قبل أيام قليلة من التوغل البري، الذي بدأ في أول أكتوبر 2024، وصلت إسرائيل لذروة استهدافاتها لحزب الله باغتيال أمينه العام حسن نصرالله في قصف جوي غير مسبوق سحق ست مبانٍ شاهقة في الضاحية الجنوبية مساء الجمعة 27 سبتمبر الفائت. تمثل القصف بإلقاء نحو 80 قنبلة خارقة للتحصينات تزن كل منها نحو 2000 رطل في أقوى قصف استهدف العاصمة بيروت منذ انطلاق الصراع بين لبنان وإسرائيل قبل عقود[1]. وبعد نحو ساعتين، أصدرت إسرائيل أوامر إخلاء لعدد من العقارات المجاورة في الضاحية الجنوبية ثم قصفتها بشكل مماثل فيما ادعت أنه تدمير ضروري لمخازن سلاح خطير كان حزب الله يحتفظ به في أماكن محصنة تحت هذه الأبنية، الأمر الذي أسفر عن موجة نزوح غير مسبوقة لسكان الضاحية الجنوبية واضطرهم إلى افتراش الطرقات على الكورنيش ووسط المدينة في الساحات الكبيرة، وذلك لعدم توافر مناطق للإيواء سريعة التجهيز في ظل حالة من الفوضى وتباطؤ التدبير من قبل مؤسسات الدولة من هول الصدمة غير المتوقعة. فالواقع أنه ومنذ توسيع الضربات الجوية على لبنان في 23 سبتمبر الفائت، شملت موجة النزوح المناطق الجنوبية والشرقية ولكنها لم تمتد للضاحية الجنوبية حتى اغتيال نصرالله.
غموض الساعات الأولى بعد الاغتيال
سارعت إسرائيل إلى إعلان استهداف حسن نصرالله بالقصف الثقيل الذي استهدف ضاحية بيروت الجنوبية قبل دقائق من غروب شمس الجمعة 27 سبتمبر الفائت، بينما نفت مصادر مقربة من حزب الله ووكالة "تسنيم" الإيرانية الخبر وأكدت أنه بخير، لتعود المصادر الإسرائيلية وتؤكد أن وزن القنابل الذي ألقيت لا يسمح بخروج أحد حياً من موقع الانفجار، فإذا صحت معلومة وجود نصرالله بالمقر المركزي للحزب الذي تم قصفه فلابد أنه قـُتل، لتتوالى بيانات الجيش الإسرائيلي التي تؤكد نجاح عملية الاغتيال التي أودت بحياة نصرالله إلى جانب علي الكركي القائد العسكري لمنطقة الجنوب والذي كان قد نجا الأسبوع الماضي من اغتيال مشابه، إلى جانب مقتل نحو 300 من عناصر وقيادات حزب الله.
ساد الصمت كافة المصادر المقربة من حزب الله عن مصير أمينه العام طوال ساعات الليل إلى منتصف اليوم التالي. بينما استأنف الحزب بعد نحو ثلاثة ساعات إطلاق الصواريخ باتجاه شمال إسرائيل مع نشر بيانات بشأنها تتضمن المدى الذي وصلته والمواقع التي أصابتها. إذ شرع حزب الله في إطلاق صواريخ بمديين قصير ومتوسط على مدينة صفد وطبرية ثم مستوطنات ساعر وكرمائيل ومحيط نهاريا وحيفا، دون ذكر مصير نصرالله. بينما بدأت تسريبات غير مؤكدة من مقربين من حزب الله عبر وكالة "رويترز" تفيد بانقطاع الاتصال مع الأمين العام منذ قصف الضاحية مساء الجمعة[2].
وبعد نحو 20 ساعة، نعى حزب الله رسمياً أمينه العام الذي شغل هذا المنصب منذ عام 1992. بدا على حزب الله الارتباك الشديد منذ قصف الضاحية الجنوبية بشكل مكثف، حتى أن موقع القصف قد مُنع فيه التصوير أو توافد الصحفيين، بل عملت فيه قوى الدفاع المدني طوال ساعات الليل رغم توالي القصف في مناطق قريبة مما أدى إلى مقتل عدد من عناصر الدفاع المدني. بينما تأخرت بيانات وزارة الصحة اللبنانية في حصر ضحايا قصف حادثة الاغتيال بسبب صعوبة عمليات رفع الركام، إلى أن أصدرت في اليوم التالي حصيلة مجمعة لضحايا العدوان الإسرائيلي منذ أسبوعين تقدر بنحو 1800 وأكثر من 8500 من الجرحى.
