د. أيمن السيد عبد الوهاب

نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية والخبير فى شئون المجتمع المدنى

 

اليقين بالمستقبل وتنمية الشعور بالأمل، نقطة انطلاق للحكم على مدى فعالية أدوار الطبقة الوسطى في تنمية المجتمع، والمحافظة على هويته وشخصيته. فهى مرآة القيم والتماسك المجتمعى وحارسة الهوية، وهى المؤشر الدال على مسارات التحول المجتمعى وعمقه، وهى أيضا الجسر الحاكم للحراك الطبقى والقيمى والثقافى للمجتمع، وهى كذلك المعبرة عن ماهية العلاقة الحاكمة للدولة والمجتمع، والمترجمة لطبيعة العقد الاجتماعى وموقع المواطن منها.

وإذا ما أضفنا كون الثقافة والقيم مدخلًا لا غنى عنه لفهم وإدراك جوهر ومكنون أى مجتمع، فإننا نكون أمام مجموعة من المحددات الحاكمة المعبرة عن مقومات وركائز الشخصية الوطنية والهوية المعبرة على المجتمع والدولة، وهى محددات ترتهن إلى حد كبير بحجم وهيكل الطبقة الوسطى ومدى تجددها ودرجة الحراك الداخلى أو الخارجي منها، والحقيقة أن المتتبع لتكوين وتطور الطبقة الوسطى المصرية يمكن أن يلحظ بوضوح مدى المتلازمة مع تطور الدولة ومؤسساتها.

وتتجلى هذه المتلازمة بوضوح في أشكال ومستويات متعددة وفى العديد من المحطات التي شكلت تحولات كبرى وعميقة في المجتمع، منها: إعلان “مصر للمصريين” التي حملتها “ثورة عرابى”، وإعلاء مفهوم الأمة المصرية كما جسدتها ثورة 1919، وآمال التحرر الوطنى والعدالة الاجتماعية وتوسيع الطبقة الوسطى التي انطلقت منها ثورة 1952، وزيادة المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كدافع لخروج الجماهير في يناير 2011، في حين شكلت المحافظة على الهوية والشخصية المصرية دافع الخروج في يونيو 2014، تلك المحطات التاريخية والزمنية تعبر بوضوح عن ذلك التدرج الذى حكم عملية تطور تركيبة الطبقة الوسطى وهيكلها واتساعها وعلاقتها بقوة الدولة المصرية.

وإن كان تفاوت التقديرات التى تحدد حجمها وهيكلها تشير إلى كونها 61% وفقا لعام 2020 وأنها (مابين 44% إلى 57% فى الفترة مابين 1986 و2012) بين المستويات الثلاثة (أعلى ومتوسطة ودنيا) يرتهن بطبيعة التكوين الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والثقافى، فإن التساؤل حول الوعى الطبقى وعلاقته بعمق التغييرات المجتمعية، لاسيما تلك المرتبطة بالمكون الثقافى والقيمى والسلوكى، يظل مرتهنًا بالقدرة على تحديد درجة الهشاشة التى أصابت هيكل بنية الطبقة وتجانسها ودرجة مرونة الحراك الداخلى، خاصة تجاه الترقى الطبقى.

 وبعيدًا عن الجدل حول مؤشرات تحديد حجم وهيكل الطبقة الوسطى، وأهمية الاستناد إلى الأبعاد الاقتصادية المستندة للدخل والإنفاق والاستهلاك، والأبعاد الاجتماعية المرتبطة بالمهنة ومستوى التعليم، وتلك الأبعاد المؤثرة على درجة الرفاهية والحصول على العمل اللائق ومستوى الأجور.

فالملاحظ أن التحولات الثقافية والقيمية العولمية وما فرضته الثورة التكنولوجية من تعميق الذاتية، والفردانية والإفراط فى الاستهلاك، والميل لقيم الثراء السريع، والعمل عن بعد، قد ساهمت فى تعميق الفجوة مع الثقافة التقليدية، وتقليص درجة الانسجام المجتمعى، لاسيما بين المستويات الثلاثة للطبقة الوسطى.

