شهد إقليم غرب أفريقيا على مدار السنوات الأخيرة تناميًا ملحوظًا في معدلات عمليات وضحايا التنظيمات الإرهابية والتى تأسست معظمها فى إطار الظروف المحلية ثم أصبحت فروعًا للتنظيمين العالميين؛ "القاعدة" و"داعش"، حيث تصاعدت حالة الصراع والتنافس بين هذه التنظيمات على النفوذ المكاني والعسكري وعلى أماكن الثروات، وهو الأمر الذي يُثير العديد من التساؤلات حول أسباب تحول دول الغرب الأفريقى لبؤر تمركز ونشاط العديد من التنظيمات الإرهابية، وتحول سكانها إلى أعضاء محتلمين في المستقبل ضمن صفوف هذه التنظيمات، على الرغم من جهود وآليات مكافحة الإرهاب والتطرف التي طُبقت في الإقليم على المستويين الإقليمي والدولي.
دول غرب أفريقيا على مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2024
ضمت قائمة الدول العشر الأكثر تعرضًا لخطر الإرهاب خلال عام 2023 على مؤشر الإرهاب العالمي للعام2024[1]، خمسة دول أفريقية، منها الصومال في شرق القارة، وأربعة دول من الغرب الأفريقي. ويمكن تناول أبرز ملامح النشاط الإرهابي فيها خلال عام 2023 على النحو التالي:
تصدرت دول إقليم غرب أفريقيا وخاصة ما يطلق عليه الساحل الأوسط الساحل أعلى مؤشرات التهديدات الإرهابية، فاحتلت بوركينافاسو المرتبة الأولى، حيث شهد شمال غرب بوركينافاسو، بالقرب من حدود البلاد مع النيجر ومالي وهي المنطقة الحدودية المعروفة باسم "ليبتاكو-غورما"، ما يقرب من نصف جميع الهجمات الإرهابية خلال عام 2023. ولا تزال جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" (JNIM) هي الجماعة الإرهابية الأبرز في بوركينافاسو، حيث زاد عدد ضحايا عمليات الجماعة خمسة أضعاف تقريبًا، من 134 في عام 2022، إلى 616 في عام 2023، وبلغ متوسط عدد القتلى في كل هجوم حوالي 20 شخصًا، وهي زيادة كبيرة مقارنة بـ 3.9 حالة وفاة لكل هجوم في عام 2022.
جاءت مالي في المرتبة الثالثة، مع استمرار تصدر جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" مقابل انخفاض نشاط فرع تنظيم "داعش" المعروف باسم "ولاية غرب أفريقيا" ISWA، حيث تضاعف عدد الوفيات المنسوبة إلى جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" في عام 2023، عن عام 2022، ونُسب إليها أكبر عدد من الهجمات والوفيات التي تم تسجيلها على الإطلاق في مالي، بـ 76 هجوم و263 حالة وفاة.
أما نيجيريا فقد احتلت المرتبة الثامنة، وسجلت البلاد عام 2023 أول زيادة في الإرهاب منذ عام 2020، حيث ارتفع إجمالي الوفيات بنسبة 34% نتيجة تصاعد الصراع والتنافس بين جماعة "بوكو حرام" وتنظيم "ولاية غرب أفريقيا"، لاسيما في ولاية "بورنو" التي شهدت زيادة بنسبة 63% في وفيات الإرهاب مقارنة بعام 2022. فمن ناحية، تسبب فرع تنظيم "ولاية غرب أفريقيا" خلال عام 2023، في 53% من الوفيات في نيجيريا، و37% من الحوادث الإرهابية في العالم. كما أصبحت هجمات التنظيم أكثر فتكًا في عام 2023، حيث أدت -في المتوسط-إلى مقتل 5.2 شخصًا لكل هجوم، بزيادة من 3.6 في عام 2022. ومن ناحية أخرى، سجلت "بوكو حرام" عامها الأكثر دموية منذ عام 2020، حيث أدى 29 هجومًا إلى مقتل 151 شخصًا عام 2023، مقارنة بـ 9 هجمات و72 حالة وفاة في عام 2022.
وأخيرًا احتلت النيجر المرتبة العاشرة في القائمة، حيث تضاعفت أعداد الوفيات الناجمة عن العمليات الإرهابية في النيجر وبلغت حوالي 468 حالة وفاة في عام 2023 مقارنة بـ 193 حالة وفاة في عام 2022، مما يشير إلى تصاعد كبير في معدل فتك الهجمات. ولا تزال جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" وفرع تنظيم "داعش" في الصحراء الكبرى الذي أصبح يُعرف باسم "ولاية الساحل"، هما الجماعتان الأكثر نشاطًا في النيجر في عام 2023.