كيف نجحت إسرائيل في الاختراق والتمويه؟
لا شك أن اغتيال حسن نصرالله يمثل ذروة الاستهداف الإسرائيلي منذ نشأة الصراع بين إسرائيل وحزب الله، فالرجل يشغل منصب الأمين العام منذ عام 1992 بعد اغتيال عباس الموسوي الأمين السابق والثاني في عمر حزب الله. إذ يعتبر نصرالله قائد التأسيس الثاني للحزب وانتقل به من تنظيم لا مركزي نشأ ضمن مجموعات مسلحة متناثرة في الجنوب، إلى تنظيم مؤسسي متعدد القطاعات يزاوج بين العمل العسكري والسياسي والأهلي والدعوي والاقتصادي أيضاً. وقد عملت إسرائيل بشكل دقيق على ترصد نصرالله منذ سنوات، حيث نجا الرجل من عدة محاولات اغتيال كان أبرزها خلال حرب عام 2006، ولكن مؤخراً تمكنت من تنفيذ الاغتيال الذي أدى لانهيار العشرات من المباني السكنية في الضاحية الجنوبية بفضل تراكم المعلومات استخباراتية على مدار سنوات[3].
وكانت إسرائيل قد وسّعت استهدافها للبنان بشكل كبير منذ هجمات أجهزة الاتصالات "البايجرز" و"الووكي توكي"، والتي أرادت من خلالها قطع وتعطيل الاتصالات بين القيادة والسيطرة وبين المقاتلين في الميدان الجنوبي حيث يتم إطلاق الصواريخ بشكل يومي على إسرائيل منذ نحو عام. فكان هذا العدوان بمثابة تصعيداً مباشراً يصيب بيئة حزب الله الاجتماعية وبنيته التنظيمية ودائرة اتصالاته اللاسلكية، قبل أن يتواصل التصعيد الإسرائيلي باغتيال قادة فرقة الرضوان وعلى رأسهم ابراهيم عقيل، وعدد من القيادات الأخرى. ثم اتسعت الغارات الجوية الإسرائيلية على لبنان منذ 23 سبتمبر الفائت لتشمل سائر الجنوب متخطية صور ثم صيدا و سائر قرى ومدن البقاع، قبل أن يكون اغتيال نصرالله ليلة 27 سبتمبر هو بداية الاستهداف الموسع للضاحية الجنوبية ليصل عدد النازحين اللبنانيين إلى نحو مليون نازح في أقل من أسبوع.
لا شك أن التصعيد المتدرج للهجمات الإسرائيلية قد أربك حزب الله وعطّل سرعة اتخاذ القرار على قمة الحزب لحين تقييم مستوى التصعيد الإسرائيلي كي يتم الرد عليه بشكل متناسب. فإذا بالتصعيد متصل ولا يتوقف ولا يسمح بالتقييم المرحلي، ولا يسمح بالرد الموجه لكل هجوم إسرائيلي على حدة. فما كاد حزب الله أن يوجه رده على اغتيال قادة فرقة الرضوان باستهداف قاعدة ومطار رامات ديفيد ومجمع الصناعات العسكرية "رفاييل" في حيفا، حتى بدأت إسرائيل في تنفيذ القصف الجوي المكثف، وأدخلت لبنان في مرحلة جديدة من التصعيد صُبغت بموجة كبيرة من نزوح أهالي الجنوب والبقاع إلى بيروت ومناطق لم يصل إليها القصف بعد. ثم عندما تكيف الحزب واستمر في عمليات إطلاق صواريخ بمدى متوسط على الشمال الإسرائيلي بامتداده من طبرية شرقاً إلى حيفا غرباً، صعّدت إسرائيل مرة أخرى باغتيال نصرالله وعدد آخر من القادة العسكريين لتضيف المزيد من الإرباك على أداء الحزب.