 والحقيقة أن المخاوف المتزايدة عن موقع الطبقة الوسطى من قضايا التنمية المستدامة، وعلاقتها بحركة المجتمعات قد فرضت نفسها على العديد من الدراسات الأكاديمية والبحوث الميدانية واستطلاعات الرأى فى العالم، خاصة مع تناميها العالمى وتحديدا فى الدول الآسيوية وانكماشها فى الدول الأوروبية، وما طرحه مفهوم الطبقة الوسطى الرقمية من تحديات تتعلق بطبيعة المجتمعات فى القرن الحادى والعشرين. من هنا تأتى أهمية الوقوف على عمق التحولات المجتمعية وفى القلب منها ما يتعلق بالطبقة الوسطى وتأثيراتها على الهوية والخصوصية المجتمعية، باعتبارها من أكبر التهديدات التي أوجدتها ثقافة ما بعد الحداثة والعولمة وتعمقها الثورة التكنولوجية الرابعة وما تفرضه الثورة التكنولوجية الخامسة من تحديات وحالة من اللايقين المرتبطة بالحياة الإنسانية. فالمخاطر اتسعت وتعددت بحيث لم تعد قاصرة على التحديات التنموية والاقتصادية وإنما امتدت إلى فلسفة الحياة ومركزية الإنسان في الكون.

أولا: الطبقة الوسطى العالمية والمكون الحضارى

إذا كان الرهان يظل مرتبطًا بالعمق الحضارى والقدرة على توظيف التقدم ليكون في خدمة الإنسان والإنسانية وليس العكس، فإن الرهان على الطبقة الوسطى يظل رهانًا كاسبًا، فمن المتوقع أن يصل عدد الطبقة الوسطى عام 2030 إلى خمسة مليارات نسمة بفضل قوة الاقتصاديات الآسيوية، لاسيما الصين والهند والولايات المتحدة الأمريكية، فى حين تنكمش فى دول مثل اليابان وألمانيا وإيطاليا وبولندا.

ومع التحولات التكنولوجية وما فرضته من متطلبات على مستوى المهارات والثقافة والفكر، أخذت سبيلها إلى بنية المجتمعات. وبدرجات متباينة، يبدو أن أبناء الطبقة الوسطى الذين فقدوا العديد من المزايا التى توافرت لهم فى إطار دولة الرفاه، على أعتاب مرحلة أخرى تتسم بعدم تلبية توقعاتهم، وتراجع بعض شرائحها على مستوى الطموح والرضا الذاتى. مما يشير إلى ما ستفرضه المشكلات الاقتصادية، والتفاوتات الطبقية وانعكاساتها الاجتماعية من تحديات مجتمعية، ناتجة عن تغير تركيبة المجتمعات والقوى الاجتماعية، فالتهميش المعرفى والتكنولوجى والتقنى سوف يضع الكثير من الحواجز أمام أبناء هذه الطبقة، والطبقة الفقيرة مما يزيد من الفئات المهمشة، لاسيما فى الدول النامية، الأمر الذى سوف ينعكس على السلام الاجتماعى وتماسك بنية المجتمعات. وفى هذا السياق يمكن التأكيد على عدد من التحديات التى سوف تفرض نفسها على أبناء الطبقة الوسطى بشكل رئيسى والمهمشة بشكل خاص، نذكر منها:

 التحدى الأول، يرتبط بقدرة الثقافة وواقعها الحضارى على ترجمة معنى إنسانية الإنسان، فى ظل عالم يسير نحو موازاة الإنسان بالآلة، ومحاولة فرض ثقافة عولمية ينكمش فيها دور الإنسان في البناء والتعمير وحماية حريته الذاتية وتحقيق العدالة والتضامن في المجتمع.

التحدى الثانى، يتعلق بما أنتجه التطور المعاصر للرأسمالية العالمية، من اختلالات ترجمتها حالة الاستلاب والاغتراب وضعف الهويات أمام الهوية والثقافة الغربية ونمط حياتها، وصعود أجيال (زد وألفا) عولمية تعبر بوضوح عن توجهاتها الفكرية ورؤيتها للعالم وللعلاقات والتفاعلات المجتمعية بأشكال مغايرة تعبر عن فجوات جيلية حادة.

التحدى الثالث، يستند إلى مرحلة جديد من الصراع والتنافس بين القوى الكبرى الدولية، سوف يشكل التنافس الثقافى والقيمى أبرز مقومات بناء القوة والمكانة الدولية خلالها، وسوف يتحدد موقع الدول من هذا التنافس استنادًا لحدود امتلاك المعرفة، وقوة البنية الثقافية والاجتماعية، والقدرة على تقليل تداعيات توظيف الأدوات التكنولوجية ثقافيا وقيميا.

التحدى الرابع، تطرحه الثقافات الكبرى وقدرتها على الاستمرار ونشر منظومة قيمها وثقافتها، فهذه الثقافات شأنها شأن الكيانات الحية تحتاج للروافد المغذية القادرة على بقائها، وأول هذه الروافد استنادها إلى المنظور الإنسانى ووحدة الإنسانية، وهو ما يضع الكثير من علامات الاستفهام والتساؤل حول مضمون عمليات التصنيف الثقافي من زاوية الاستعلاء الحضارى ومحاولة فرض نموذج ثقافى كونى أيا كان مضمونه وسماته وخصائصه، وليس من منطلق قبول التنوع والتعدد الثقافي.