وبإلقاء نظرة عامة على الدول الأربع، نجد أن عام 2023 قد شهد تناميًا ملحوظًا في معدل العمليات والوفيات الناجمة عن نشاط التنظيمات الإرهابية المُتمركزة في إقليم غرب أفريقيا، مقارنة بعام 2022، مع تصدر كل من الجماعات الإرهابية كـجماعة "بوكو حرام"، وكذلك الأفرع التنظيمية التابعة لتنظيمات الإرهاب العالمي، مثل فرع تنظيم "القاعدة": جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، وفرعي تنظيم "داعش": "ولاية غرب أفريقيا"، و"ولاية الساحل"، وهو الأمر الذي يطرح العديد من التساؤلات حول مدى كون إقليم غرب أفريقيا أرضًا خصبة لنشأة وتنامي نشاط التنظيمات الإرهابية المحلية والدولية، ومدى كونه أرضًا جاذبة لتنظيمات الإرهاب العالمي التي تراجع نفوذها ونشاطها في مناطق نشأتها ونفوذها التقليدي.
الغرب الأفريقي كأرض خصبة للإرهاب
تشترك بلدان غرب أفريقيا في العديد من الديناميكيات الداخلية والخصائص العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، التي تُمثل في مُجملها بيئة خصبة وجاذبة لنشاط التنظيمات الإرهابية المحلية والدولية. وفيما يلي يمكن تسليط الضوء على أبرز الاختلالات الجوهرية التي تتقاطع فيها دول غرب أفريقيا بالتركيز على الدول الأربعة (بوركينافاسو – مالي – نيجيريا – النيجر) التي احتلت الصدارة فى مؤشر الإرهاب العالمي عام 2024.
1- هشاشة الدول* والأزمات السياسية
تعد الدول الضعيفة أو الهشة تلك التي تعاني خلال فترات طويلة من الصراعات الأهلية والحروب والأزمات السياسية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، الأمر الذي يؤدي إلى خلق بيئة خصبة من العوامل السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية الجاذبة لنشاط التنظيمات الإرهابية سواء على الجانب التكتيكي والعملياتي، بسبب غياب قدرة الدولة على فرض سيطرتها وسلطتها على كافة أقاليم الدولة، أو على جانب التعبئة والتجنيد، نتيجة تدهور الأحوال المعيشية والاجتماعية والنفسية. ويعزو الخبراء تنامي التطرف العنيف والإرهاب في دول غرب أفريقيا-التي تحتل باستمرار مرتبة عالية على مؤشر الدول الهشة-إلى طبيعة النظم الحاكمة الفاسدة، والتراجع الديمقراطي، ونقص الشرعية نتيجة ارتفاع معدلات الانقلابات العسكرية، والانتقال غير السلمي للسلطة.
فقد برز تنامي النشاط الإرهابي في منطقة الساحل الأفريقي خلال الفترة (2010 – 2023) تزامنًا مع اندلاع سلسلة من الانقلابات العسكرية في دول المنطقة، كما في النيجر في عامي 2010، و2023، ومالي في أعوام 2012، و2020، و2021، وبوركينافاسو في عامي 2014، و2022، وغينيا كوناكري عام 2021، والجابون في 2023. ويمكن التأكيد على ارتباط تصاعد النشاط الإرهابي في غرب أفريقيا بموجات الانقلابات العسكرية، إلى تركيز النظم العسكرية الحاكمة على تعزيز نفوذها ومصالحها داخليًا، والانصراف عن توجيه موارد البلاد المالية والبشرية إلى جهود مواجهة الإرهاب والتطرف، خاصة على المستوى الإقليمي، الأمر الذي ينعكس بطبيعة الحال كذلك على تهديد الاستقرار والأمن الداخلي في تلك البلدان[2].