وكان التراشق الصاروخي بين الطرفين خلال العام الماضي لا يبلغ أي تصعيد إلا بشكل متناسب، قبل أن يعود مرة أخرى إلى مرحلة تهدئة روتينية بقصف في مدى قصير فقط، ثم يعقب ذلك جولة من الاتصالات تشمل مداولات لوقف إطلاق النار في مسار تفاوضي لبناني منفصل عن مسار غزة، حيث يرفض حزب الله وتعود إسرائيل للتصعيد مرة أخرى. وقد تكرر هذا النمط من التفاعل نحو خمس مرات خلال العام الماضي ولم يفلح في وقف إطلاق النار إلا مرة واحدة في الأسبوع الأخير من نوفمبر 2023 في وقف متزامن لإطلاق النار بين جبهتي غزة ولبنان. ثم كان التصعيد قبل الأخير باغتيال فؤاد شكر وإسماعيل هنية، حيث اختبرت فيه إسرائيل سرعة رد حزب الله، فقارب الرد نحو أسبوعين لتحضيره. وتخللت الأسبوعين اتصالات للتهدئة لم يوافق حزب الله على شروطها ولكنها كشفت عن مدى إنصاته واهتمامه بتلقيها وإدخالها في دائرة صنع القرار قبل تنفيذ الرد. وهنا أدركت إسرائيل النمط والوقت الذي يستغرقه اتخاذ القرار داخل حزب الله بعد كل تصعيد، فصممت تصعيداً مدوياً ومتلاحقاً لا يتناسب مع الردود المتأخرة لحزب الله، على نحو أربك صنع القرار في قمته على المدى القصير.
فالتصعيد بتفجيرات "البايجرز" و"الووكي توكي" ثم اغتيال القادة المتلاحق وصولاً للقصف الموسع كلها كانت هجمات متلاحقة في مدى زمني لا يزيد عن الأسبوعين، وهو الوقت الذي استغرقه حزب الله للرد على اغتيال شكر، القائد الأهم الذي كان قد اغتيل حتى ذلك الوقت. وبالتالي قاست إسرائيل ذروة رد فعل الحزب في أهم استهداف كان قد طال بنيته القيادية حتى تلك اللحظة فوجدته بارداً وصبوراً، فقررت المضي قدماً في خطة تصعيد أسرع من مدى صنع القرار في الحزب. كما تظاهرت تل أبيب بالاستجابة لجهود وقف إطلاق النار من خلال الوساطة الأمريكية والفرنسية ونداء وقف إطلاق النار الذي أطلقته العديد من دول العالم من نيويورك[4]، كي تحقق شرط الاتصالات الدبلوماسية التي عادةً ما يؤجل حزب الله قراره لحين فهم مداها ومدى جديتها. ترافق ذلك مع تقديم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لخطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بعدما قرر التوجه إلى نيويورك في اللحظة الأخيرة، ثم نُفذت عملية الاغتيال بعد انتهاء الخطاب مباشرةً، حيث شكل ذلك نقطة تمويه مركزية تكاملت مع سلسة التصعيدات التي قادتها إسرائيل في الأسبوعين الأخيرين ضد قادة وعناصر حزب الله ثم لبنان بشكل موسع.
وكان أبرز ما ميز نجاح إسرائيل في استهداف حزب الله في الأشهر الأخيرة هو تحقيق اختراق نوعي على مستوى أجهزة الاتصالات التي يستخدمها عناصر الحزب في التواصل فيما بينهم وبينهم وبين أعلى الهرم القيادي. فاغتيال القادة الميدانيين لحزب الله منذ بداية الحرب خاصة وسام الطويل وأبو طالب قد أوحى بأن تتبعهم يتم في الميدان، ذهاباً وإياباً، بعد تنفيذ عمليات إطلاق الصواريخ وكأن الرصد كان موضعياً من حيث تم الإطلاق، الأمر الذي أخّر اكتشاف عملية الاختراق عبر أجهزة الاتصالات التي شك في أمرها اثنان من عناصر حزب الله في منتصف سبتمبر قبل أن تفجر إسرائيل هذه الأجهزة بشكل مفاجئ.
