تدخل الضربة الصاروخية التي وجهتها إيران ضد إسرائيل في أول أكتوبر 2024، الأسبوع الثاني دون حدوث رد اسرائيلي توعد به قادة الصف الأول للحكومة الاسرائيلية، حيث صدرت العديد من التصريحات التي حملت التهديد والوعيد لطهران بشأن الضربة الاسرائيلية المرتقبة. ورغم كون هذا التأخير لا يعني بالتبعية الإلغاء نظرًا للحتمية التي أكدها المستوى السياسي الاسرائيلي بالرد، والتي يفرضها السياق الحالي، إلا أن هذا التأخير يستدعي فهم الأسباب والعوامل التي لم تعّجل بالرد على غرار الرد السابق على الضربة الإيرانية الأولى في أبريل الماضي، والذي جاء بعد أسبوع من الهجوم، وهو ما يطرح التساؤل حول ما إذا كان هذا التأخير هذه المرة مرتبطًا بعوامل السياق الحالي، والتي قد تشكل عائقًا في الإسراع بسيناريو الرد، أم يرتبط من ناحية كون الرد سيختلف في طبيعة حدته والأهداف التي سيستهدفها ارتباطًا برسالة الردع المُراد إيصالها، وهو ما يجعله يحتاج لمزيد من الوقت للإعداد والتخطيط أم الاثنين معًا؟.
معطيات السياق للرد المرتقب
يشهد السياق الراهن حالة من الترقب للرد الاسرائيلي، والذي يكتنفه تدفق تحليلي واسع للتكهنات بشأن التوقيت وطبيعة الرد المحتمل، والتي تُبنى في غالبها على وارد المعلومات المتداولة في الداخل الاسرائيلي وكذلك في أروقة المؤسسات بواشنطن، إلى جانب قراءات تفاعلات المشهد الحالي الذي جرت فيه مياه كثيرة منذ توجيه الضربة الإيرانية. فعلى مستوى الداخل الاسرائيلي، أشارت بعض التقارير إلى أن اجتماع مجلس الوزراء الأمني المصغر الذي عُقد في 1 أكتوبر 2024، تزامنًا مع الهجوم، انتهى إلى أنه سيكون هناك رد عسكري ولكن دون قرار واضح بشأن طبيعة هذا الرد[1]. وفي السياق ذاته، تداولت بعض التقارير الحديث بشأن اجتماع مجلس الوزراء الأمني المصغر الذي عُقد في 10 أكتوبر 2024، حيث كان من المرجح – بحسب هذه التقارير – أن يتم التصويت على قرار الرد على الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير[2]. إلا أن الاجتماع قد انتهى دون التصويت على القرار، بحسب تقرير للقناة 12 الاسرائيلية، كما لم يُطلب من أعضاء مجلس الوزراء تفويض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت لاتخاذ قرار بشأن الرد، الذي من الممكن أن يتم عبر الهاتف إذا لزم الأمر[3].
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الاجتماع يأتي في أعقاب الاتصال الهاتفي الذي جمع الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في 9 أكتوبر 2024، والذي استغرق نحو 30 دقيقة حول الرد الإسرائيلي المرتقب، وذلك بحسب المتحدثة باسم البيت الأبيض[4]. وتأتي هذه التطورات تزامنًا مع حدوث بعض المؤشرات التي تعكس ترتيبًا عالي المستوى لتنسيق عملياتي مشترك بين الجانب العسكري الاسرائيلي والأمريكي حول الرد المرتقب، حيث أعلن الجيش الاسرائيلي في 7 أكتوبر 2024، عن زيارة قائد القيادة المركزية الأمريكية مايكل كوريلا لإسرائيل لإجراء "تقييم للوضع" يركز على التحديات الأمنية المرتبطة بإيران والساحة الشمالية[5].
