شن الطيران الحربى الإسرائيلى، خلال الفترة من 7 إلى 9 سبتمبر 2024، عدة هجمات عسكرية واسعة النطاق على سوريا، وتختلف هذه الهجمات عن غيرها من حيث حجم المواقع المستهدفة والهدف منها، كما أنها شُنت على ثلاثة دفعات من الهجمات، ورافقها هجوم واسع بعدد كبير من المسيرات على كافة أنواع الدفاعات الجوية السورية، ما نتج عنه عدة خسائر بشرية ومادية كبيرة.
وقد وصف الخبراء العسكريون هذه الهجمات بأنها "مركبة ومعقدة ومزدوجة" وذلك وفقاً لمفاهيم "التقنية العسكرية". فقد استهدفت الهجمات ريف محافظة حماة وسط سوريا، كما استهدفت عدة مخازن للذخيرة والأسلحة والمسيرات فى محافظة طرطوس الاستراتيجية على البحر المتوسط. وكان لمنطقة المصايف بريف حماة النصيب الأكبر من تلك الهجمات؛ حيث تعرضت لأربع هجمات على مدى 3 ساعات كاملة، وتركزت الضربات على "مركز البحوث العلمية" فى المدينة؛ فثمة اعتقاد لدى الجانب الإسرائيلى بأن دمشق ومن خلال المستشارين الإيرانيين العسكريين تطور عدداً من بحوث إنتاج الأسلحة الكيماوية فيه، إلى جانب استخدامه كمركز لصناعة الصواريخ دقيقة التوجيه.
وبالرغم من أن الضربات الإسرائيلية على سوريا لم تتوقف على مدار السنوات الماضية؛ حيث تستهدف البنية العسكرية لإيران فيها، فضلاً عن استهداف العسكريين سواء من الحرس الثورى، أو قيادات الميليشيات المسلحة الموالية لها فى مناطق الجنوب والوسط وصولاً لمحيط العاصمة دمشق، إلا أنها ومنذ أكتوبر 2023، وفى سياق عملية طوفان الأقصى، لوحظ وجود اختلاف واضح في تلك الضربات من حيث النمط ونوعية الأهداف والنطاق الجغرافى، فى سياق الأهداف الإسرائيلية بالقضاء على قدرات المليشيات الإيرانية فى سوريا وبنيتها العسكرية.
دلالات التوقيت
الجديد فى هجمات يومى (8-9) سبتمبر2024، أن هذه الهجمات لم تتوقف عند حد ضرب أماكن تمركز الميليشيات التابعة لإيران وبنيتها العسكرية فقط كما هو معتاد، لكنها اتسعت من حيث النوعية لتشمل مراكز أبحاث وبعض البنى المخصصة لموظفين مدنيين، فضلاً عن منازل وبنايات يسكنها مدنيون، بخلاف عدد من مرافق البنية التحتية، حيث أحدثت أضراراً واسعة في شبكات المياه والكهرباء والاتصالات والطرق، لاسيما فى منطقة مصياف بريف حماة. كما اتسعت من حيث نطاقها الميدانى لتشمل مناطق الوسط السورى فى حمص ودمشق وحماة إلى جانب مدينة طرطوس التى تعد مركزاً تجارياً وبحرياً مهماً. ويحمل الاستهداف العسكرى الإسرائيلى لسوريا مؤخراً دلالة مهمة من حيث توقيته؛ لأنه يأتى متزامناً مع مرور أربعين يوماً على حادثة اغتيال رئيس المكتب السياسى لحركة حماس إسماعيل هنية فى طهران فى الوقت الذى لاتزال فيه تدرس الأخيرة كيفية الرد على الحادثة التى أثرت على صورة الدولة وسيادتها وعكست مدى الاختراق الاستخباراتى فيها.
هذا يعنى أن إسرائيل رغبت في أن تبعث بعدة رسائل لإيران، التى حاولت بدورها نفى الأخبار التى تم تداولها بشأن إشرافها على مركز بحوث علمية يطور نوعاً من الأسلحة الكيماوية فى منطقة المصايف بريف حماة، ومؤدى هذه الرسائل:
أولاً، إن إسرائيل ستستمر فى ضرب مزيد من الأهداف التى تتعلق بالبنية العسكرية لإيران داخل سوريا، دون الاكتراث لطبيعة الرد الايرانى المحتمل على اغتيال اسماعيل هنية رئيس المكتب السياسى لحماس فى طهران، وهو الرد الذى تأخر كثيراً ولا يزال غامضاً.