وكانت تفجيرات "البايجرز" و"الووكي توكي" بمثابة قمة الجبل الجليدي التي أثبت هذا الاختراق، ولكن عمق ومدى الاختراق لا يزال مجهولاً مما يؤدي لتأويلات متعددة حول مدى فقدان السيطرة والقيادة داخل الحزب. الثابت أن الاختراقات الأخيرة تمت عبر صفقة أجهزة اتصالات تمت خلال الأشهر الخمس الأخيرة، ولكن هذا لا ينفي أنه ربما صفقات أخرى أقدم كانت قد تسببت في اختراقات أعمق. عندما فجرت إسرائيل أجهزة "البايـجرز" قبل اكتشاف الثغرة فيها واستبعادها، قررت بذلك الاستغناء عن أدنى وسيلة اختراق في سلم متعدد الاختراقات، وهو ما تأكد بعد أن تم استبعاد وسائل الاتصالات الحديثة على المستوى القيادي ثم تكررت الاستهدافات بل زادت فداحتها. أو في تأويل آخر، فإن الكشف عن الخرق في أجهزة الاتصالات جعل حزب الله يستبعد الاتصالات تماماً سواء السلكية أو اللاسلكية من مداولات صنع القرار ويعود إلى المداولات عبر الوسائل القديمة وخاصة الاجتماع وجهاً لوجه، فتتبعت إسرائيل أحد القادة، مما سهل عليها استهداف الجميع.
وهذا ما كشفت عنه تسريبات بخصوص تنفيذ اغتيال نصرالله، حيث وصلت معلومة توقيت اجتماع نصرالله في مقر حزب الله بنائب قائد فيلق القدس عباس نيلفروشيان. ولعل نقطة الاختراق جاءت من الجانب الإيراني على الأرجح من خلال تتبع نيلفروشان نفسه. ولكن علم إسرائيل المسبق بموقع المقر ومدى عمقه لنحو 30 متر تحت الأرض هي ثمرة عملية تراكم بيانات ومعلومات وفرتها شبكة عملاء على الأرض في محيط حزب الله[5]، وهو ما أدى لمعرفة مواقع هامة تتبع الحزب وخاصة العمق الذي تقع فيه تحت الأرض، بما يحدد استخدام قنابل بأوزان وقدرة تفجيرية معينة تضمن حتمية القتل حين الاستهداف. وكان نصرالله ينفي مراراً وتكراراً وجود عملاء أو خرق بشري داخل حزب الله ويعزو الخروقات التي تحدث باستمرار إلى أجهزة الاتصالات الحديثة التي تستخدم للتجسس أو التتبع، وليس لوجود عملاء لإسرائيل داخل جسم الحزب. وكانت وسائل إعلام لبنانية قد تحدثت مؤخراً بشكل مقتضب عن اعتقال أحد العملاء في الجنوب اللبناني ويعمل مقاولاً للبناء وسبق له أن نفذ مشاريع لصالح مؤسسات تابعة لحزب الله لكونه شقيق أحد القيادات الكبرى بالحزب دون أن يتم الكشف عن أسماء[6]، وهو ما يحمل دلالات خطيرة عن عمق وسعة الاختراق بما يوحي بأن إسرائيل ربما نجحت في تجنيد بعض ممن نفذوا لحزب الله مشروعات التحصين الخاصة بمخازن الأسلحة أو الأنفاق أو مواقع كمون العناصر وإطلاق الصواريخ في الجنوب.
أما عن حجم الانكشاف الذي يعاني منه حزب الله على مستوى بنيته التنظيمية والقيادية فيرجعه المحللون إلى قتاله لسنوات في سوريا إلى جوار قوات إيرانية وسورية سهلة الاختراق والتعقب[7]، مما سهل عملية كشف أنظمة عمله على المستوى الميداني، فضلاً عن كشف دائرة الاتصالات بين قادته، وبنية القيادة وتولي المسئولية داخل الحزب[8]. فكل من حارب في سوريا أصبح مكشوفاً من جانب إسرائيل على خلاف سنوات ما قبل قتال الحزب في سوريا، حيث كان محصوراً في مسرح عمليات غامض نسبياً داخل الأراضي اللبنانية. كما أن إسرائيل قد جندت شبكة عملاء تنتشر في مناطق سكن وإقامة عناصر وقيادات الحزب لترصد عن قرب تحركاتهم وترددهم على مختلف المناطق بما ساعد على مراكمة قاعدة بيانات ضخمة وخرائط تحركات تمثل بنكاً من الأهداف اللانهائية.
