الغاضبين، وحفزهم على الحشد في الواقع كتجارب استخدام الاحتجاج الجماعي للفضاء الإلكتروني في الشرق الأوسط أو أفريقيا خلال العقد الأخير. ويتحول هذا الغضب إلى سلوكيات عدوانية من خلال السباب والشتائم والسخرية واختراق الحسابات من قبل القراصنة وغيرها.

تشير بعض الدراسات في هذا المجال[14] إلى أن مشاعر الغضب أسرع انتشاراً وأكثر مشاركة بين المستخدمين على الإنترنت من مشاعر سلبية أخرى كالاشمئزاز والحزن وغيرها. يرجع ذلك إلى طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي من حيث إمكانية تزييف الهويات الشخصية، بما قد يخفض عواقب التعبير عن الغضب، كما قد لا تتضمن التفاعلات الإلكترونية مواجهات شخصية مباشرة بين الغاضبين ومن يلومونهم، ناهيك عن أن آلية الخوارزميات التي تلتقط نمط اهتمامات المستخدمين في الفضاء الإلكتروني ثم تعمل على تعريضهم أكثر لمواد تنسجم مع اختياراتهم وبالتالي تزيد من حالتهم الشعورية الغاضبة.

لكن هنالك تحديات تجابه تقييم المشاعر الغاضبة في الفضاء الإلكتروني، كصعوبات الحكم على النية العاطفية للمستخدمين بسبب طرق التعبير الساخرة والمراوغة للمفردات والرموز التي تحتمل تأويلات متعددة، فضلاً عن نشوء جماعات الكترونية تعمل على نشر المعلومات المزيفة والشائعات لخلق مزاج عام غاضب عن عمد أو توسيع شرارات الغضب وتضخيمها.

لجأ أيضاً العديد من القادة والنخب السياسية إلى الفضاء الإلكتروني لتوظيف مشاعر الغضب. على سبيل المثال، يكثف وزير الداخلية الإيطالي السابق ماتيو سالفيني وأحد قادة اليمين المتطرف من منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي لجلب الدعم السياسي من مجموعات يمينية متطرفة، حيث استهدفت تلك المنشورات المجموعات المهمشة في المجتمع مثل، المهاجرين واللاجئين والنساء وغيرهم، وهو ما اعتبره البعض يعزز من دينامية بناء التضامن الداخلي بين المجموعات اليمينية المتطرفة، لكنه في الوقت نفسه ينشر حالة الكراهية العامة خاصة ضد المهمشين [15].

دورة انتقال الغضب من المشاعر إلى السلوكيات

تمر ظاهرة الغضب السياسي بمجموعة مراحل قد تنقلها من حالتها الشعورية إلى السلوكية، ومن ثم تظهر تأثيراتها في ديناميات تشكيل الظواهر السياسية، وهو ما يمكن توضيحه كالآتي [16].

أولاً: الحدث المثير للغضب

أي الواقعة التي تستثير مشاعر الغضب لجماعة أو قادة أو نخبة أو حكومة، وتحفزهم على إدراك ومعرفة طبيعة أوضاعهم. وكلما كان ذلك المثير له أثر حاد من حيث مستوى التهديد، زادت فرص نشوب الغضب الجماعي أو استغلاله من القادة السياسيين أو حتى انتشاره الكترونياً. قد يرتبط مثير الغضب بقرارات وسياسات حكومية تعتبرها المجتمعات غير عادلة ومن ثم تستفز مشاعرها للخروج عليها مثل: قرار حكومة بنجلاديش في يوليو 2024 بإعادة العمل بحصص التوظيف في القطاع العام، حيث أجج مشاعر الطلاب وحفزهم على الخروج للشارع في احتجاجات عنيفة انتهت بسقوط نظام الشيخة حسينة. أيضاً، أحدث مشروع قانون في كينيا في يونيو 2024 بزيادة الضرائب تظاهرات عنيفة في هذا البلد، حتى سحب الرئيس ويليام روتو ذلك المشروع وأعلن أنه لن يوقعه[17].

في الحالتين، أثار الحدث مشاعر الغضب الجماعي رداً على سياقات غير عادلة، وتم توظيفه على وسائل التواصل الاجتماعي للتعبئة السياسية للاحتجاجات التي ضمت شرائح واسعة من الشباب الغاضبين من سياسات الحكومتين. لكن مثير الغضب ذاته لم يكتسب زخم الاحتجاج الجماعي، إلا في ظل تراكم سياقات الاستياء في البلدين بسبب انتشار الفساد والبطالة وأزمات الديون وتراجع الأوضاع المعيشية والتراجع عن الوعود السياسية.