أيضًا على المستوى الإقليمي لوحظ وجود حركة مكثفة لإيران منذ توجيه الضربة، والتي شملت زيارات لعدد من عواصم الدول العربية، وكان أبرزها زيارة الرئيس الإيراني لقطر في اليوم التالي للهجوم، والتي أكد خلالها بالرد "بشكل أقوى وأشد إذا قامت إسرائيل بالرد"[6]، وتلى ذلك زيارات متتالية لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي لعدد من دول المنطقة كانت بدايتها في لبنان[7]، تلاها زيارة لكل من سوريا وقطر والسعودية خلال اليومين الماضيين، التقى خلالها بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، حيث بحثا مستجدات الأوضاع الإقليمية والجهود المبذولة للتعامل معها[8]. وتعكس هذه الزيارات بحسب المراقبين، محاولة لتأكيد الموقف الإيراني بعدم الرغبة في التصعيد نحو مواجهة واسعة مع اسرائيل، والبحث عن قنوات وساطة خليجية لخفض التصعيد خاصة في ضوء الرد الاسرائيلي المرتقب، الذي تتعالى الأصوات الاسرائيلية بشأنه في الوقت الحالي، وتنادي بتوجيه ضربة قوية للبرنامج النووي الإيراني[9]، هذا فضلاً عن تداول بعض التقارير بأن يكون البديل لهذا الهدف منشآت النفط الإيرانية[10].
تعكس هذه المعطيات أن الرد الإسرائيلي، على ما يبدو، تم الاتفاق على خطوطه العريضة مع واشنطن، وهو ما يجعله وشيك الحدوث، بيد أنه لا يزال يخّيم على عملية إصدار القرار حالة من الضبابية، والتي يُمكن فهمها في سياق عدة عوامل تشكل بدورها بيئة صنع القرار المرتقب أن تتخذه الحكومة الاسرائيلية، وذلك في ضوء الفرص والتهديدات التي تفرضها بيئة الصراع الراهن.
لماذا تأخر الرد؟
أثيرت خلال الفترة الماضية العديد من التساؤلات بشأن تأخر الرد الاسرائيلي، على نحو فتح الباب أمام سيل من التكهنات سواء تلك المتعلقة بتوقيت الرد أو طبيعته وكذلك الأهداف التي سيشملها الهجوم، ووفقًا لمعطيات السياق الراهن، فإنه يمكن تعديد بعض العوامل التي من الممكن أن تكون قد لعبت دورًا في عدم التعجيل بقرار الرد، ومن أبرزها:
1- المحاذير الأمريكية والتنسيق العملياتي المسبق: دفعت بعض التقارير بأن تأخير عملية الرد الاسرائيلي جاء اتساقًا مع المحاذير الأمريكية التي عبر عنها الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي أوضح خلال تصريحاته حول الهجوم الإيراني في 2 أكتوبر 2024، معارضته قيام إسرائيل بضرب المنشآت النووية الإيرانية رداً على الهجوم، مضيفًا أن تل أبيب لها الحق في الرد، ولكن يجب أن تفعل ذلك "بشكل متناسب"[11]، بحيث يكون الرد دون عتبة الحرب الشاملة. ثم عاد مرة أخرى ليُدلي بتصريحات خلال ظهور استثنائي في المؤتمر الصحفي اليومي للبيت الأبيض في 5 أكتوبر 2024، على ما يبدو في محاولة منه لمقايضة تل أبيب بأن يكون ثمن الدعم الذي قدمه طيلة الفترة الماضية – بشكل لم يسبقه أحد من الرؤساء الأمريكيين بحسب ما قال بأنه "لم تساعد أي إدارة إسرائيل أكثر مما فعلت" مضيفًا أنه "يجب على بيبي أن يتذكر ذلك"[12]– هو استبعاد منشآت النفط الإيرانية من بنك الأهداف الاسرائيلي، خاصة في ظل التأثير المحتمل لذلك على ارتفاع أسعار النفط العالمية، وهو ما سيؤثر بدوره على اتجاهات تصويت الناخبين الأمريكيين للمرشحة الديمقراطية لصالح المرشح الجمهوري، وفي هذا الصدد قال الرئيس الأمريكي: "لو كنت مكانهم، كنت سأفكر ببدائل غير ضرب حقول النفط"[13].
وبالتالي، يرى بعض المراقبين أن هذه الاعتبارات والمحاذير الأمريكية أثرّت بشكل أو بآخر على تأخر قرار الرد نظرًا للحاجة الاسرائيلية إلى تنسيق عملياتها مع واشنطن بحيث لا يقف هذا التنسيق عند حدود الرد الاسرائيلي المرتقب، وإنما يشمل أيضًا الرد الإيراني المحتمل وفقًا لخطوطه الحمراء التي أشار إليها المسئولون الإيرانيون الذين أكدوا أن تجاوزها سيستوجب الرد من جانبهم. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى تدفق بعض التقارير في الوقت الحالي ارتباطًا بهذه المعطيات السابقة، والتي تتحدث عن احتمالية أن تتجه تل أبيب لسيناريو الاستهداف السيبراني لبعض الأهداف الاستراتيجية لطهران، والتي من الممكن أن تحقق الهدف المرجو من ناحية التكلفة المرتفعة للاستهداف بالنسبة لإيران، وفي الوقت ذاته تُراعي الاعتبارات والمحاذير الأمريكية، ويتماشى ذلك مع تصريحات وزير الدفاع الاسرائيلي التي أدلى بها خلال اليومين الماضيين حول طبيعة الرد المرتقب بأن الإيرانيين "لن يفهموا ماذا حدث وكيف"[14].
