مهاب عادل حسن

باحث مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

باغت الهجوم الصاروخي الذي شنته إيران في 1 أكتوبر 2024 ضد إسرائيل، والذي أطلقت خلاله ما يقارب 200 صاروخاً باليستياً، بحسب التقديرات، حسابات الأخيرة بشأن معادلة الردع، التي سعت إلى ترميمها عبر تصعيدها العسكري الذي تقوم به في الوقت الحالي على الجبهة الشمالية، واتجاهها إلى تطوير هذا التصعيد بما يتجاوز قواعد وحدود الاشتباك التي توفر هامشاً لمرونة رد الخصم دون سقف الحرب الشاملة، حيث عمدت تل أبيب إلى فرض معادلة الضعف ضد ما يسمى بـ "محور المقاومة" المدعوم إيرانياً إلى الحد الذي أخّل بشكل جدي بحسابات توازن الردع بين تل أبيب وطهران، على نحو استلزم بحسب -التقديرات الإيرانية – الرد من أجل استعادة التوازن الذي اختل خلال الفترة الماضية لصالح تل أبيب، وهو ما يقودنا للتساؤل حول ما إذا كانت هذه الجولة ستقف عند حدود الردود المتبادلة بين الجانبين لتثبيت الردع على غرار ما حدث في هجمات أبريل الماضي أم ستنزلق إلى مواجهة شاملة.

سياق التصعيد وحسابات الموقف الإسرائيلي

ارتباطاً بسلسلة الضربات التي قامت بها تل أبيب طيلة الفترة الماضية ضد مراكز التأثير لـ"محور المقاومة" الذي تدعمه إيران، وخاصة تنظيم حزب الله، من خلال عمليات الاغتيال والتصفية التي لحقت بكامل الهيكل القيادي للحزب، بالإضافة إلى عمليات القصف والاستهداف المتواصل لبنك الأهداف الإيرانية من مسئولين عسكريين وبنية تحتية عسكرية بسوريا، توجت هذه الاستهدافات بإعلان الجيش الإسرائيلي عن بدء عملية توغل بري للجبهة الجنوبية اللبنانية خلال اليومين الماضيين، على نحو دفع طهران لتوجيه ضربة مباشرة لتل أبيب من أجل استعادة توازن الردع، وتأمين خطوط "الدفاع الأمامي" التي تعتمد عليها طهران لتخفيف الضغوط والتهديدات في محيطها الحيوي. وقد بدا أن القراءة الإيرانية لتطورات التصعيد الإسرائيلي الأخير جاءت بأن تأخير الرد واستيعاب الاستهدافات الإسرائيلية المتلاحقة قد يدفع تل أبيب نحو تجاوز هذه الخطوط ونقل المعركة إلى المجال الحيوي المباشر لطهران، هذا فضلاً عن التأثير غير المباشر الذي سيلحق بشرعية النظام السياسي الذي أتت به الثورة الإيرانية، والمرتكز بشكل أساسي على أيديولوجية المقاومة، ومن ثم تعزيز حالة الانهزام الداخلي والانكشاف بما يسمح للخصوم بالتأثير على معادلة الداخل ومخاطبة الرأي العام الإيراني فوق رؤوس قادة النظام، على غرار ما قام به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي وجه كلمة قبل الضربة الإيرانية بساعات قليلة مخاطباً الشعب الإيراني بتحذيره من النظام السياسي الذي يدفعهم نحو "الهاوية" بحسب تعبيره، قائلاً: "لا تسمحوا لحفنة من الحكام الدينيين بسحق تطلعاتكم وأحلامكم"، مضيفاً: "مع كل لحظة تمر، يقربكم النظام -أيها الشعب الفارسي النبيل- من الهاوية"[1].

