دشن الرئيس الإيرانى مسعود بزشكيان زياراته الخارجية بزيارة رسمية للعراق خلال الفترة من 11 إلى 13 سبتمبر 2024، وذلك تلبية للدعوة التى وجهها له رئيس الوزراء العراقى محمد شياع السودانى، التقى خلالها بعدد من المسئولين ورؤساء الأحزاب والقوى السياسية من الشيعة والسنة، كما زار إقليم كردستان والتقى فى أربيل برئيس الإقليم نيجرفان بارزانى، ورئيس الحزب الديمقراطى الكردستانى مسعود بارزانى، وزار أيضاً العتبات المقدسة فى النجف، وفى كربلاء، واختتم برنامجه بزيارة لافتة لمدينة البصرة.
زيارة بزشكيان عكست العديد من الدلالات سواء من حيث كونها الأولى فى سجل زياراته الخارجية، أو من حيث توقيتها الإقليمى والدولى فى ظل المتغيرات الحالية فى المنطقة، أو من حيث القضايا التى نوقشت فى اجتماعات بزشكيان ورئيس الوزراء شياع السودانى، والتى ارتبطت بالتعاون الثنائى على عدة مستويات أبرزها التعاون فى المجالين الاقتصادى والأمنى.
دلالات متعددة
رغم أن الزيارة جاءت تلبية لدعوة رئيس الوزراء العراقى، إلا أنها تعكس مدى أهمية العراق فى السياسية الخارجية الإيرانية بالنسبة للرئيس الجديد؛ وهى زيارة يمكن تصنيفها تحت بند إعادة "تأكيد النفوذ الإيراني" على أحد أهم محاور مشروع إيران الإقليمى فى المنطقة وهو العراق؛ لاسيما وأن العلاقات بين البلدين تشهد وعلى مدار العام عدة تعقيدات تزامنت مع تداعيات عملية "طوفان الأقصى" التى قامت بها المقاومة الفلسطينية فى أكتوبر 2023، وما تلاها من عدوان إسرائيلى على قطاع غزة، وما قابله من عمليات الإسناد العسكرية التى قامت بها المليشيات العراقية المسلحة فى سياق كونها ضمن "محور المقاومة" الإقليمى الذى ترعاه إيران؛ مما ساهم فى رفع مستوى التوتر بين العراق والولايات المتحدة التى لازالت تمتلك تواجداً عسكرياً فى العراق يتمثل فى القواعد العسكرية الخاصة بالتدريب الأمنى والاستخباراتى. وفى هذا السياق، ثمة عدة دلالات تعكسها زيارة الرئيس الإيرانى الجديد للعراق:
أولها، إعادة التأكيد والتذكير بأن العراق لا يزال "منطقة نفوذ إيرانية" على المستوى السياسى والأمنى والاقتصادى؛ وأن طهران بصدد إعادة تأكيد هذا الوضع عبر الساحة العراقية من خلال ثلاثة مستويات من التفاعل: المستوى الأول، ضمان استمرار علاقة التعاون الشاملة بين البلدين قائمة كما هى، وربما جعلها أكثر تطوراً، بالنظر إلى حجم مذكرات التفاهم التى وقعت بينهما خلال تلك الزيارة وهى 14 مذكرة فى مجالات مختلفة، أبرزها ما يتعلق بالاقتصاد وتحديداً فى مجالات استيراد العراق الغاز الطبيعى والكهرباء من إيران، على خلفية كونه من الدول المستثناة من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، فضلاً عن رغبة إيران فى الاستحواذ على السوق العراقية بالكامل باعتبارها سوقاً استهلاكية ضخمة مفتوحة ومستثناة من نظام العقوبات. وفى هذا الإطار، تسعى طهران، وفقاً لمصادر اقتصادية، إلى رفع حجم التبادل التجارى بين البلدين ليبلغ 20 مليار دولار خلال عام 2027، بدلاً من 10 مليار دولار هى قيمة التبادل التجارى حتى يوليو 2024 الجارى.