2- اعتبارات الداخل الاسرائيلي: يعكس عدم التصويت على قرار الرد الاسرائيلي في اجتماع مجلس الوزراء الأمني المصغر الذي عُقد في 10 أكتوبر 2024، رغم الحديث عن تضييق الفجوة بين الرؤية الاسرائيلية والأمريكية بشأن الرد، احتمالية أن يكون لهذا التنسيق تأثيره على تباينات الموقف بين مكونات الائتلاف الحكومي الذي قد يميل الجناح المتطرف داخله إلى سيناريوهات التصعيد الواسع، والتي عبر عنها مسئولوه خلال الفترة الماضية، بيد أن الإجراء الذي كان قد اتخذه رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بضم زعيم حزب "أمل جديد" جدعون ساعر إلى الحكومة (بدون حقيبة وزارية)، وهو أيضًا عضو بالمجلس الوزاري الأمني المصغر[15]، يهدف إلى تعزيز مرونة حركة الأول في مواجهة أية ضغوط قد يتعرض لها من قادة الأحزاب الحريدية إذا ما قرر أن يعتمد السيناريو الأقل تصعيدًا وفقًا لمقتضيات بيئة الصراع الراهن، والتي تراعي المحاذير الأمريكية، خاصة وأنه قد يذهب إلى توظيف هذه المرونة في التجاوب مع الاعتبارات الأمريكية، في مقابل تخفيف أي ضغوط محتملة في الجبهة الشمالية وقطاع غزة سواء من الولايات المتحدة أو من شركاءها الأوروبيين، وهو ما يضمن له استمرار حالة الحرب التي تمكنه من تحقيق مكاسب سياسية تنعكس إيجابًا على شعبيته في الداخل.
3- تصاعد وتيرة الهجمات العسكرية على الجبهات المتعددة: شهدت الجبهة الشمالية للبنان والجبهة الجنوبية لقطاع غزة تصاعدًا ملحوظًا في وتيرة الهجمات العسكرية التي تقوم بها اسرائيل، والتي تأتي على ما يبدو في إطار التحرك الوقائي قبل الرد لفرض مزيد من الضعف تجاه القدرات العسكرية للجبهات، وتحييدها في أي رد محتمل على الهجوم الاسرائيلي المرتقب ضد إيران. وفي الجهة المقابلة، برز تصعيد مضاد من جانب جبهات الإسناد في اليمن والعراق، هذا فضلاً عن استمرار حزب الله في عمليات القصف الصاروخي لحيفا والمستوطنات بكريات شمونة، والتي أدت إلى سقوط قتيلين[16]، بالإضافة إلى بث الحزب جزءً ثالثًا من سلسلة "الهدهد"، خلال اليومين الماضيين، والذي عرض خلاله بنك أهداف للمنشآت الإسرائيلية كان أبرزها مصفاة نفط حيفا[17]، والذي أراد على ما يبدو أن يبعث من خلال هذا البث برسالة ردع للإقدام على تنفيذ سيناريو استهداف منشآت النفط الإيرانية ضمن أهداف الرد الاسرائيلي المرتقب، وهو ما يفرض بدوره مزيدًا من التعقيد لسيناريوهات الرد الإسرائيلي، التي تتطلب مزيدًا من الوقت لتأمين الإجراءات الوقائية لتحييد تكلفة هجومها المحتمل.