في سياق آخر، قد يصبح المثير للغضب مهدداً حاداً لأمن الدول. ففي أعقاب هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، أشار استطلاع لمركز جالوب العالمي أجرى بعد أسبوعين من الهجوم إلى أن أغلبية الاسرائيليين عانوا القلق (67%)، والتوتر (62%)، والحزن (51%)، وأن واحداً من كل ثلاثة قالوا أنهم عانوا من الكثير من الغضب (36%) [18]. تفسر تلك البيئة العاطفية السلبية نظرة إسرائيل لهجوم حماس كـ"مهدد وجودي" أحدث انكشافاً لأمن المجتمع ولقوة ردعها في المنطقة. تعززت تلك النظرة أكثر في ظل حكومة يمينية متطرفة بزعامة بنيامين نتنياهو، وبالتالي بدا رد الفعل الإسرائيلي غاضباً إلى حد التوحش، كما برز في ممارسة جرائم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة.

مع ذلك، قد يكون مثير الغضب أقل حدة على مستوى التهديد، أي يدخل ضمن المنافسات الاعتيادية بين الدول، ومن ثم يصبح رد الفعل الغاضب منضبطاً، أي يتم إظهار مشاعر الغضب كجزء من الرسائل الدبلوماسية في السياسات الخارجية للدول. فمثلاً، عبرت فرنسا عن غضبها من إلغاء استراليا صفقة الغواصات لصالح الولايات المتحدة في عام 2021، عبر سحب سفيريها من واشنطن وكانبيرا [19].

ثانياً: تحديد الطرف المُلام

أي أن الشعور الغاضب من حدث ما يعقبه عادة تحديد الطرف الذي سيتم إلقاء اللوم عليه (أشخاص، سياسات، مؤسسات، جماعات، دول). في حالة الاحتجاجات الشعبية، يتم توجيه اللوم إلى القادة أو النظام السياسي ( مثل، الشيخة حسينة في احتجاجات بنجلايش). أما في حالة التهديد للدول، فيصبح المُلام دولة أخرى أو جماعة أو زعماء مناوئون (مثل إيران وحلفائها في المنطقة بالنسبة لإسرائيل). يتحول الطرف المُلام إلى عدو متصور للغاضبين بفعل سرديات للنخب السياسية تحمله المسئولية عن المشكلة المتسببة في الغضب، ومن ثم، تنشأ ثنائية العدو والصديق في التفاعلات السياسية، وفقاً لمنطق كارل شميت، والتي تحفز الجمهور على الانخراط السياسي أو الحشد في الاحتجاجات أو الصراعات وغيرها.

من دون تحديد الطرف المُلام أو العدو المتصور قد تحدث حالة من الإرباك تحد من تحويل مشاعر الغضب إلى قوة تعبئة سياسية. فقد درست جافلين [20] مثلاً سلوكيات المحتجين خلال تظاهرات جرت في روسيا بسبب متأخرات الأجور، حيث أشارت إلى أن المشاركين في تلك التظاهرات كانوا يعلمون تحديداً من سيوجه له اللوم، بينما على العكس عندما سألت غير المشاركين كانوا مرتبكين، ولا يعرفون الطرف المُلام.

ويلعب عادة القادة والنخب والحكومات دوراً أساسياً ليس فقط في إشعار المجتمع بالخطر لحفز مشاعره الغاضبة، وإنما تحديد الطرف المسبب لغضبهم، ومن ثم يبررون ما يقومون به من إجراءات وسياسات لمواجهة هذا العدو. على سبيل المثال، تركز خطابات ترامب في الولايات المتحدة أو قادة اليمين الشعبوي في أوروبا على أن المشكلات الداخلية في بلدانهم تعود إلى تدفقات المهاجرين، بالتالي يحولون غضب الجمهور إلى تلك الفئة، بما يسهم في تهيئة البيئة العامة لاتخاذ سياسات تقييدية للجوء أو الهجرة. انعكس ذلك مثلاً في اتخاذ ترامب في يناير عام 2017 إثر دخوله البيت الأبيض قراراً بوقف دخول اللاجئين ومنع دخول مواطني سبع دول إسلامية إلى الولايات المتحدة.

ثالثاً: خلق التحيزات الداخلية

مع تحديد المثير للغضب والعدو المتصور، ينشأ نوع من التحيز الداخلي في أوساط جماعة ما ضد الطرف المسبب للغضب الذي يعيق تطلعاتهم، وبالتالي، يسهل إحداث التضامن وتعبئة المشاعر الجماعية التي تمثل مصدراً للدعم السياسي للقادة والحكومات في الأزمات والصراعات. على سبيل المثال، مع تحول هجوم حماس إلى مثير للغضب للحكومة والمجتمع الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر 2023، نشأت مشاعر جماعية إسرائيلية متحيزة وداعمة نسبياً للإجراءات الإسرائيلية التصعيدية ضد الفلسطينيين سواء لاستعادة الرهائن أو تدمير قدرات حماس العسكرية. يُظهر هنا استطلاع لمركز بيو للأبحاث أجري بين مارس وإبريل 2024، أن 39% من الإسرائيليين يقولون إن الرد العسكري الإسرائيلي ضد حماس في غزة كان صحيحاً، بينما يقول 34% إنه لم يذهب بعيداً بما فيه الكفاية، بينما اعتقد 19% إنه ذهب بعيد جداً[21].