إضافة إلى ما سبق، تؤدي هشاشة الأنظمة الحاكمة وشيوع الانقلابات والاضطرابات السياسية إلى إضعاف قبضة الدولة الأمنية وخلق حالة من الفراغ الأمني، لاسيما في المناطق المُهمشة والبعيدة عن المركز، كالمناطق الحدودية، الأمر الذي يؤدي إلى وجود حالة من السيولة الأمنية التي تُحفز الأنشطة غير الشرعية عبر الحدود مثل التجارة في الأسلحة والمخدرات وتهريب رؤوس الأموال والبشر، ولعل هذا ما يُفسر كون المنطقة الحدودية "ليبتاكو-غورما"، مرتعًا نشطًا للتنظيمات الإرهابية في غرب أفريقيا.
وفقًا للجدول رقم (1) نجد أن الدول الأربعة (بوركينافاسو – مالي – نيجيريا – النيجر) قد احتلت ترتيب عالي في مؤشر الدول الهشة خلال العشر سنوات الأخيرة، وذلك بالتطبيق على 12 مؤشرًا اجتماعيًا، واقتصاديًا وسياسيًا، وعسكريًا، مع الإشارة إلى أن الدولة المُصنفة في الترتيب رقم (1) من بين 179 دولة، تعتبر هي الأعلى فسادًا.
جدول رقم (1): ترتيب الدول الأربعة (بوركينافاسو – مالي – نيجيريا – النيجر) على مؤشر الدول الهشة خلال الفترة (2015 - 2024)
العام
|
بوركينافاسو
|
مالي
|
نيجيريا
|
النيجر
|
2015
|
39
|
30
|
14
|
19
|
2016
|
41
|
29
|
13
|
19
|
2017
|
44
|
31
|
13
|
20
|
2018
|
45
|
27
|
14
|
21
|
2019
|
47
|
21
|
14
|
18
|
2020
|
37
|
16
|
14
|
19
|
2021
|
36
|
19
|
12
|
21
|
2022
|
29
|
14
|
16
|
20
|
2023
|
21
|
13
|
15
|
24
|
2024
|
21
|
14
|
15
|
19
|
تم إعداد الجدول من قِبل الباحث بالاعتماد على بيانات مؤشر الدول الهشة(Fragile states index) الصادر عن صندوق السلام (FFP)، متاح على الرابط التالي:https:// fragilestatesindex.org/country-data/
2- فساد الأنظمة الحاكمة
يُعرف الفساد بأنه إساءة استخدام السلطة الموكلة سواء للسياسيين أو المسئولين الحكوميين أو الموظفين العموميين أو رجال الأعمال أو أفراد الجمهور، بهدف تحقيق مكاسب خاص، وهو يؤدي إلى تقويض ثقة المواطنين في الدولة وإضعاف الديمقراطية، وإعاقة مسارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال تزايد معدلات عدم المساواة، والفقر، والانقسام الاجتماعي[3].
وقد أثبتت العديد من الدراسات أن فساد أنظمة الحكم يعد من بين أهم وأبرز أسباب ظهور الإرهاب وتنظيماته، حيث يتم تكريس مصلحة النظام الحاكم وكل ما يرتبط به من أحزاب ونخب، ويتم إعلاء مصلحتهم على مصلحة وحقوق الأمم، ما يخلق لدى المواطنين حالة من السخط وعدم الانتماء، تُسفر بدورها عن ميول متطرفة عنيفة في مواجهة تلك الأنظمة، سواء من خلال إنشاء التنظيمات الإرهابية لمقاومة السلطات، أو بالانضمام إلى تنظيمات موجودة بالفعل، والمشاركة في الأنشطة الإرهابية المختلفة بحجة مقاومة القمع والمطالبة بالحقوق والحريات المسلوبة[4].
وفقًا للجدول رقم (2) نجد أن الدول الأربعة (بوركينافاسو – مالي – نيجيريا – النيجر) احتلت ترتيب عالي في مؤشر الفساد العالمي الصادر عن منظمة الشفافية الدولية خلال العشر سنوات الماضية، مع الإشارة إلى أن الدولة المُصنفة في الترتيب رقم (1) من بين عدد دول يتراوح ما بين (175 – 180) دولة، تعتبر الأقل فسادًا.