هل يستوعب حزب الله الخسائر ويُبعث من تحت الرماد؟
لا شك أن الخسائر التي مُني بها حزب الله خلال الأسبوعين الأخيرين تعد هائلة للغاية على مستوى الحجم والتتابع والأهمية. فإسرائيل سعت من خلال هذه الضربات إلى شل عملية نقل المعلومات والأوامر داخل الحزب، ثم شل عملية صنع القرار على المستوى القيادي كي ينعكس ذلك على عمليات الحزب فتتوقف بالتبعية ويسهل عليها تنفيذ التوغل البري. ولكن الافتراض بأن عمليات الحزب في الجنوب تتوقف على تلقي القرارات والأوامر بشكل يومي بما يجعل نشاط الجنوب معتمداً على اتصالاته بالقيادة هو افتراض خاطئ. كما أن افتراض أن ضرب القيادة إلى حد إنهاء وجود أغلب الوجوه البارزة فيها سيؤدي تلقائياً لشل عمل حزب الله على الأرض هو افتراض خاطئ أيضاً، لأنه يقيس العمل التنظيمي للحزب على عمل الجيوش النظامية التي تتلقى توجيهات قيادية بشكل مستمر. فحزب الله نشأ بشكل لا مركزي من مجموعة من الخلايا المسلحة التي عملت في الجنوب لسنوات طويلة بشكل مستقل، ثم قررت في مرحلة ما أن تتوحد مركزياً لتباشر عملها على نحو أكثر احترافية، وهو ما يعني أن الصفة الطاغية على عمل الحزب على المستوى الميداني هي العمل المستقل المتوازي، الذي لا يخضع بالضرورة للتراتبية الهرمية التي تفترضها الجيوش النظامية.
ورغم قوة وفجائية تفجيرات أجهزة اتصالات الحزب، لابد من توضيح أنها كانت نسبة ضئيلة من أجهزة الاتصالات اللاسلكية التي يعتمد عليها عناصر الحزب. وشبكة الاتصالات اللاسلكية هي شبكة ثانوية استحدثها حزب الله في السنوات الأخيرة عندما اضطر للعمل خارج ميدانه التقليدي، بمعنى أن القتال في سوريا هو الذي دفع حزب الله إلى الاعتماد المتزايد على الأجهزة اللاسلكية. ولكن القتال في لبنان في الجنوب أو البقاع لا يحتم مثل هذا الاعتماد لأن الاتصال الأساسي هو اتصال سلكي. وكانت محاولة تفكيك شبكة اتصالات الحزب السلكية هي التي أدت لاقتتال داخلي عنيف سيطر على إثره حزب الله على بعض الأحياء السُنية في بيروت في مايو عام 2008، ونشبت على خلفية ذلك أزمة سياسية طاحنة لم تُحل إلا بإبرام اتفاق الدوحة الذي أنتج تقاسماً جديداً للحقائب الوزارية في حكومة وحدة وطنية. فإذا افترضنا أن الشبكة السلكية لا تزال قائمة ويتم صيانتها باستمرار، فإن دائرة الاتصالات في الحزب بين العناصر والقيادات لا تزال قائمة ولم تتأثر كثيراً بالتفجيرات الأخيرة.