 يتعزز أكثر التحيز والتضامن الداخلي لجماعة ما ضد مصدر تهديد يثير غضبها إذا كان هنالك سياق أيديولوجي يحمل أفكاراً وخطابات قومية في بعض الدول والمجتمعات، كما حال خطابات بعض قادة اليمين المتطرف في أوروبا، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي يستثير غضب مجتمعه ضد المهاجرين، حيث قال في إحدى تصريحاته: "لا نريد أن نكون عرقاً مختلطاً قد يمتزج بغير الأوربيين"[22].

تلك النوعية من الأفكار المتطرفة التي تعزز التضامن الغاضب قد تنعكس على نمط السلوكيات الاحتجاجية، فقد لاحظت دراسة على 2809 احتجاج بين عامي 2006 و2020 في 101 دولة تغطي أكثر من 93% من سكان العالم، أن هنالك انتقالاً في ظاهرة الاحتجاجات العالمية من تيار اليسار إلى اليمين المتطرف، والأهم من المطالبة بالحقوق للمشاركين فيها إلى الدعوة لإنكار حقوق الآخرين داخل المجتمعات[23].

رابعاً: التحول للإجراءات العقابية

يتحول الغضب في تلك المرحلة من المشاعر والخطابات إلى إجراءات وسلوكيات انتقامية وعقابية تجاه مصدر التهديد أو العدو المتصور، مستنداً إلى قوة التحيز والتضامن الداخلي، وهو يستهدف ثلاثة أمور أساسية: إما إلحاق الضرر بالطرف المتسبب في الغضب، أو إضعاف الوضع العام الذي حفز ذلك الطرف على الإتيان بالمثير الغاضب، أو اتخاذ تدابير تمنع تكرار الأفعال التي تثير الغضب. تتحقق تلك الأهداف عبر أدوات عنيفة كممارسة العنف أو الإرهاب، أو سلمية كالاحتجاجات أو المشاركة الكثيفة في الانتخابات لصالح مرشح دون آخر (التصويت العقابي).

إلا أن انتقال غضب الفاعلين السياسيين من الشعور إلى السلوك العقابي يتطلب عوامل وسيطة في البيئات السياسية، كالموارد المتاحة، الحوافز العقلانية، الخيارات الاستراتيجية، العوامل الثقافية، بنية الفرص السياسية وغيرها[24]. فالانخراط الكثيف للناخبين في الانتخابات لمعاقبة مرشح أثار غضبهم بسبب سياساته، يستلزم موارد حزبية للحشد وآليات نزاهة وثقة في نظام التصويت. كذلك، فإن تحويل الغضب إلى ممارسة إرهابية عنيفة يتطلب خطاباً أيديولوجياً وتجنيداً للأنصار وموارد مالية وتسليحية وغيرها. ويسرى هذا المنطق على الدول والمجتمعات إذا حولت مشاعرها الغاضبة إلى سلوكيات لمجابهة التهديدات.

واذا غابت العوامل الوسيطة، فقد لا يتم التعبير عن الغضب في سلوكيات عقابية أو يتم التعبير عنها مع إهمال الحسابات العقلانية لصالح الشعور بالرضا النفسي للغاضبين لمجرد إحداث الانتقام أو الضرر بالاخرين ومن ثم لا يتم حل مشكلة الغضب بل وقد ينتج غضباً مضاداً للطرف المستهدف بالعقاب [25]. على سبيل المثال، أسقط الغزو الأمريكي نظامي أفغانستان والعراق بعد أحداث 11 سبتمبر كجزء من تحويل الشعور بالغضب إلى إجراءات انتقامية، لكنه لم يستطع حل المشكلات الهيكلية السياسية والاقتصادية في البلدين التي تنتج مصادر التهديد، مما حفز على بروز غضب مضاد تجلى في تنظيمات إرهابية قاعدية وداعشية في العراق، وعودة حركة طالبان في أفغانستان ثانية للسلطة بعد عقدين من سقوطها.

خامساً: التعامل مع مشكلة الغضب

 قد يتم التعامل مع الغضب السياسي إما عبر القمع (أي جعل التعبير عن الغضب لفظياً وسلوكياً أكثر كلفة للأفراد أو الجماعات أو الدول)، والترويض (تبريد الغضب عبر تشتيت الانتباه لمحفزات أخرى)، والتنفيس (السماح للغضب بالتعبير عن نفسه لتفريغ الانفعال دون حل المشكلة) أو الاستيعاب ( فهم مسببات الغضب وتبديدها عبر حل المشكلة المتسببة فيه). إلا أن انتهاج أى من تلك الأساليب يتحدد وفقاً لعوامل داخلية وخارجية منها، طبيعة الأنظمة السياسية ومدى ديمقراطيتها وحجم الأزمات المسببة للغضب والسياقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتوازنات القوى إذا كان الغضب متعلقاً بالعلاقات بين الدول.