فرضت الضربة الإيرانية الأخيرة التي اختلفت عن سابقتها التي قامت بها في 13 أبريل الماضي، سواء من ناحية نطاق الاستهدافات التي شملت مناطق واسعة لشمال ووسط وجنوب إسرائيل، وما تضمنته من بنك أهداف عسكرية تمثل في استهداف عدد من القواعد الجوية التي أقّر الجيش الإسرائيلي بسقوط صواريخ عليها وصفها بأنها كانت "غير فعالة"[2]، حسابات معقدة على الموقف الإسرائيلي في ضوء ما أحدثه هذا الهجوم من تأثير معنوي مباشر في صفوف الرأي العام الإسرائيلي الذي احتشد الملايين منهم في الملاجئ هذه الليلة، فضلاً عن تأثير ذلك في معادلة الردع المتبادل مع طهران، والإضرار بالنقاط والمكاسب التي راكمها المستوى السياسي الإسرائيلي عبر استهدافاته طيلة الفترة الماضية. ومن ثم، تفرض اللحظة الراهنة لمتغيرات السياق جملة من المحددات التي ستنطلق منها الحكومة الإسرائيلية في تشكيل ردها على هذا الهجوم، من أبرزها:

1- حتمية الرد للحفاظ على "ثقة الجمهور" ومكتسبات المرحلة: تعكس تصريحات المسئولين الإسرائيليين على المستويين السياسي والعسكري تأكيداً واضحاً لحتمية الرد على الهجوم الإيراني الأخير، وذلك ارتباطاً بسياق ما تحقق طيلة الفترة الماضية من استهدافات سعت من خلالها تل أبيب إلى ترميم معادلة الردع التي اهتزت في أعقاب أحداث 7 أكتوبر، هذا فضلاً عن المكاسب التي راكمها المستوى السياسي وساعدته في تحسن شعبيته لدى الشارع الإسرائيلي. فوفقاً لنتائج أحدث استطلاع رأي أجرته القناة 12 الإسرائيلية في 29 سبتمبر 2024، شهد حزب الليكود بزعامة رئيس الوزراء الإسرائيلي تحسناً ملحوظاً، حيث أكدت النتائج بأنه سيفوز بمقاعد أكثر من أي حزب آخر إذا أجريت انتخابات عامة[3]. وفي هذا الإطار تعمل الحكومة الإسرائيلية منذ وقوع الهجوم على تحييد أية آثار ضغط على الجبهة الداخلية، وذلك من خلال كثافة التصريحات بعدم فاعلية الهجوم، بالإضافة إلى استئناف الاستهدافات الجوية للضاحية الجنوبية وبعض المناطق الأخرى بالجنوب اللبناني، لإضعاف الرواية الإيرانية بتأثير الهجوم على القدرات الجوية الإسرائيلية نتيجة استهداف الصواريخ عدداً من القواعد الجوية، لذلك جاءت تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي خلال زيارته لقاعدة "تل نوف الجوية"، التي تم الإشارة إلى أنها كانت من بين القواعد المستهدفة، وفي هذا الصدد أشار إلى أن إسرائيل سترد على الهجوم الصاروخي، متعهداً بأن الجيش الإسرائيلي لديه القدرة على "الوصول إلى أي نقطة في الشرق الأوسط وضربها"[4].

أيضاً عمدت الحكومة الإسرائيلية إلى تحييد أثر هذا الهجوم فيما يتعلق بردعها عن الإقدام على التوغل البري في الجنوب اللبناني، ببدء التوغل الفعلي في اليوم التالي للهجوم وتسللت القوات الإسرائيلية إلى بلدة عديسة، والذي أسفر عن مقتل 4 جنود إسرائيليين، وإصابة 20 آخرين[5]، هذا فضلاً عن إصدارها تحذيرات بالإخلاء تغطي مساحة أوسع من لبنان، وهو ما ارتآه المراقبون بأنه قد يكون تمهيداً لعملية توغل واسعة[6]

ومن ثم، سيعمل المستوى السياسي على الحفاظ على المكتسبات التي حققها وتقليص هامش المناورة للمعارضة التي يمكن أن تذهب إليها برفع سقف التصعيد، وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت، في تصريحاته في أعقاب الهجوم بضرورة التحرك الفوري لتدمير البرنامج النووي الإيراني، ومنشآت الطاقة المركزية[7]، وهو ما يفتح بدوره الباب للمزايدة بضعف موقف الائتلاف الحكومي، في حالة عدم الرد أو إذا ما جاء الرد دون هذا المستوى الذي تطالب به المعارضة.