ولكن التحدي الأكبر بالنسبة للحزب هو ملء الشغور في المواقع القيادية بعد الاستهداف المتواتر والسريع لأبرز قيادات الصف الأول والثاني من الجيل المؤسس، وهو ما أشار إليه نعيم قاسم نائب الأمين العام في 30 سبتمبر الفائت في ظهوره المتلفز الأول بعد اغتيال نصرالله، حيث قال أن عميلة الاستبدال سلسة وتتم وفق الهيكل التنظيمي والخطط البديلة للأفراد والقادة التي وضعها نصرالله لملء الفراغات في حال الطوارئ[9]. كما أكد قاسم أن الحزب جاهز للتصدي إلى أي توغل بري، وهذه الجهوزية تعود أيضاً إلى تدريب عناصر الحزب لنحو عام كامل على إمكانية تحول التهديدات الإسرائيلية نحو لبنان. فسبق أن حاول متسللون من لواء غولاني العبور إلى الحدود اللبنانية، ولكن العناصر الحدودية لحزب الله اشتبكت معهم فانسحبوا. كان ذلك في سياق التصعيد بين إسرائيل وإيران منتصف أبريل 2024 في أعقاب الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق. فالراجح أن خطط حماية الحدود وصد التوغل البري جاهزة منذ زمن ولا تحتاج لتوجيهات قيادية جديدة كي تدخل حيز التنفيذ فيكفي أن يبدأ التوغل كي تبدأ.
يبقى لدى حزب الله تحدي ترميم الروح المعنوية لمحاربيه وإعادة حشدهم نفسياً للقتال بعد الهزائم المتعاقبة، وهو أمر غاية في الصعوبة خاصة مع غياب الشخصية الكارزمية الأولى التي أتقنت التواصل مع الجمهور طوال ثلاثة عقود. غير أن ظهور نعيم قاسم بشكل متماسك وواثق ومسيطر أسهم في إضفاء صفة الاستمرارية في قمة هرم الحزب، حيث أشار في كل ما أشار إليه إلى نصرالله. فهو الذي أعد الخطط وهو الذي وضع الهيكل التنظيمي لاختيار القيادة السياسية والعسكرية للحزب بشكل متوالٍ بعد اختفائهم. ثم عاد قاسم وأشار إلي أهمية اعتبار نصرالله دائم الوجود في الحزب في محاولة للشحذ النفسي الذي يُتوقع أن يؤثر إيجابياً في المقاتلين ويدفعهم للعمل بجدية ثأراً لاغتياله.
اهتم قاسم أيضاً بتوجيه الثناء والشكر لجهود الدولة والمجتمع والمؤسسات الأهلية اللبنانية في الاستجابة للهجمات المتتالية التي أصابت الحزب وسائر لبنان. فالراجح أن حزب الله يسعى للتركيز على الميدان العسكري بشكل رئيسي في الفترة المقبلة سواء في معركة الدفاع عن لبنان أو في معركة البقاء التي يخوضها لإثبات استمرار وفعالية قدراته العسكرية. وبالتالي فقد أحال ملفات إدارة الجبهة الداخلية للحكومة اللبنانية من حيث تنظيم النزوح والإغاثة والخدمات الطبية وأيضاً الاتصالات الدبلوماسية. فما كاد نعيم قاسم ينهي كلمته حتى أطل رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي مطلقاً عدداً من المواقف الهامة التي توصل إليها بالتشاور مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، ما يعني ضمناً رضاء حزب الله عنها. فأعلن ميقاتي تأكيده مرة أخرى على تمسك لبنان بجهود القوى الدولية التي دعت من نيوريوك لوقف إطلاق النار بشكل فوري منذ يوم 26 سبتمبر الفائت. كما أعلن عن استعداد لبنان بشكل تام لتطبيق القرار 1701 فور وقف إطلاق النار، وأعلن جهوزية الجيش اللبناني للانتشار في الجنوب جنباً إلى جنب مع قوات اليونيفل الدولية. ومساءً، بدأ الجيش فعلياً في الانتشار في بعض النقاط الحدودية جنوباً على التوازي مع جدية تهديدات التوغل البري الإسرائيلي. ويذكر أن 12 جندياً من الجيش اللبناني قد قُتلوا مؤخراً منذ بداية التصعيد بين إسرائيل وحزب الله. أما في الشأن الداخلي فعبر ميقاتي عن اتفاقه مع بري على ضرورة انتخاب مرشح توافقي لرئاسة الجمهورية فور وقف إطلاق النار، الأمر الذي يعني تطوراً هاماً في موقف الثنائي الشيعي الذي طالما تمسك بمرشح مفضل- هو سليمان فرنجية- لرئاسة الجمهورية، فيبدو أن التنازل لصالح مرشح توافقي أصبح أمراً محسوماً.