4- تهيئة الموقف الدولي: يشهد موقف الدعم الدولي الذي حظيت به تل أبيب طيلة الفترة الماضية، تراجعًا نسبيًا ارتبط بفتح الجبهة الشمالية واستمرار تصعيدها العسكري، والقصف المتواصل الذي تقوم به في الوقت الحالي بلبنان وقطاع غزة، خاصة في ظل توسيعها لنطاق استهدافاتها في لبنان، والتي ينتج عنها وقوع خسائر في صفوف المدنيين. وانعكس ذلك التراجع في تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 5 أكتوبر 2024، التي دعا فيها لأول مرة إلى وقف تسليم الأسلحة التي تستعملها إسرائيل في غزة، مؤكدًا أن فرنسا لا "تسلّم حاليًا أي أسلحة لإسرائيل"، مضيفًا: "لا ينبغي أن يصبح لبنان غزة جديدة"[18]، وكانت قد سبقته في هذا الإجراء الحكومة البريطانية التي أصدرت قرارًا في 2 سبتمبر بالتعليق الفوري لنحو 30 ترخيصًا لعتاد مستخدم في الصراع الحالي في غزة، وذلك من أصل نحو 350 ترخيصًا لإسرائيل، في أعقاب مراجعة مدى امتثالها للقانون الدولي الإنساني[19].
ومن ثم، قد يؤثر هذا الموقف المتراجع نسبيًا في الدعم الدولي على أية إجراءات تصعيدية اسرائيلية واسعة في إطار ردها على طهران، وهو ما يتطلب مزيدًا من التنسيق مع واشنطن، لتغيير أو موازنة مواقف المعارضة للشركاء الأوروبيين، فضلاً عن تأمين الدعم المطلوب خاصة فيما يتعلق بإجراءات واردات الأسلحة التي تحتاجها أو الدعم السياسي في المؤسسات الدولية، وكذلك التنسيق الإقليمي.
5- فرض الضغط وحالة الاستنفار على الجانب الإيراني: تدفع بعض المؤشرات إلى احتمالية أن يكون هذا التأخر في الرد متعمدًا من جانب تل أبيب في إطار استراتيجية فرض الضغط، واستغلال حالة الاستنفار الداخلي التي تبدو عليها طهران في الوقت الحالي، والتي تعتمد على مدى طول أمد ما يُعرف بـ"الفترة الميتة" (الفترة ما بين الهجوم الإيراني والرد الاسرائيلي) في التصعيد بين الجانبين، والتي ستتحدد وفقًا للرد الاسرائيلي المرتقب، والذي قد يأتي لتثبيت قواعد الردع المتبادل، ومن ثم، العودة لقواعد الاشتباك الأساسية، أو ربما تنزع تل أبيب نحو رد تصعيدي يستوجب الرد الإيراني، على نحو قد يدفع الأمور إلى منزلق خطر من التصعيد. وبالتالي، يُنظر إلى أن طول أمد هذه الفترة يسمح لتل أبيب بفرض مزيد من الضغط والتصعيد ضد جبهات الإسناد وإضعافها، في تحييد لأي دور داعم من جانب طهران التي تتأهب للرد الاسرائيلي.
ختامًا، يُمكن القول إن حالة الضبابية والتكهنات التي تكتنف مشهد الرد الاسرائيلي المرتقب ضد الهجوم الإيراني الأخير، من ناحية التوقيت وطبيعة درجة التصعيد، تعود في جانب منها إلى طبيعة المعادلات الجديدة التي فرضتها جولات التصعيد بين الجانبين خلال الفترة الماضية، وهو ما استلزم معه مستوى جديدًا من التقييم والتخطيط الدقيق لتحديد شكل الاستجابة للتهديد نظرًا لحساسيات إجراءات التصعيد التي يُمكن أن يقود خطأ تقديرها إلى حرب إقليمية واسعة تهدد كامل استقرار المنطقة.
[6]أمير قطر ورئيس إيران يحذران من عواقب التصعيد الإسرائيلي، الجزيرة نت، بتاريخ 2 أكتوبر 2024. انظر: https://aja.ws/1c3fbs
[7]نجية دهشة، ماذا تحمل زيارة وزير الخارجية الإيراني للبنان؟، الجزيرة نت، بتاريخ 4 أكتوبر 2024. انظر: https://aja.ws/pn3h5u
[8]عبد الهادي حبتور، ولي العهد السعودي يبحث التطورات الإقليمية مع وزير الخارجية الإيراني، صحيفة الشرق الأوسط، بتاريخ 9 أكتوبر 2024. انظر: https://shorturl.at/PWxz8
[14]Israeli defense minister warns an attack on Iran would be ‘lethal’ and ‘surprising’, Op.cit.
[19]بريطانيا تعلّق 30 رخصة تصدير أسلحة لإسرائيل... و«خيبة أمل» في تل أبيب، صحيفة الشرق الأوسط، بتاريخ 2 سبتمبر 2024. انظر: https://shorturl.at/3aoHP