2- اعتبارات الموقف الدولي وقيد "عتبة الحرب الواسعة": جاءت إشارات الموقف الدولي وتحديداً الموقف الأمريكي الذي راهنت تل أبيب على احتمالية توريطه في مواجهة مباشرة مع طهران إذا ما انزلقت أحداث التصعيد نحو مواجهة واسعة، عاكسة لعدم الرغبة في توسيع الحرب نحو مواجهة إقليمية واسعة، وهو ما يتضح في تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان التي جاءت بعد وقت قليل من انتهاء الهجوم الذي وصفه بأنه "غير فعال"[8]، والتي عكست تداركاً سريعاً من جانب الإدارة الأمريكية في أعقاب الهجوم بإضعاف ذريعة التصعيد الواسع التي يمكن أن تستغلها تل أبيب للذهاب إلى ما هو أبعد، وهو ما أكد عليه أيضاً الرئيس الأمريكي جو بايدن في تصريحاته حول الهجوم في 2 أكتوبر 2024، حيث أوضح معارضته قيام إسرائيل بضرب المنشآت النووية الإيرانية رداً على الهجوم، مضيفاً أن تل أبيب لها الحق في الرد، ولكن يجب أن تفعل ذلك "بشكل متناسب"[9]. وتلاقى ذلك مع ما قاله أيضاً نائب وزير الخارجية الأمريكي كيرت كامبل، خلال حدث افتراضي استضافته مؤسسة كارنيجي للأبحاث، حيث أكد أن التصعيد الأوسع نطاقاً ليس من شأنه أن يعرض المصالح الإسرائيلية فحسب للخطر وإنما المصالح الاستراتيجية الأمريكية أيضاً[10].

تعكس هذه التصريحات على ما يبدو عدم الرغبة الأمريكية في التورط في حرب واسعة مع إيران نظراً للتكلفة المرتفعة لهذا السيناريو من الناحية الاستراتيجية في ضوء عملية الاستنزاف التي يمكن أن تتعرض لها ومصالحها وأصولها الاستراتيجية بالمنطقة، وهو ما سيؤثر بدوره على استراتيجيتها لإدارة التنافس الجيوسياسي مع الخصوم (روسيا – الصين) نتيجة احتمالات حدوث هذا السيناريو الاستنزافي العكسي الذي ستدعمه هذه القوى على غرار سيناريو الاستنزاف الذي تتعرض له روسيا في حربها مع أوكرانيا، هذا فضلاً عن المتغير الظرفي الذي تشهده الولايات المتحدة والمرتبط بانتخابات الرئاسة المرتقبة التي سيؤثر عليها بالتأكيد أية عمليات تصعيد محتملة.

وإن كان ذلك لا يمنع التمرير الأمريكي والضوء الأخضر الذي أعطته للعديد من الخطوات الإسرائيلية التي قامت بها في الفترة الماضية، واتجهت نحو مزيد من التصعيد في إطار ما يمكن تسميته بحالة "إغراء التصعيد" في ظل التكلفة المحدودة التي قُدّرت اعتماداً على الإشارات السلبية الإيرانية بعدم الرغبة في التصعيد نحو مواجهة شاملة، على نحو أغرى تل أبيب بالتمادى في رفع سقف طموحها لتغيير قواعد اللعبة والانتقال من مرحلة "إدارة الصراع" إلى "الحسم بالتغيير الجذري" عبر الإجهاز على مراكز النفوذ الإيراني في محيطها الحيوي. 

ومن ثم، فهذه الحسابات ستكون حاضرة في خلفية تحديد صانع القرار الإسرائيلي لطبيعة الرد على الهجوم الإيراني الأخير بحيث يكافئ الرد في إطار المناطق الرمادية دون عتبة التصعيد الواسع الذي لن تذهب إليه واشنطن وعدد من العواصم الأوروبية بشكل طوعي نظراً للتكلفة المرتفعة على النحو المُشار إليه سلفاً.