بينما عبر وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو الذي زار لبنان في 30 سبتمبر الفائت عن أن الحل الدبلوماسي الذي يفترض هدنة مؤقتة فورية في لبنان تمهيداً للوصول لتسوية شاملة في غضون ثلاثة أسابيع لا يزال قائماً ويدعو كل الأطراف للانخراط فيه. حذر بارو إسرائيل من التقدم في خطط التوغل البري وحمّل حزب الله جزءاً من المسئولية في شأن ما آلت إليه الأمور ثم عاد وذكّر بأن الحل الدبلوماسي لا يزال مطروحاً. وكان بارو قد اجتمع برئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب وقائد الجيش والبطريرك الماروني فيما يبدو أنه محاولة أخيرة للحل الدبلوماسي قبل التوغل. وقدمت فرنسا للبنان خلال زيارته مساعدات طبية تزن 11 طناً لدعم المخزون الطبي لمعالجة الحالات الطارئة ووعدت بمساعدات أخرى تنسقها وتسلمها للأمم المتحدة لتتولى توزيعها في لبنان. وبخلاف التصريحات الداعمة للبنان والمؤكدة على أهمية الحل الدبلوماسي، تمنى بارو ألا تستكمل إسرائيل خطط التوغل العسكري وألا يبالغ حزب الله في توجيه الرد على إسرائيل.
يظل المحدد الأهم في مدى استيعاب حزب الله للخسائر هو الوصول بشكل سريع لمصدر الاختراق الذي يعاني منه، والذي يبدو أنه يتعلق بحلقة اتصالاته مع إيران. فالانكشاف الكبير الذي أصاب الحزب ولم يصب حماس -التي رفضت القتال في سوريا- يعود إلى أنه وثيق التشاور والتواصل مع طهران، مما يحتم إما سد الثغرة سريعاً أو وقف هذا التواصل مؤقتاً. من جانبها، تراوحت التصريحات الإيرانية منذ اغتيال نصرالله بين التهديد بعواقب هذا الاستهداف على إسرائيل وبين الوعد بدعم حزب الله ولبنان ضد الاعتداءات الإسرائيلية المتزايدة. وكان بعض المحللين قد أشاروا إلى أن اللغة الدبلوماسية المتساهلة التي اعتمدتها إيران منذ تصعيد العدوان الإسرائيلي الأخير هي التي أدت إلى تمادي إسرائيل وصولاً لاغتيال نصرالله. إذ يبدو أن إيران موقنة بوجود فخ محكم لاستدراجها وتوريطها في حرب شاملة لا ترغب فيها قبل أسابيع من الانتخابات الأمريكية. فهي تعول على استمرار الديمقراطيين في الحكم وتعتقد أن أي تصعيد في مستوى انخراطها في الصراع قد يؤثر على مزاج الناخب الأمريكي ويعزز من فرص نجاح ترامب، وهو ما يضع إيران في معضلة حقيقية، بين عدم رغبتها في التصعيد الإقليمي وبين جدية التهديد الذي يواجه حزب الله بالنظر إلى اختلال توازن القوى مع إسرائيل وأن أي محاولة لتعديل هذا التوازن قد تؤدي لاستدراجه لحرب موسعة.