 قد تُخمد أساليب القمع والترويض والتنفيس ظاهرة الغضب لفترة زمنية قصيرة أو طويلة، لكنها قد تخلف ورائها مخزوناً من الغضب الكامن والممتد القابل للانفجار ما لم يتم حل المشكلة المسببة للغضب. لهذا السبب، يتم التعامل مع الغضب بطريقة هيكلية لتبديده أو استبداله بمشاعر أخرى تعاطفية أو تضامنية، في مجال حل وتسوية الصراعات.

وعرفت مراحل ما بعد توقف الصراعات الأهلية في عدة دول في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، آليات مثل الحقيقة والمصالحة كأسلوب لتبديد الغضب. تتضمن تلك الآليات العقاب والتعويض (يعيدان التوازن النفسي بين الجاني والضحية الغاضبة بعد العنف)، الحقيقة (معرفة ما جرى وتحديد مدى مسئولية الجناة لأن ذلك يقتل الرغبة في الانتقام)، الاعتذار (يظهر إنسانية الجاني ويزيل صورة النمطية كعدو متصور ومن ثم يحجم الغضب ويعزز السلام). أما العفو فهو من أكثر الآليات جدالاً في التعامل مع الغضب بعد وقف الصراعات، لكونه قد يشكل أحياناً حلاً واقعياً للمضي في مسار السلام، لكن إفلات الجناة بجرائمهم قد يُبقي الغضب كامناً بما يهدد بعودة العنف مجدداً [26].

دورة متصورة لمراحل الغضب السياسي


 المصدر: إعداد الباحث                  

تفسيرات الغضب من منظور "غياب العدالة"

نالت ظاهرة الغضب تفسيرات عديدة، ففيما تعزوها دراسات طبية إلى عوامل فسيولوجية جسدية كزيادة ضربات القلب وتدفق الدم الشديد، تنظر لها دراسات نفسية كشعور غريزي بالمنطق الفرويدي، فيما يركز علماء الاجتماع على الارتباط بين الغضب والسياقات القيمية والنظمية في المجتمعات[27]. أما الغضب السياسي، فمع ارتباطه بردود الفعل على مخرجات الفاعلين السياسيين، فقد تعددت تفسيراته داخل الدول (سياسات التسلط، التردي الاقتصادي، الانفصال الاجتماعي)، وفيما بينها (تعارض المصالح والسياسات، التهديدات الأمنية، الصراع على المكانة والنفوذ والهيمنة).

إلا أن غياب العدالة بدا المنظور الكلي المفسر للغضب السياسي الذي هو استجابة مضادة لسياقات من الظلم والاضطهاد والتهميش والإقصاء. وتستدعي فكرة العدالة كقيمة إنسانية معانٍ، كالإنصاف، عدم الانحياز، المساواة، التوازن، وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين وغيرها، وبالتالي، فهي تؤسس لمعايير أخلاقية وسياسية واجتماعية وقانونية وسياسات عملية. وعليه إن غابت العدالة كإطار حاكم للبيئات العامة، فإنها تحفز على الشعور بالغضب وتحويله إلى سلوكيات.

يظهر ذلك الغياب للعدالة، عندما لا تعترف جماعة أو سلطة بالحقوق السياسية لجماعات أخرى في المجتمع، ومن ثم تتأجج مشاعر الغضب لدى الأخيرة، حيث تعمل على حشد أنصارها عبر الصراعات أو العنف أو الانتخابات أو الثورات لانتزاع تلك الحقوق طوعاً أو كرهاً. هنا، يشير المنظر الألماني إكسل هونيث إلى أن ظاهرة الصراعات تنشأ بالأساس في المجتمعات المعاصرة من أجل نيل الاعتراف المتبادل والاحترام والتقدير[28].

يتمدد هذا الأمر إلى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذا تعرضت جماعات داخل المجتمعات للفقر أو التهميش أو الحرمان النسبي في توزيع الدخول والموارد أو الإقصاء الهوياتي والثقافي، بما يزيد معضلات التفاوت وعدم المساواة، والحرمان التي تمثل مناخاً مواتياً لحفز مشاعر الغضب. إذ تشير إحدى الدراسات [29] التي فحصت سلوكيات الاحتجاجات العالمية خلال العقدين الأخيرين إلى أنها تظهر أكثر في البلدان مع زيادة عدم المساواة والعكس صحيح. وتعزو ذلك إلى اختلالات العولمة وتداعيات السياسات الرأسمالية التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية على الدول والمجتمعات.