المستوى الثانى، استمرار إيران فى رعاية القوى السياسية الشيعية وأذرعها العسكرية ودعمها لها، بالنظر إلى اللقاءات التى عقدها بزشكيان مع قادة وممثلى تلك القوى فى بغداد. والمستوى الثالث، ضمان وجود نوع من "التفاهم" مع باقى القوى السياسية الأخرى المُشكِّلة لخريطة التفاعلات السياسية فى العراق بخلاف القوى السياسية الشيعية، حتى وإن كانت لها علاقات تعاون مباشرة مع الولايات المتحدة، كالقوى السياسية الكردية تحديداً؛ وذلك من خلال زيارته لإقليم كردستان العراق ولقاءاته فى أربيل مع رئيس الإقليم نيجرفان بارزانى، ومع زعيم الحزب الديمقراطى الكردستانى مسعود بارزانى، ولقاءاته كذلك فى السليمانية مع قادة وممثلى حزب الاتحاد الكردستانى.
وثانيها، تفاعلات حالة التدافع الإيرانى-الأمريكى فى المنطقة على هامش الحرب الإسرائيلية على غزة، وهى حالة تزداد توتراً وتعقيداً، بالنظر إلى دور المليشيات العراقية الموالية لإيران وتفاعلاتها ضمن "محور المقاومة"، والتى خففت من حدة تفاعلها بشأن استهداف القواعد الأمريكية فى العراق وسوريا تحت ضغوط مارسها عليها رئيس الوزراء شياع السودانى، لكنها فى الوقت نفسه اتجهت إلى استهداف العمق الإسرائيلى فى حيفا وأسدود ومن قبلهما إيلات. كما ازدادت حدة التوترات فى المنطقة تأزماً على وقع اغتيال رئيس المكتب السياسى لحركة حماس الفلسطينية إسماعيل هنية خلال زيارته لطهران للمشاركة فى تنصيب بزشكيان، وما تلى ذلك من توترات انتظاراً للرد الايرانى المحتمل، والذى لايزال حتى كتابة هذه السطور محل دراسة من قبل طهران. ومن ثم فإن توجه الرئيس الإيرانى الجديد بزشكيان فى أولى زياراته الخارجية إلى العراق، من منطلق كونه "ساحة نفوذ إيرانية" وفى ظل هذه التطورات، يشير إلى أن حالة التدافع الإيرانية-الأمريكية فى المنطقة وعبر الساحة العراقية ستظل قائمة، وإن لم يُعرف بعد مدى التغير الذى يمكن أن تشهده تفاعلات هذه الحالة فى ظل رئاسة بزشكيان. بمعنى أكثر توضيحاً، فإن بزشكيان "قد" يستهدف رسم مسار تفاعلي جديد لا يغفل ما تم تأسيسه من مراحل نفوذ تراكمت على مدار العقود الماضية، لكنه فى الوقت نفسه مسار "قد" يشهد ملامح مرحلة جديدة تعكس تفاعلاته كرجل سياسى إصلاحى، بما قد يفتح الباب أمام احتمالات تهدئة مسار التفاعلات الإيرانية-الأمريكية بشأن العديد من القضايا انطلاقاً من الساحة العراقية، بهدف الحفاظ على مصالح إيران فى المنطقة، والحفاظ كذلك على برنامجها النووى قائماً.
