تسعى العديد من الدول، خاصة التي تشهد أوضاعًا اقتصادية ومالية غير مستقرة، إلى تعظيم استغلال مواردها الاقتصادية داخل حدودها، سواء عبر الاستهلاك المحلي أو التصدير للخارج، وتُعد السلع الاستراتيجية، مثل مصادر الطاقة الأحفورية، وكذا المعادن المستخدمة في إنتاج واستخدامات الطاقة المتجددة، من السلع التي يتم التركيز عليها في الوقت الراهن، الأمر الذى ألقى الضوء على ملف الموارد البحرية الموجودة في مناطق النزاعات الحدودية المشتركة، حيث إن عدم استغلالها في ضوء تزايد الحاجة إليها يكبِّد الدول تكلفة فادحة تتراكم تأثيراتها مع استمرار عدم التوصل لاتفاق ترسيم الحدود البحرية لبدء استخراج واستغلال تلك الموارد.
ومن بين الإشكاليات التي تواجه منطقة الشرق الأوسط وجود بؤر توتر كامنة بسبب استمرار الخلاف على ترسيم الحدود البحرية في بعض المناطق، خاصة مع ارتباط ذلك الخلاف بموارد ضخمة، سواء من النفط أو الغاز الطبيعي أو الثروات المعدنية التي قد يتم اكتشافها مستقبلًا. إلا أن التوقيت الحالي قد يكون الأنسب لإحداث خرق في ذلك الملف لعدد من الاعتبارات، على رأسها وجود حالة من التهدئة النسبية بين الدول المعنية بالنزاع البحري، وحاجتها الملحة لدعم اقتصاداتها عبر استغلال تلك الموارد، سواء عبر تحقيق الاكتفاء الذاتي منها أو الاستفادة من عائدات تصديرها، يتزامن ذلك مع تطورات اقتصادية ضاغطة، إقليمية وعالمية، تدفع نحو هذا الاتجاه.
في هذا الصدد، تركز الدراسة على ملف ترسيم الحدود البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي من زاوية التكلفة الاقتصادية الناتجة عن عدم الترسيم، لما لذلك من أهمية في ضوء تزايد المشهد الضبابي للاقتصاد العالمي، وتزايد حالة عدم اليقين، مع تزايد حدة المنافسة بين الدول، وتوجهات إعادة هيكلة الاقتصادين العالمي والإقليمي على حد سواء. لذا، فإن تعظيم استغلال دول المنطقة لمواردها يقلص من الآثار السلبية الناتجة عن تلك التطورات المحتملة، ويجعلها قادرة بشكل أكبر على امتصاص الصدمات والتكيف مع التغيرات المتسارعة.
في الجزء الأول من الدراسة، تم إلقاء الضوء في نبذة مختصرة على البيئة القانونية الدولية التي تشكلت على أساسها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1982، ومجالات تركيزها، ومدى فعاليتها في حل النزاعات البحرية بين الدول، وذلك كمقدمة عن الإطار القانوني الحاكم لعملية ترسيم الحدود البحرية، التي بمقتضاها تم التركيز على مبدأ الانتفاع العادل للموارد البحرية، ومن ثم تم التطرق إلى أهمية الموارد البحرية، خاصة تلك التي تعتبر محل نزاع بين الدول في المناطق الحدودية المشتركة، والتي تتركز في المعادن، خاصة التي يطلق عليها «المعادن الحرجة»، إضافة إلى مصادر الطاقة الهيدروكربونية، أي النفط والغاز الطبيعي، لتوضيح الأسباب التي تدفع الدول للإصرار على الحصول على أقصى المكاسب من عملية الترسيم.
تناول الجزء الثاني من الدراسة طبيعة الخلافات بشأن الحدود البحرية في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا في شرق البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي، مع استعراض بعض نماذج الخلاف، ومدى حدتها، والتعقيدات المصاحبة لعملية ترسيم الحدود البحرية، سواء الخارجية أو الداخلية، وتم ربط ذلك كله بحجم الفرص المهدرة من استغلال النفط والغاز الطبيعي، لتوضيح الأثر الاقتصادي السلبي الناتج عن عدم ترسيم الحدود البحرية.
في الجزء الأخير من الدراسة، يستعرض الباحث رؤية عامة للتنويه عن الفرص الممكنة لتجاوز معضلة جمود ملف الحدود البحرية، والتي تتركز في محاولة تجاوز الخلافات السياسية والتفاوض بشكل مباشر لإنهاء ذلك الملف بشكل جذري، وإن تعذر ذلك، فإنه لا بد من التوصل لصيغ التعاون العابر للحدود، تضمن استغلال الموارد البحرية في المناطق المشتركة بشكل عادل للأطراف المعنية، أو اللجوء إلى القضاء الدولي أو التحكيم الدولي كمناص أخير، هذا ويُعد الوقت الراهن هو الأنسب لبدء التحرك لإحداث خرق في ذلك الملف لتدارك الخسائر الاقتصادية الناتجة عن عدم الترسيم، وفق ما تم توضيحه في الدراسة.