لذلك، تزداد مشاعر الغضب أكثر في دول الجنوب مقارنة بالشمال، بفعل تزايد مظاهر غياب العدالة كعدم المساواة والتفاوتات، ناهيك عن الأزمات السياسية والحروب والصراعات والفقر والكوارث البيئية وغيرها. ففي مؤشر جالوب للمشاعر والعواطف في العام 2022، كانت الدول الأكثر غضباً في العالم على التوالي هي: لبنان، تركيا، أرمينيا، العراق، أفغانستان، الأردن، مالي، سيراليون. بل إن المشاعر والعواطف السلبية ككل التي يرصدها ذلك المؤشر (التوتر، القلق، الألم الجسدي، الحزن، الغضب) تميل في نتائجها أكثر لمجموعة من الدول والمجتمعات في أفريقيا والشرق الأوسط مقارنة بأوروبا وأمريكا الشمالية [30]. وتتعمق معضلة الغضب لدى تلك الدول بفعل طبيعة هيكلها الديمغرافي الذي يغلب عليه شريحة الشباب، بما يجعلهم أكثر قابلية للمشاعر الغاضبة مقارنة بشرائح كبار السن، خاصة مع امتلاكهم طاقة انفعالية أكبر وتوقعاتهم مرتفعة (تمكين سياسي، وظائف، بناء أسر، وغيرها) [31].

من جانب آخر، تظهر غياب العدالة في السياسة العالمية، بفعل سياسات بعض القوى الكبرى التي تتسم بالازدواجية والانحياز وتوظيف اختلالات القوى المادية والمعنوية لتحقيق أهدافها ومصالحها على حساب الآخرين، مما يثير غضب الدول والمجتمعات الأخرى المتأثرة بتلك السياسات على نحو يظهر في الشعور الغاضب في المنطقة العربية إزاء الانحياز الأمريكي الكامل لإسرائيل في حرب غزة الأخيرة، وهو ما انعكس في نتائج استطلاع للرأي أجراه البارومتر العربي في أواخر 2023 ومطلع 2024 والتي تظهر تراجع مكانة الولايات المتحدة لدى المواطنين العرب، بل إن ما فقدته الولايات المتحدة من شعبية ربحته منافستها الصين في المنطقة، وفقاً لهذا الاستطلاع[32].

المعضلة أن السياقات العالمية غير العادلة تتضافر مع تداعيات انتشار العولمة لتنتج حالة من الغضب المتبادل بين تيارات دينية وقومية متطرفة تمهد الطريق لصعود سياسات الهوية الشرسة التي لا تتورع عن محو الآخر وإبادته أيديولوجياً، ناهيك عن عودة مفاهيم الاستثناء والنقاء العرقي والاعتقاد بأن جماعة ما تملك سمات فريدة، وفقاً لأرجون أبادوري [33]. يصبح هنا العنف والإرهاب والإبادة الجماعية كسلوكيات غاضبة هي وسائل لإعادة إنتاج هوية أكثر استقراراً ويقيناً ثقافياً كما الصراع بين الهوتو والتوتسي في رواندا خلال تسعينيات القرن العشرين، حيث رأت كل جماعة أن الأخرى تشكل خطراً وجودياً عليها، وبالتالي سعت لافتراسها. هذا المنطق قد ينسحب أيضاً على حالة التوحش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين بعد هجوم 7 أكتوبر 2023 ليس فقط من خلال ممارسة الإبادة الجماعية للأجساد وإنما أيضاً للهويات والرموز الثقافية في قطاع غزة.

إشكاليات التبرير والعواقب وضبط النفس

تثير ظاهرة الغضب السياسي داخل الدول والمجتمعات أو على مستوى السياسة العالمية إشكاليات جدلية عديدة [34]، منها، على سبيل المثال لا الحصر، هل الغضب مبرر أم لا؟ يقصد بالتبرير هنا مدى وجود دوافع حقيقية للغضب وليست متوهمة أو تم تخليقها عمداً لأغراض سياسية. يلي ذلك، هل الإجراءات العقابية تتناسب قوتها مع طبيعة المثير الغاضب أم تجاوزته وتحولت إلى قوة تدمير للآخر؟، والأهم هل تم تقدير عواقب تحويل الشعور بالغضب إلى سلوكيات، عبر تحديد كلفته وعوائده فيما يتعلق بحل المشكلة المسببة للغضب أم مفاقمتها؟.   

على سبيل المثال، أثار هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 جدالاً واسعاً. فالهجوم يعبر بالأساس عن "غضب مبرر" له دوافع ومقدمات حقيقية تتعلق بمقاومة قوة احتلال تنتهك حقوق الفلسطينيين وتمنع أي أمل في دولة فلسطينية مستقلة، وتسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر المضي في مسار تطبيع إقليمي دون تقديم أي تنازلات في عملية السلام. مع ذلك، يجادل آخرون بأنه لم يتم تقدير عواقب الهجوم، في ضوء اختلالات توازنات القوى مع إسرائيل أو طبيعة المواقف الدولية التي بدت إما داعمة أو متواطئة أو عاجزة سواء عن كبح تحول الغضب الإسرائيلي إلى إبادة للفلسطينيين في غزة أو تحويل إسرائيل غضبها لاحقاً ليس فقط لاستعادة قوة الردع، وإنما لتغيير توازنات القوى لصالحها عبر توسيع حربها في الإقليم. 