ثانياً، إن شن إسرائيل لضربات عسكرية نوعية و"معمقة" من حيث النمط والنطاق والأهداف فى سوريا بالتزامن مع ذكرى الأربعين على اغتيال إسماعيل هنية، إنما يعبر عن الاستمرار فى اتباع سياسة حافة الهاوية التى لايزال ينتهجها رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ومجلس الحرب المصغر وحكومته اليمينية المتطرفة، والتى لم تعد تكترث باستمرار مفاوضات الهدنة وتبادل الرهائن ووقف اطلاق النار، إنما تعمل على استمرار التصعيد العسكرى فى المنطقة بهدف إشعال مزيد من الجبهات الإقليمية المتوترة، حتى وإن لم تكن مشاركة فعلياً فى عمل "محور المقاومة الإقليمى" كحالة النظام السورى رغم أنه مصنف ضمن المحور نفسه، وذلك من أجل هدفين: الأول، استدراج النظام السورى لساحة حرب جديدة ومباشرة مع إسرائيل- بالرغم من رفضه فتح أراضيه أمام قوى "محور المقاومة" واستخدامها كمنصة لاستهداف إسرائيل- ومن ثم استدراج إيران التى لا تزال تدرس بتأنٍ كافة خطوات التصعيد الإقليمى الذى تسعى له إسرائيل، وما سيؤدى إليه من تأثير على مصالحها فى المنطقة بخلاف مصالحها بشأن البرنامج النووى. والثانى، كسب مزيد من الوقت أمام حكومة نتنياهو انتظاراً لما ستسفر عنه الانتخابات الأمريكية المقبلة فى 5 نوفمبر 2024، والتى ستؤثر نتائجها بالضروة على كافة مسارات التفاعل الإقليمية فى المنطقة بدءاً من يناير 2025.
ثالثاً، إن إسرائيل تستبق الرد الإيرانى المحتمل بشن "هجمات استباقية" على كافة الإمكانات العسكرية الممكن استخدامها من قبل إيران فى سوريا، والتى يمكن أن تستخدمها المليشيات الموالية لإيران – التى يتمركز بعضها فى الجنوب السورى - لضرب الجولان المحتل؛ بمعنى أن إسرائيل تريد "تحييد فعالية" الجبهة السورية، أو "تقليص مستوى التهديد" القادم منها إلى حدود لا تؤثر أو تغير كثيراً فى موازين الردع مع إيران فى سياق الرد المرتقب منها على اغتيال هنية.
رابعاً، إن إسرائيل بصدد الاستعداد لشن هجوم جديد على حزب الله اللبنانى بعد فترة القبول الثنائى – من قبلها ومن قبل حزب الله – بالعودة إلى قواعد الاشتباك المعمول بها بعد أن رد حزب الله على اغتيال قياديه فؤاد شكر فى الضاحية الجنوبية لبيروت في 25 أغسطس الماضى، وأن الإعداد لهذا الهجوم يتطلب توجيه ضربات استباقية له على الأراضى السورية ضد مواقع الأسلحة، وأنظمة الدفاع الجوى، ومنصات إطلاق الصواريخ، وطرق الإمداد، وأنظمة الإنذار المبكر بخلاف الاستمرار فى استهداف المليشيات المرتبطة بإيران وقيادتها وكوادر الصف الأول منها.
دوافع ومحاذير
الشواهد والدلالات السابقة تقول بأن الهدف الرئيسى والدافع الفعلى وراء اتخاذ حكومة الحرب الإسرائيلية برئاسة نتنياهو قرار "إشعال" الجبهة السورية بضربات "معمقة" ضد أهداف عسكرية ومدنية وبنى تحتية- رغم استراتيجية "النأى بالنفس" التى انتهجها النظام السورى منذ تبعات عملية طوفان الأقصى فى 7 أكتوبر 2023- يكمن فى رغبة نتنياهو فعلياً في "إنهاء" وليس "وقف" مسار مفاوضات تبادل الرهائن ووقف إطلاق النار التى تواجه عثرات وصعوبات جمة نتيجة تعنته، بل وصرف الأنظار عنها كلية لصالح جبهات مواجهة عسكرية أخرى، ستكون فى حالة اشتعالها، أشبه بكرة النار المتدحرجة التى ستطال منطقة المشرق العربى.