3- الموقف العملياتي المتصاعد على الجبهات المتعددة: تفرض تطورات المشهد العملياتي على جبهات التصعيد الذي تقوم به إسرائيل في الوقت الراهن، خاصة على الجبهة الشمالية، بعض القيود لتطوير الرد على الهجوم الأخير، من ناحية درجة التصعيد، والذي سيرتبط بشكل أو بآخر بدرجات التصعيد المحتمل لـ "جبهات المقاومة" في توجيه ضربات مكثفة ضد تل أبيب إذا ما ذهبت في ردها إلى تجاوز حدود الردع المتبادل، بإحداث أضرار بالبنية الاستراتيجية في الداخل الإيراني أو وقوع خسائر بشرية.

4- حسابات قواعد الردع الجديدة مع طهران: أكدت الضربة الإيرانية الأخيرة عنصرين هامين هما "القدرة" على الوصول للعمق و"مصداقية" قواعد الردع التي ارتسمت للمرة الأولى خلال هجمات أبريل الماضي، والتي أرست خلالها طهران قاعدة جديدة تقوم على "الرد المباشر"، إذا ما تجاوزت تل أبيب قواعد الاشتباك والردع المتبادل بينهما، وهو ما أكد عليه الحرس الثوري الإيراني في بيان إعلانه عن الهجوم، حيث قال أن إسرائيل ستواجه "هجمات قاسية ومدمرة" في المستقبل في حال الرد على هذه العملية[11]، وهو ما تقاطع أيضاً مع تصريحات الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته التي قام بها إلى قطر في 2 أكتوبر 2024، حيث تعهد بردٍ "أقسى" في حال ردت إسرائيل على الهجوم الصاروخي الذي شنته طهران[12]. وبالتالي، فإن هذه القاعدة من شأنها أن تشكل قيداً على حسابات تل أبيب في تحديد طبيعة الرد ودرجة التصعيد، خاصة وأن قواعد الردع الإيراني لا تعتمد فقط على الرد المباشر في حال إذا ما تمكنت تل أبيب من توجيه ضربة مباشرة استطاعت من خلالها تحييد القدرة الإيرانية على الرد، بل يمتد إلى ما يشبه نظام "اليد الميتة DeadH and"، الذي تعتمده روسيا في منظومة ردعها النووي، بحيث يمكنها من الرد في حال إذا أجهزت الضربة الأولى للخصم على القدرة الروسية على الرد المتبادل[13]، وهي القدرة ذاتها التي توفرها لطهران التنظيمات التابعة لها في المحيط الحيوي لإسرائيل.

مسارات التصعيد المحتملة

تتجه التقديرات الإسرائيلية في الوقت الراهن إلى الدفع نحو احتمالية توجيه ضربة إسرائيلية للرد على الهجوم الإيراني الأخير في أعقاب رأس السنة اليهودية، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى أن معطيات السياق الحالي في ضوء حسابات الموقف الإسرائيلي المُشار إليها سلفاً، تجعل طبيعة الرد الإسرائيلي ومدى حدته تتحدد وفقاً لسيناريوهات التصعيد التالية:

1- الرد الواسع عبر استهداف البنية النووية الاستراتيجية لإيران: تعكس عدد من المؤشرات ميل الجناح المتطرف في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي للاتجاه نحو توجيه ضربة واسعة للبنية التحتية النووية لإيران للقضاء على طموحها بدخول نادي الكبار النووي، واكتساب ميزة "الردع النووي" التي ستمكنها من فرض رؤيتها فيما يتعلق بطبيعة دورها ونفوذها الإقليمي، وقطع الطريق أمام أية محاولات لإحياء اتفاق نووي قد يقر لها بوضعية "دولة عتبة نووية"، وهو ما من شأنه أن يطلق شرارة سباق نووي بالمنطقة. ويتم التعويل في هذا السيناريو على بيئة الفرصة السانحة التي تهيئها حالة الضعف التي باتت عليها جبهات ما يُعرف بـ "محور المقاومة، فضلاً عن توفير الأساس الشرعي -وفقاً للرؤية الاسرائيلية- بالتصعيد في إطار الرد على الهجوم الأخير.