وبينما كان هذا الجدال خافتاً نسبياً في بداية حرب غزة، لكنه تصاعد مع طول أمدها لأكثر من عام وتزايد وطأة نتائجها الإنسانية، حيث قتل أكثر من واحد وأربعين ألف فلسطيني، وشرد أكثر من مليوني فلسطيني، ودمرت البنية التحتية للقطاع بالكامل. يُظهر هنا استطلاع للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أجري بين 3 و7 سبتمبر 2024 أنه على الرغم من أغلبية لا تزال ترى أن هجوم حماس كان قراراً صائباً، لكن نسب التأييد ذاتها تراجعت مقارنة بالأشهر الأولى للحرب، حيث اعتبر 54٪ من سكان الضفة وغزة أن الهجوم كان قرار صائباً مقارنة بـ67٪ في يونيو و71٪  في مارس من العام 2024[35]. مع ذلك، فإن أغلبية الفلسطينيين في هذا الاستطلاع تعتقد أن هجوم 7 أكتوبر 2023 وضع القضية الفلسطينية في بؤرة الاهتمام الدولي. بخلاف رؤى أخرى ترى أن إسرائيل تحولت إلى منبوذة أخلاقياً على المستوى العالمي، كما أنها لن تستطع القضاء على المقاومة الفلسطينية ما لم يتم حل مشكلة الغضب المتعلقة بإنهاء الاحتلال وبناء دولة فلسطينية مستقلة.   

من جانب آخر، قد يثير الغضب السياسي إشكالية في علاقته بتغذية العنف والإرهاب، لكون الغاضبين قد يكونون منغلقين معلوماتياً وأقل تقبلاً لحجج المنافسين، فضلاً عن انتشار الصور المبسطة والاختزالية في أذهانهم عن العدو المتصور الذي سبب الغضب برغم أن الأخير قد ينتج عن عوامل أكثر تركيباً، ناهيك عن أن جل اهتماماتهم قد تتركز على هزيمة هذا العدو لإرضاء البعد النفسي على حساب العواقب المترتبة على ذلك. مثلاً، تربط العديد من التحليلات الغربية بين الخطابات الغاضبة لترامب التي تحفل بوصم الخصوم وإهانتهم وتهيئة البيئة الأمريكية للعنف، حيث برزت جماعات يمينية متطرفة مثل الأولاد الفخورون Proud boys  التي تدعم توجهات ترامب، وقد أدين أعضاء من تلك الجماعة في اقتحام مبنى الكونجرس الأمريكي في يناير 2021 لمنع المصادقة على فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية وخسارة ترامب. بل إن محاولة اغتيال ترامب نفسه في يوليو 2024 بدت تعبيراً عن غضب مضاد لخطاباته المتطرفة في حملته الانتخابية للرئاسة الأمريكية التي تشهد استقطاباً داخلياً حاداً بين الجمهوريين والديمقراطيين [36].

تبرز أيضاً إشكالية أخرى في التعامل مع الغضب، لاسيما المتعلقة بضبط النفس للحد من تحول الشعور بالغضب إلى سلوكيات عنيفة. فعندما تواجه دولة ما تهديداً حاداً لأمنها القومي، فإن ضبط النفس قد يصورها أمام الخصوم على أنها عاجزة عن حماية مصالحها، لكن بالمقابل إن تخلت عن ذلك فقد يقود إلى نشوب حرب. من ثم، تصبح المعادلة الصعبة: كيف تُبدي الدول ضبط النفس إزاء تهديدات الخصوم التي تثير غضبها في الأزمات، مع الحفاظ على ماء الوجه أو توجيه رسائل ضغط دون بلوغ الحرب [37]. تظهر تلك الإشكالية بوضوح في نمط الضربات المحسوبة المتبادلة بين إسرائيل وإيران في مرحلة ما بعد حرب غزة، حيث يسعى كل طرف إلى إظهار قدرته على ردع الآخر دون بلوغ حرب إقليمية مباشرة، لكن ذلك قد لا يمنع من أن تقود التداعيات غير المقصودة أو سوء الإدراك المتبادل أو نمط القادة السياسيين المتطرفين على الجانبين الذين يعلون البعد النفسي والشعبوي على العقلاني من الوصول إلى حرب محتملة.