ويعنى ذلك أن الشغل الشاغل لحكومة نتنياهو هو عدم وقف هذه الحرب، بل توسيعها واستمرارها إلى حين إجراء الانتخابات الأمريكية وما ستتمخض عنه من نتائج، وهو ما يدفع إلى التساؤل بشأن رد فعل النظام السورى: هل سيضطر تحت وطأة الضغط الإسرائيلى إلى الخروج من سياسة "النأى بالنفس" عن المواجهات الإقليمية باعتباره "جبهة معطلة" ضمن "محور المقاومة الإقليمى"؟، أم أنه سيفضل – كعادته - الاستمرار فى السياسة نفسها، والاحتفاظ بحق الرد فى الوقت المناسب له؟!!. الخبراء فى الشأن يرون أنه لا حاجة للنظام السورى للدخول مباشرة فى حرب مباشرة مع إسرائيل؛ نظراً لعدة أسباب:
أولها، هشاشة الأوضاع الأمنية والاقتصادية بعد 13 عاماً من الصراع الداخلى، فضلاً عن انخراطات القوى الدولية (الولايات المتحدة وروسيا) والقوى الاقليمية (تركيا وإيران) بقوات عسكرية على الأرض، بما يفرض الكثير من التعقيد على المشهد السورى فى سياقيه الدولى الإقليمى، والذى سيزداد تعقيداً حال الانخراط فى مواجهة شاملة ومباشرة مع إسرائيل. ويرى أنصار هذا الرأى أن كل ما يمكن أن يقوم به النظام السورى هو إبداء قدر من المرونة تجاه مسألة السماح لجماعات "محور المقاومة" الموجودة على أراضيه والتابعة لإيران باستهداف إسرائيل، أو تقديم مزيد من الدعم اللوجيستى لهذه الجماعات، دون أن يؤدى ذلك إلى أى تغيير فى قواعد الاشتباك الإقليمية فى منطقة المشرق العربى.
ثانيها، المحاذير التى وضعتها عدة دول أمام النظام السورى كخطوط حمراء أمام تفعيل دور سوريا كـ"جبهة مقاومة إقليمية"، أو ما يمكن تسميته بـ"مقايضة" النظام السورى عبر التطبيع معه وتسويقه على المستويين السياسى والاقتصادى مقابل اتخاذ إجراءات من قبل النظام تستهدف فك الارتباط تدريجياً مع إيران و"محور المقاومة"، أو على أقل تقدير الاستمرار فى سياسات "النأى بالنفس" عن كافة المواجهات الإقليمية التى تعد إيران (الداعم الإقليمى للنظام السورى) جزءاً منها.
فى الأخير، يمكن القول إن تغير موقف النظام السورى من عمل "محور المقاومة الإقليمى" الذى تعد سوريا جزءاً أساسياً فيه جراء "تعميق" إسرائيل استهدافاتها العسكرية لتشمل مناطق مأهولة بالسكان ومراكز بحوث وبنى تحتية، يستدعى "قراراً" ليس صادراً من النظام السورى فقط- وهو من الصعوبة بمكان فى ظل القيود السابق الإشارة إليها- وإنما قرار سورى مدعوم "علناً" من قبل روسيا صاحبة الدور الأبرز فى الحفاظ على بقاء هذا النظام طيلة الـ 13 عاماً الماضية، وهو تصور "صعب" حدوثه على الأقل فى الوقت الراهن، بالنظر إلى حسابات روسيا فى المنطقة منذ اندلاع عملية "طوفان الأقصى" فى 7 أكتوبر 2023 من ناحية، وبالنظر كذلك إلى أزمتها مع الولايات المتحدة وأوروبا بشأن الحرب في أوكرانيا من ناحية ثانية.