بيد أن هذا السيناريو يتخلله العديد من العقبات التي تشكل قيداً في الوقت الراهن، ومنها على ما يبدو عدم الرغبة الأمريكية وكذلك الأوروبية بالذهاب إلى حرب إقليمية واسعة يطلق شرارتها هذا الرد الواسع، وهو ما ستكون له تداعياته الوخيمة من الناحية الاستراتيجية على المصالح الغربية بمنطقة الشرق الأوسط، هذا فضلاً عن الحسابات السياسية الإسرائيلية لمخاطر هذا الهجوم إذا ما أقدم على تنفيذه دون تنسيق مع الولايات المتحدة، وهو خيار يحظى بنسبة تأييد شعبي ضئيل وفقاً لنتائج استطلاع الرأي الذي نشره مركز القدس للشئون العامة في 2 أكتوبر 2024، حيث أيد %37 من المشاركين ضرب إيران فقط إذا تم تنسيقها مع الولايات المتحدة، بما في ذلك (39% من اليهود و29% من العرب)؛ بينما قال 31% من المشاركين - بما في ذلك (33% من اليهود و18% من العرب) - إنهم سيؤيدون الضربة حتى بدون مثل هذا التنسيق[14].

2- الرد باستهدافات نوعية دون عتبة الحرب الشاملة: قد تتجه تل أبيب إلى الخيارات منخفضة التكلفة في ضوء حساباتها التي تجريها في الوقت الحالي بالتنسيق مع واشنطن، والتي قد تشمل بعض الاستهدافات النوعية من بنك الأهداف الذي عكفت تل أبيب على تحديده خلال السنوات الماضية في ظل حالة الانكشاف والاختراقات الأمنية الكبيرة التي كشفت عنها العمليات التي قامت بها في إطار حروب الظل ضد طهران، بحيث من المحتمل أن تشمل اغتيال شخصيات عسكرية وازنة شاركت بشكل أو بآخر في تخطيط الضربة الأخيرة أو الذهاب لاستهداف بعض الوحدات النووية بالمفاعلات وإخراجها عن الخدمة، على غرار ما حدث من استهداف لمنشأة تخصيب اليورانيوم في مفاعل نطنز النووي في أبريل 2021[15]، وذلك لإبطاء عملية التخصيب التي تسرّعها طهران ووصلت بها إلى مستويات غير مسبوقة، والتي يبدو أنها قد تلجأ لاستخدامها كأداة لتعزيز هامش المناورة والضغط من أجل إحياء مسار التفاوض على برنامجها النووي وتحسين شروطها التفاوضية، ويعزز من ذلك قرب انتهاء وصاية مجلس الأمن على الاتفاق النووي وإلغاء العقوبات الدولية المفروضة على إيران، في إطار حلول ما يسمى  بـ"يوم النهاية" المقرر في 18 أكتوبر 2025[16].

وفي هذا الإطار ووفقاً لما يتم تداوله من تقارير إسرائيلية وأمريكية، فإن من بين بنك الأهداف المحتملة أيضاً، قد تكون منشآت النفط الإيرانية، أو تدمير بعض أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية[17]، على غرار الضربة التي لم تعلن إسرائيل عن تبنيها في أبريل الماضي واستهداف الهجوم قاعدة جوية إيرانية في أصفهان أصاب جزءاً مهماً من منظومة للدفاع الجوي[18].

وهنا تجدر الإشارة إلى أن تكلفة هذا السيناريو وطبيعة درجة التصعيد التي ستجعله دون عتبة الحرب الشاملة ستتحدد وفقاً لمراعاة تنفيذ قواعد الاشتباك المحددة بين الجانبين، والتي على ما يبدو أن طهران قد راعتها خلال الهجومين، من ناحية، عدم وقوع خسائر بشرية (في ضوء الحرص على إخطار مسبق للولايات المتحدة وإن كان هذه المرة بمدى زمني محدود يكفي فقط لتأمين السكان وليس للاستنفار الدفاعي الكامل لصد الهجوم) أو تدمير واسع لبنية المنشآت العسكرية أو استهداف منشآت مدنية، بالإضافة إلى قاعدة "الإنكار المعقول Plausible deniability"، التي درجت تل أبيب على إتباعها في إطار حروب الظل، والتي توفر بدورها مساحة لمرونة رد فعل الخصم وفق قواعد الاشتباك المحددة بينهما دون أن يقود ذلك لمواجهة مباشرة بين الجانبين[19]، وإن كانت قد تلجأ هذه المرة تل أبيب لإعلان تبنيها للعملية إذا ما جاءت مراعية لقواعد الاشتباك السابقة، وذلك لتأكيد مصداقية الردع على غرار ما قامت به طهران بالإعلان عن تبني الهجومين.