يظل في الأخير، أن ظاهرة الغضب سواء على مستوى الشعور أو السلوكيات السلمية والعنيفة تلعب دوراً أساسياً في تشكيل الظواهر السياسية داخل الدول أو السياسة العالمية. وبرغم الصعوبات والتحديات أمام تحليل تلك الظاهرة وأثرها، فضلاً عن الجدالات حول آثارها وعواقبها وطرق التعامل معها، لكن محاولة الاقتراب من تفكيك مضامينها وارتباطاتها مع المتغيرات السياسية الأخرى يمثل أحد مداخل التفسير المهمة في ظل الأزمات والاضطرابات المتلاحقة التي يعيشها العالم والإقليم.  


[1] Pankaj Mishra, Age of Anger: A History of the Present, New York: Farrar, Straus and Giroux, 2017, Paul Hollander, Book Review https://doi.org/10.1007/s12115-018-0288-0

[2] Global Peace Index 2021, https://www.visionofhumanity.org/wp-content/uploads/2021/06/GPI-2021-web-1.pdf

[3]  دينا إبراهيم حسن، أسس التنظير للعاطفة في السياسة والعلاقات الدولية، ملحق اتجاهات نظرية، مجلة السياسة الدولية، العدد 22 خمسة، يوليو 2021، ص 6.

[4] Gallup ,What Is the World's Emotional Temperature? https://news.gallup.com/interactives/248240/global-emotions.aspx

يقيس مؤشر جالوب للعواطف مشاعر وعواطف المجتمعات من خلال مقابلات مع الأفراد في دول العالم عبر مؤشرين أحدهما، يتعلق بالتجارب اليومية الإيجابية (الشعور بالراحة، الاحترام، الابتسام، فعل أشياء مفيدة، المتعة) أو الآخر بالتجارب السلبية (الألم الجسدي، القلق، الحزن، الضغط، الغضب). وتتراوح درجات المؤشر من صفر إلى مائة، حيث تشير الدرجات الأعلى إلى انتشار المشاعر الإيجابية، وهي ترتبط بتصورات الناس عن مستوى المعيشة والحرية الشخصية ووجود شبكات اجتماعية 

[5] Mary Holmes, Introduction The Importance of Being Angry: Anger in Political Life ,journal European Journal of Social Theory ,2004 https://doi.org/10.1177/1368431004041747

 [6] يسبق لفظة الغضب وصفها بمفردات متبادلة كالشعور أو العاطفة أو المزاج، إلا أن علماء النفس يفرقون بينها، فالشعور بالغضب أكثر عمومية، ويرتبط بما تدركه أدمغتنا، أما عاطفة الغضب فهي رد فعل لحظي محدد تجاه عائق، بينما المزاج الغاضب حالة شعورية ظرفية قد تطول أو تقصر.

Michael Potegal, Gerhard Stemmler, Charles Spielberger, International Handbook of Anger: Constituent and Concomitant Biological, Psychological, and Social Processes, 2010  https://link.springer.com/book/10.1007/978-0-387-89676-2

[7] Tereza Capelos, Mikko Salmela, Gabija Krisciunaite, Grievance Politics: An Empirical Analysis of Anger Through the Emotional Mechanism of Ressentiment, Politics and Governance 10(4): December 2022, https://shorturl.at/4K0s9

Shahsavarani, Amir Mohammad and Sima Noohi ,Explaining the Bases and Fundamentals of Anger: A literature Review, International Journal of Medical Reviews 1 ,2015, https://www.ijmedrev.com/article_68914.html

[8] Alexandra Michel ,Collective Emotions Exploring the alignment of joy, sadness, anger, and more November 25, 2019 https://www.psychologicalscience.org/observer/collective-emotions

 [9] جوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، تقديم وترجمة، هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، 1991

[10] Dived Ost, Politics as the Mobilization of Anger: Emotions in Movements and in Power. European Journal of Social Theory, 7(2),2004 https://doi.org/10.1177/1368431004041753

[11] Peter Lyman, The Domestication of Anger: The Use and Abuse of Anger in Politics. European Journal of Social Theory, 7(2), 2004 https://doi.org/10.1177/1368431004041748

[12] Michael D. Shear,and others ,How Trump Reshaped the Presidency in Over 11,000 Tweets The Twitter presidency The New York Times , 3Nov 2019. https://shorturl.at/tqzrb

[13] Carey E. Stapleton, Ryan Dawkins, Catching My Anger: How Political Elites Create Angrier Citizens. Political Research Quarterly, 75(3), 2022. https://doi.org/10.1177/10659129211026972

[14] Ryan C Martin,Lauren E. Vieaux. “9. The Digital Rage: How Anger is Expressed Online.2015. https://www.degruyter.com/document/doi/10.1515/9783110473858-011/html

[15] Alexandra Michel, Collective Emotions Exploring the alignment of joy, sadness, anger, and more November 25, 2019.the same link.