وفي هذا الإطار، يزيد الترقب بشأن الخطوة التالية التي ستطغى على المشهد، هل ستكون لرد حزب الله على اغتيال نصرالله أم ستكون التمادي الإسرائيلي بالتوغل البري، أم ستكون للجهود الدبلوماسية الضاغطة من أجل وقف فوري لإطلاق النار، سواء كان وقفاً متزامناً مع غزة أم مستقلاً في جبهة لبنان فقط. فيما يتعلق بالرد الذي يعد له حزب الله أو ما إذا كان يعد رداً من الأساس، كان نعيم قاسم غامضاً في هذا الشأن بل أكد فقط على استعداد حزب الله لصد التوغل البري دون أن يذكر الرد المفترض أو المدى الذي قد يبلغه. إذ أكد فقط على استمرار حزب الله في عملياته مدركاً أن الحرب قد تطول، وهو ما يعني الاقتصاد في استخدام قدراته العسكرية. بينما اعترضت البوارج الإسرائيلية مُسيّرة تقترب من منصة الحفر البحري في حقل كاريش للغاز ليلة 29 سبتمبر الفائت. وكانت صواريخ حزب الله قد طالت خلال الأيام الماضية طبرية وصفد وحيفا واستخدمت صواريخ فادي 1 و2 و3 وصاروخ فلق 1 و2 الذي وصل إلى مستوطنات شرق القدس مثل معاليه أدوميم على بعد 150 كم، فضلاً عن صاروخ نور ذي المدى المتوسط لنحو 120 كم. بينما حشد الجيش الإسرائيلي خمس فرق عسكرية من قواته شمالاً استعداداً للتوغل البري، دون أن يتحدد توقيت أو مدى اتساع هذا التوغل. ولعل القرار الإسرائيلي في هذا الشأن يعتمد على تقييم مدى تأثر حزب الله بالضربات الأخيرة وبالتالي ما حجم قدراته العسكرية التي ستقابلها القوات الإسرائيلية المتوغلة بما ينعكس على حجم قدرتها للتقدم وإنجاز المهام.
أما فيما يخص الجهود الدبلوماسية فتبدو عقدة الوصول لصفقة على جبهة لبنان دون غزة لا تزال قائمة، ولعل احتمالات التصعيد أقرب للتحقق من احتمالات التهدئة، خاصة أن قبول حزب الله اليوم بفصل المسارات سيكون اعترافاً مبكراً بالهزيمة حتى قبل أن يبدأ التوغل البري. بل الأرجح أن الطرفين سيباشران التصعيد لقياس درجة هيمنة كل منهما على ميدان المعركة، فإذا كانت إسرائيل قد تفوقت في المضمار الجوي، فإن حزب أقرب للتفوق في المواجهة البرية لأنه يدرك تفاصيل الأرض ويتحصن بها ويجيد التلاعب بالطبوجرافيا ضد تقدم القوات المحتلة، هذا بافتراض أن الاختراق لم يطل بنيته التحتية الحدودية. فإذا ما أثبت حزب الله خلال الأيام القادمة تماسكه واستمرار احتفاظه بقدراته العسكرية ربما قد تُحجم إسرائيل عن توسيع التوغل البري مخافةً أن تتعرض لخسائر تقلل من وهج تفوقها الجوي خلال الأيام الماضية. ولكن في المقابل، فإن إغراء القوة الذي تتمتع به إسرائيل في الوقت الراهن ربما سيدفعها لتوسيع التوغل البري طمعاً في تحقيق مكاسب مطلقة. فيما ستواصل أيضاً سياسة التمويه بالتصريحات المتضاربة والمشاغلة بالمفاوضات والحلول الدبلوماسية حتى تحقق ضربتها وتضمن فعاليتها وعنصر المفاجأة فيها.
[1] "80 قنبلة خارقة للتحصينات زنة كل منها 100 طن"، يورونيوز عربي، 28-9-2024، t.ly/pr846
[2] "انقطاع الاتصال مع حسن نصرالله"، سويس انفو، 28-9-2024، t.ly/hHZcC
[4] "نداء دولي: مقترح وقف مؤقت لإطلاق النار في لبنان وصولاً لاتفاق شامل"، موقع الميادين، 26-9-2024، t.ly/TcPTA
[5] "النظرية الأقرب لتنفيذ الاغتيال"، جريدة النهار، 30-9-2024، t.ly/BL-LU
[6] "القبض على عميل لإسرائيل"، موقع تلفزيون روسيا، 19-9-2024، t.ly/9qoZT
[7] حمزة المصطفى، "عن اغتيال نصرالله والحزب محاولة لقراءة موضوعية"، موقع تلفزيون سوريا، 29-9-2024، t.ly/vSyUv
[8] ديار بامرني، "جواسيس أم اختراق تكنولوجي كيف قتلت اسرائيل نصرالله؟"، موقع الحرة، 29-9-2024، t.ly/KCxzn
[9] "قاسم في أول إطلالة بعد اغتيال نصرالله"، جريدة النهار، 30-9-2024، t.ly/sS87P