3- الرد عبر ساحات المواجهة بمناطق النفوذ الإيراني: قد تلجأ أيضاً تل أبيب كخيار بديل للسيناريوهين السابقين إلى استهداف بعض الشخصيات العسكرية الوازنة في هيكل قيادة الحرس الثوري الإيراني وعناصره المنتشرة في لبنان وسوريا والعراق، خاصة في ضوء إعلانه تبني الهجوم الأخير، فضلاً عن استهداف بعض المنشآت العسكرية ذات الأهمية لخطوط إمداد "محور المقاومة"، إلا أن هذا السيناريو قد يستبعده المستوى السياسي الإسرائيلي نظرًا للثمن المنخفض الذي يمكن أن يروجه في الداخل الذي رفع سقف تصعيده إلى مهاجمة الأصول الاستراتيجية الإيرانية كرد مقبول على هجومها الأخير. إلا أن هذا لا يمنع وجود زاوية أخرى قد يدفع المستوى السياسي للتعامل مع هذا السيناريو في ضوء وجود رغبة إسرائيلية لتحقيق إنجازات استراتيجية على طريق إضعاف إيران، وهو ما تقوم بالفعل بتنفيذه في مناطق النفوذ الإيراني في ساحات المواجهة، وفقاً لمستويات استهداف تروج بأنها تراعي فقط احتياجاتها الأمنية المرتبطة بتأمين الحدود، إلا أنها قد تلجأ للقبول بهذا السيناريو الذي يراعي اعتبارات عدم التصعيد نحو المواجهة الشاملة، بحيث يكون الثمن هو الانتقال من مستوى الاستهداف وفقاً للاحتياجات الأمنية إلى مستوى الاستهداف الاستراتيجي لتحييد كامل قدرات المقاومة والردع في محيطها الحيوي، بحيث يكون ذلك ثمن عدم ذهابها المباشر لاستهداف الأراضي الإيرانية. وبالتالي، قد تنظر تل أبيب إلى هذه الضربة المحتملة بمنطق رفع التكلفة واستثمار الثمن المتحقق لأعلى سقف ممكن.

ختامًا، يمكن القول إن السيولة المتحققة في مشهد التصعيد الراهن تُضفي درجة من عدم اليقين والغموض بشأن الخطوة التالية للتصعيد التي يُمكن أن يُقدم عليها أطراف النزاع، وهو ما يجعل مشهد التصعيد مفتوحاً أمام جميع السيناريوهات السابقة، إلا أن افتراض مبدأ العقلانية المتصور في ميكانيزمات الردع لدى الجانبين، وكذلك لدى الدول الكبرى الراعية، والمحكوم بعامل "التكلفة المرتفعة" لتغيير قواعد اللعبة بالمنطقة بالانتقال من إدارة الصراع نحو سيناريوهات مواجهة صفرية بين الفواعل النظامية، قد يضيق اللجوء إلى خيارات من شأنها توسيع رقعة الصراع والتدمير التي لن يكون أي طرف بمعزل عن آثارها وتداعياتها الوخيمة.


[1]ToI Staff, PM to Iranians: Israel stands with you, you’ll be ‘free sooner than people think’, Timesof Israel, September 30, 2024. Retrieved from: https://www.timesofisrael.com/pm-to-iranians-israel-stands-with-you-youll-be-free-sooner-than-people-think/

[2]Emanuel Fabian, IDF acknowledges some Iranian missiles hit airbases, says no major damage caused, Timesof Israel, October2, 2024. Retrieved from: https://www.timesofisrael.com/idf-acknowledges-some-iranian-missiles-hit-airbases-no-major-damage-caused/

[3]Yolande Knell,Netanyahu in poll rebound after Hezbollah attacks, BBC, September 30, 2024. Retrieved from: https://www.bbc.com/news/articles/c243zempn6zo

[4]IDF acknowledges some Iranian missiles hit airbases, says no major damage caused,Op.cit.