ثانيا: المخزون الحضارى المصرى والطبقة الوسطى

هذا التحدى القديم والراهن والمستقبلي، يضعنا أمام أهمية دراسة عمليات التحول التى تشهدها طبيعة الطبقة الوسطى، وتأثيرات هذا التحول على بنية المجتمع المصرى ووجدانه وعقله الجمعى؟. فى ظل الرغبة المتنامية لمستقبل أفضل، مع الأخذ فى الاعتبار ارتفاع التكلفة الاقتصادية والاجتماعية، وما تتركه من آثار تبرز فى العديد من المظاهر السلبية، مثل السعى نحو الهجرة للخارج، وتراجع مؤشرات الزواج والرغبة فى بناء الأسرة، وتزايد معدلات الطلاق، وانخفاض وسائل الترفيه.

وسواء كانت تلك المظاهر سببًا أو نتيجة فقد تركت بصمتها على المجتمع المصرى، من حيث درجة التماسك التى لعبته تاريخيا، من خلال دور المتعلمين والمثقفين ورجال الدين فى ضبط وتنظيم التفاعلات الاجتماعية وقيادتها للدور التنويرى والتصدى لبعض المكونات الثقافية السلبية وإثراء الحياة الثقافية. وإذا ما أخذنا التعريف الذى وضعه إدوارد بورنث تايلور في بداية كتابه «الثقافة البدائية» الصادر عام 1871 عندما عرّف الثقافة بأنها «تلك الوحدة الكلية المعقدة التي تشمل المعرفة والإيمان والفن والأخلاق والقانون والعادات، بالإضافة إلى أى قدرات وعادات أخرى يكتسبها الإنسان بصفته عضوًا في مجتمع(1). لاتضح لنا عمق الدور الذى لعبته الطبقى الوسطى ولا تزال تلعبه  -وإن كان بدرجة أقل- وهو التأكيد على السمات الخاصة بالثقافة والهوية المصرية التى تتميز ببعدها الجماعى والتفاعلات الاجتماعية المرتكزة في غالبيتها على منظومة من القيم والأخلاق التى ترسخت في بنيان المجتمع.

من هنا تأتى أولوية الوقوف على حجم التغيرات المجتمعية ودرجتها، وما أوجده العديد من الثنائيات والأضداد من تأثير مباشر، بحيث أصبحنا أمام أكثر من عقل جمعى وتنوع ثقافى ومرجعيات متعددة للقيم والميل نحو الانعزال وثقافة الفقاعات، وهى أمور بطبيعتها تتوافق مع تطور المجتمع باعتباره كيانًا حيًّا يتأثر بالعوامل الداخلية والتحولات الكبرى العلمية، ولكن يبقى التحدى هنا مرتهنًا بالقدرة على الحد من التأثيرات السلبية التى تمس البنية المجتمعية، وزيادة القدرة على إدارة التعدد والتنوع فى المجتمع بما يزيد من قوته وثرائه، وفى هذا الإطار يمكن الإشارة لتأثير المزاوجة بين الثقافة التقليدية الغالبة والثقافة الحداثية من ناحية، وبين اقتصاد السوق واقتصاد موازٍ غير رسمى وعائلى من ناحية ثانية، وبين مؤسسات اجتماعية تقليدية معبرة عن قوى وثقافة اجتماعية ومؤسسات حديثة لم تترسخ من ناحية ثالثة. هذه المزاوجة تعبر عن مأزق التحولات فى المجتمع ككل خاصة الطبقة الوسطى، بشرائحها المتعددة وفعاليتها كعمود فقرى داعم للحركة والحياة وتماسك المجتمع.

بمعنى أدق، إن التوافق والسعى نحو امتلاك المعرفة والمشاركة فى صناعة المستقبل، أمر ليس من الرفاهية، فهو أحد أجنحة التحليق فى القرن الحادى والعشرين، ولكن تظل الجدلية حول الخصوصية والتراث نقطة ضعف للجناح الثانى لدى العديد من الدول. لذا فالتسلح بالمعرفة كجناح لا يقل أهمية عن معرفتنا بهويتنا وعمقها الحضارى كجناح ثانٍ حتى نستطيع التحليق والتقدم. وما من شك أن دور الطبقة الوسطى حيوى وحتمى لتحقيق ذلك، خاصة فى ظل عالم يحكمه الكثير من اللايقين والتحديات التى جعلت منه مجتمع مخاطر عالميًّا وليس مجتمع رفاهية عالميًّا.


1 - دنيس كوش، (ترجمة) د.منير السعيدانى ومراجعة د الطاهر لبيب، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، لبنان: المنظمة العربية للترجمة، ط أولى، مارس 2007، ص 29 -30 .