 [16]  تم استنتاج دورة مراحل الغضب السياسي من بعض الدراسات مثل:

Divid Ost, Politics as the Mobilization of Anger: Emotions in Movements and in Power,European Journal of Social Theory, 7(2), 2004. https://doi.org/10.1177/1368431004041753

Simon Thompson ,Anger and the Struggle for Justice. In: Clarke, S., Hoggett, P., Thompson,S. (eds) Emotion, Politics and Society, Palgrave Macmillan, London. 2006 https://doi.org/10.1057/9780230627895_8

Roger Petersen & Sarah Zukerman, Anger, Violence, and Political Science. In: Potegal, M., Stemmler, G., Spielberger, C. (eds) International Handbook of Anger. Springer, New York, 2010 . https://doi.org/10.1007/978-0-387-89676-2_32

[17]   كيف أطاحت الاحتجاجات برئيسة وزراء بنغلاديش؟، صحيفة الشرق الأوسط، 6 أغسطس 2024، والرئيس الكيني يسحب قانون "زيادة الضريبة" عقب احتجاجات دامية، ، موقع بي بي سي عربي 26 يونيو 2024.

[19] أزمة الغواصات: فرنسا تستدعي سفيريها في واشنطن وكانبيرا، 17 سبتمبر 2021 https://shorturl.at/UffdS

[20] Debra Javeline ,The Role of Blame in Collective Action: Evidence from Russia. American Political Science Review ,97(1), 2003 doi:10.1017/S0003055403000558

[21] Pew Research, Israeli Views of the Israel-Hamas War May 30, 2024

https://www.pewresearch.org/global/2024/05/30/israeli-views-of-the-israel-hamas-war/

[22]  غضب وانتقادات غربية لتصريحات رئيس الوزراء المجري حول "الاختلاط العرقي"، فرانس 24 29/07/2022 https://rb.gy/ivxelp

[23] Isabel Ortiz, Sara Burke, Mohamed Berrada, Hernán Saenz Cortés World Protests A Study of Key Protest Issues in the 21st Century 2022 https://link.springer.com/book/10.1007/978-3-030-88513-7

[24] SimonThompson, Anger and the Struggle for Justice. In: Clarke, S., Hoggett, P., Thompson, S. (eds) Emotion, Politics and Society. Palgrave Macmillan, London. 2006 https://doi.org/10.1057/9780230627895_8

[25] KEITH E. SCHNAKENBERG ,CARLY N. WAYNE, Anger and Political Conflict Dynamics. American Political Science Review.;118(3) 2024 doi:10.1017/S0003055424000078

[26] Roger Petersen & Sarah Zukerman, Anger, Violence, and Political Science. In: Potegal, M., Stemmler, G., Spielberger, C. (eds) International Handbook of Anger. Springer, New York, 2010,  https://doi.org/10.1007/978-0-387-89676-2_32

[27] Anam Tariq, Umar Bacha, Introduction and Definition of Anger. In: Hashim, H.T., Alexiou, A. (eds) The Psychology of Anger. Springer, Cham. 2022, https://doi.org/10.1007/978-3-031-16605-1_1

[28] حسام الدين فياض، فلسفة الاعتراف عند أكسل هونيث (الصراع من أجل الاعتراف)، مؤسسة مؤمنون بلاد حدود، 3 يونيو 2023 https://shorturl.at/IARn

[29] Isabel Ortiz, Sara Burke , Mohamed Berrada , Hernán Saenz Cortés ,Op.Cit, the same link

[30] Gallup, What Is the World's Emotional Temperature?,op.cit, The same link.

[31] Scott Schieman, The sociological study of anger: Basic social patterns and contexts. In M. Potegal, G. Stemmler, & C. Spielberger (Eds.), International handbook of anger: Constituent and concomitant biological, psychological, and social processes 2010. https://doi.org/10.1007/978-0-387-89676-2_19

[32] مؤشر البارومتر العربي: د. مايكل روبنز، د. أماني جمال، د. مارك تيسل، أمريكا تخسر العالم العربي والصين تحصد المكاسب، فورين أفيرز، 11 يونيو 2024 https://shorturl.at/Vdejk

[33] Joseph Galbo, Review of Arjun Appadurai: An Essay on the Geography of Anger Canadian Journal of Sociology, November 2006

[34] Luo, Qinyi, "The Politics of Anger." Thesis, Georgia State University, 2023. doi: https://doi.org/10.57709/35349710

[35) المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، استطلاع رقم 93، 17 سبتمبر 2024

https://pcpsr.org/ar/node/992

[36] Rachel Kleinfeld, The Rising Tide of Political Violence An Attempted Assassination of Trump Is Part of a Global Trend July 19, 2024 https://www.foreignaffairs.com/united-states/rising-tide-political-violence

[37] Erik Lin-Greenberg, Wars Are Not Accidents Managing Risk in the Face of Escalation November/December 2024 https://www.foreignaffairs.com/world/wars-are-not-accidents-managing-risk-erik-lin-greenberg