[5]شهدت مقتل 8 جنود إسرائيليين.. ما لا نعرفه عن العديسة جنوب لبنان، موقع العربية، بتاريخ 2 أكتوبر 2024. انظر: https://ara.tv/ct5bd

[6]الجيش الإسرائيلي يصدر أوامر إخلاء لأكثر من 20 قرية وبلدة في جنوب لبنان، فرانس 24، بتاريخ 3 أكتوبر 2024. انظر: https://tinyurl.com/ycka9swr

[7]Bennett: ‘Now’ the time for Israel to destroy Iran’s nuclear program, Timesof Israel, October2, 2024. Retrieved from: https://www.timesofisrael.com/liveblog_entry/bennett-now-the-time-for-israel-to-destroy-irans-nuclear-program/

[8]Michael Dorgan, Iran attack on Israel 'ineffective' but a 'significant escalation': White House, Fox News,October 1, 2024. Retrieved from: https://www.foxnews.com/world/iran-attack-on-israel-ineffective-but-a-significant-escalation-white-house

[9]Kevin Liptak, Alex Marquardt, MJ Lee and Kylie Atwood, Biden says Israel shouldn’t strike Iranian nuclear sites, but US officials recognize it has a right to respond to attack, CNN,October2, 2024. Retrieved from: https://edition.cnn.com/2024/10/02/politics/biden-israel-iran-response?cid=external-feeds_iluminar_google

[10]COLLEEN LONG and AAMER MADHANI, Biden won’t support a strike on Iran nuclear sites as Israel weighs response to Iran missile attack, AP News,October 3, 2024. Retrieved from: https://apnews.com/article/biden-israel-iran-hezbollah-nuclear-sites-846c8779b2b95a3bebcf955c4e69cf6c

[11]"الحرس الثوري" يطلق مئات الصواريخ... ويحذر إسرائيل من الرد، صحيفة الشرق الأوسط، بتاريخ 2 أكتوبر 2024. انظر: https://shorturl.at/21Xbm

[12]الرئيس الإيراني يهدد من الدوحة بـ"رد أقسى" في حال هاجمت إسرائيل بلاده، فرانس 24، بتاريخ 2 أكتوبر 2024. انظر: https://tinyurl.com/4hwfb2ec

[13]BORRIE, JOHN, The Impact of Artificial Intelligence on Strategic Stability and Nuclear RiskinVINCENT BOULANIN (eds.),“Cold War Lessons for Automation in Nuclear Weapon Systems”, Volume I Euro-Atlantic Perspectives,Stockholm International Peace Research Institute, 2019.Accessed date: October 3, 2024. Retrieved from: http://www.jstor.org/stable/resrep24525.11

[14]ToI Staff, Poll: Two-thirds of Israelis support strike on Iran if Hezbollah attacks continue,Timesof Israel, October2, 2024. Retrieved from: https://www.timesofisrael.com/poll-two-thirds-of-israelis-support-strike-on-iran-if-hezbollah-attacks-continue/

[15]Attila Shumpelby, Olmert: "Netanyahu is ready to sell Israel's security. Netanyahu? It's not like someone infiltrated there the other day", YNET, April 13, 2021. Accessed date: October 3, 2024. Retrieved from: https://www.ynet.co.il/news/article/Hy140aGLd#autoplay

[16]د.محمد عباس ناجي، تجربة ريجان: كيف تقرأ إيران التصعيد في المنطقة؟، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بتاريخ 27 سبتمبر 2024. انظر:

https://acpss.ahram.org.eg/News/21275.aspx

[17]Barak Ravid, Israel plans massive Iran payback with Middle East on edge, Axios, October 2, 2024. Retrieved from: https://www.axios.com/2024/10/02/iran-israel-missile-attacks-response

[18]Christoph Koettl and Christiaan Triebert, Israeli Weapon Damaged Iranian Air Defenses Without Being Detected, Officials Say, New York Times,April 20, 2024. Accessed date: October 3, 2024. Retrieved from: https://www.nytimes.com/live/2024/04/20/world/israel-iran-gaza-war-news

[19]مهاب عادل، هجمات أصفهان.. تثبيت للردع أم تصعيد للحرب؟، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بتاريخ 20 أبريل 2024. انظر:

https://acpss.ahram.org.eg/News/21160.aspx