وثالثها، تهدئة حدة التوتر التى تشهدها العلاقات الإيرانية مع إقليم كردستان العراق، من خلال قيام بزشكيان بزيارة الإقليم والتى عبر خلالها باللغة الكردية عن وجود "علاقات جيدة" بين إيران وحكومة إقليم كردستان فى إشارة تقارب ودية. وقد اجتمع بزشكيان برئيس الإقليم نيجرفان بارزانى وزعيم الحزب الديمقراطى الكردستانى مسعود بارزانى فى أربيل، وزار كذلك مدينة السليمانية مقر حزب الاتحاد الكردستانى. جدير بالذكر أن العلاقات بين إيران وحكومة الإقليم ليست فى أفضل حالاتها؛ نظراً للعلاقات الوطيدة بين حكومة الإقليم والولايات المتحدة من ناحية، وللاتهامات الإيرانية المستمرة لأربيل بتماهيها مع وجود نشاط استخباراتى إسرائيلى للموساد فى الإقليم من ناحية ثانية، وبناءً على هذا استهدفت إيران مقرات تابعة للأحزاب الكردية فى الإقليم بهجمات عسكرية واسعة النطاق فى يناير 2024. هذا بخلاف استكمال مراجعة مذكرات التفاهم الأمنية المتعلقة بضمان أمن الحدود الإيرانية الشمالية مع الإقليم؛ لاسيما بعد الاتفاق الموقع بين طهران وبغداد فى مارس 2023، والقاضى بتطهير منطقة الحدود من عناصر المعارضة الكردية الإيرانية المسلحة؛ ونزع سلاحها، وإبعادها عن الحدود المشتركة. وجدير بالذكر أن المراجعة الأولى الخاصة بتنفيذ بنود الاتفاق الأمنى فى هذا الشأن ستُجرى فى 19 سبتمبر الجارى. وتجدر الإشارة أيضاً إلى تعهد حكومة الإقليم بالامتثال لبنود الاتفاق الموقع بين إيران والحكومة المركزية فى بغداد؛ والقاضى بإغلاق عدد كبير من المقرات التى تتخذها العناصر الكردية الإيرانية المعارضة، المدعومة من قبل الحزب الديمقراطى الكردستانى، مأوى لها فى منطقة الشريط الحدودى بين البلدين.
ورابعها، تزامن زيارة بزشكيان مع إعلان وزير الدفاع العراقى عن اتفاق واشنطن وبغداد على جدول زمنى يتضمن تقليص الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق عبر مرحلتين: الأولى، يتم فيها تفكيك القواعد العسكرية فى محيط بغداد ومطارها الدولى وقواعد المستشارين العسكريين، وتمتد على مدار الفترة من سبتمبر 2024 الجارى وحتى سبتمبر 2025 القادم. والثانية، تمتد من سبتمبر 2025 وحتى سبتمبر 2026، وتشمل تفكيك القواعد الأمريكية فى إقليم كردستان. وفى حالة إتمام الخروج العسكرى الأمريكى وفقاً لهذا الجدول، فإن هذا سيعكس دلالة مهمة مؤداها أن طهران نجحت فى مخطط المواجهة مع الولايات المتحدة بشأن العراق الذى سيصبح حينها منطقة نفوذ إيرانية خالصة.
وفى المقابل، ستصبح أربيل فى أضعف حالاتها فى مواجهة سيطرة الحكومة المركزية فى بغداد، وهو ما تدركه إيران جيداً. لذا، يسعى بزشكيان للمسارعة فى خطوات "تحسين العلاقات المتوترة" مع حكومة الإقليم وإعادة صياغة علاقات سياسية جديدة تستفيد فيها إيران من ناتج الخروج الأمريكى المحتمل من الإقليم والعراق ككل.
وخامسها، توسيع نطاق النفوذ الاقتصادى الإيرانى فى مدن كانت تعتمد على الاستثمارات العربية لاسيما الاستثمارات الخليجية؛ حيث عكست زيارة بزشكيان لمدينة البصرة العراقية، الواقعة أقصى جنوب العراق، رسالة واضحة ذات بعد اقتصادى مؤداها أن طهران لن تتوقف فى سعيها للاستحواذ على السوق العراقية عند حدود معينة، وأن المدن التى كانت وجهة للاستثمارات العربية الخليجية تحديداً باتت هى أيضاً ضمن أهدافها الاقتصادية، لاسيما مع استكمال مشروع ربط "البصرة – الشلامجة"، وهو خط سكك حديد يربط بين مدينة البصرة وبين معبر الشلامجة الحدودى مع إيران، تم تدشينه فى سبتمبر 2023.
وفى الأخير، يمكن القول إن زيارة الرئيس الإيرانى بزشكيان للعراق كأولى زياراته الخارجية عكست مدى أهمية العراق فى أجندة وأولويات السياسة الخارجية الإيرانية، كما عكست أبعاداً سياسية واقتصادية وأمنية كبيرة فى سياق العلاقات بين البلدين، وأنها قد تؤشر إلى مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية فى ظل وجود رئيس إصلاحى فى السلطة، وأن هذه العلاقات ربما سيُعاد صياغة بعض أهدافها على هامش التطورات الراهنة فى المنطقة، وما يرتبط بها من تأثيرات على كلا البلدين.