جدول رقم (2): ترتيب الدول الأربعة (بوركينافاسو – مالي – نيجيريا – النيجر) على مؤشر الفساد العالمي خلال الفترة (2014 - 2023)
العام
|
بوركينافاسو
|
مالي
|
نيجيريا
|
النيجر
|
2014
|
85
|
115
|
136
|
103
|
2015
|
76
|
95
|
136
|
98
|
2016
|
72
|
116
|
136
|
101
|
2017
|
74
|
122
|
148
|
112
|
2018
|
78
|
120
|
144
|
114
|
2019
|
85
|
130
|
146
|
120
|
2020
|
86
|
129
|
149
|
123
|
2021
|
78
|
136
|
154
|
124
|
2022
|
77
|
137
|
150
|
123
|
2023
|
83
|
136
|
145
|
125
|
تم إعداد الجدول من قِبل الباحث بالاعتماد على بيانات مؤشر الفساد العالمي (Corruption Perceptions Index)، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، متاح على الرابط التالي:https:// www.transparency.org/en/cpi/2023
3- تدني الأوضاع الاقتصادية وعدم المساواة في توزيع الموارد والخدمات
ثبُت تاريخيًا أن الدول ذات النمو الاقتصادي والاجتماعي الضعيف تكون بيئة خصبة لاجتذاب وانتشار التنظيمات الإرهابية، حيث تستغل تلك التنظيمات معاناة السكان -لاسيما من الشباب والنساء باعتبارهن الحلقة الأضعف اقتصاديًا- بسبب سوء الأحوال المعيشية، واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وانتشار الفقر، والبطالة، وغياب المساواة في فرص العمل، والتوظيف غير المُستقر أو الذي لا يتناسب مع المؤهلات الدراسية، لاستقطاب وتجنيد قاعدتها الاجتماعية والعسكرية سواء من خلال تقديم الوعود بمناصب ورواتب كبيرة وحياة أكثر رفاهية، أو من خلال إقناعهم بأن استخدام العنف حينها يكون شكلاً من أشكال التعبير عن الغضب والاستياء ضد الأنظمة الحاكمة الفاسدة[5]، وهذا ما تثبته نظرية "الحرمان النسبي" التي تُفسر كيف أن المعاملة غير العادلة داخل الدولة تُغذي ردود الفعل العنيفة التي تؤدي إلى صراع سياسي واجتماعي، حيث تفترض النظرية أن المواقف العدوانية والأنشطة المتطرفة تنشأ عندما يصبح الفرد أو المجموعة على دراية بوضعهم الاجتماعي والاقتصادي ويقارنون هذا الوضع بالآخرين [6].
تعتبر جماعة "بوكو حرام" الإرهابية، حُجة عملية وواقعية لتسليط الضوء على مسألة تشابك العلاقة بين اختلالات نظم واستراتيجيات الإدارة العامة للموارد، وتهميش فئات معينة من السكان اقتصاديًا واجتماعيًا لحساب فئات أخرى، والتمييز على أسس نوعية، ودينية، وجغرافية، وغيرها من ناحية، وتنامي قاعدة ونشاط التنظيمات الإرهابية من ناحية أخرى.
فنيجيريا تعتبر بلدًا غنيًا بالموارد الطبيعية والبشرية لكن في الوقت ذاته يعاني مواطنوه من مستوى معيشي منخفض للغاية، وهناك تزايد مستمر في الفجوة بين الأثرياء وأفقر شرائح السكان، حيث يعيش أكثر من 60٪ من النيجيريين تحت خط الفقر، يتركز أغلبهم في المناطق الشمالية من البلاد[7]. فالجدير بالإشارة إلى أن معدلات عدم المساواة بين شمال نيجيريا وجنوبها تصل لنسبة أكثر من 50٪ لصالح الجنوب، منها على سبيل المثال عدم المساواة في فرص التعليم، فـ 80٪ من الأفراد المتعلمين في نيجيريا هم من سكان جنوب نيجيريا، كما أن معظم الشماليين يجدون صعوبة في الحصول على فرص التعليم، والعمل وكسب الدخل الذي يضمن لهم حياة صالحة[8].
ولعل مسألة تنامي توظيف جماعة "بوكو حرام" للنساء في نيجيريا تعتبر من بين أبرز القرائن على تداعيات الأوضاع الاقتصادية المتردية وعدم المساواة على زيادة نفوذ وجاذبية التنظيمات الإرهابية للأعضاء الجدد، حيث أن تردي الأوضاع الاقتصادية الذي تعاني منه النساء، بشكل خاص، في نيجيريا قد مثل دافعًا نحو استجابة العديد من النساء لإغراءات الجماعة بشأن وعود تلبية احتياجاتهن المادية وتحسين أوضاعهن الاقتصادية والمعيشية، لاسيما في ظل انتشار البطالة بين النساء لقلة الفرص المهنية المُتاحة مُقارنة بالرجال، لأسباب عديدة من بينها انتشار الأمية بين الإناث.
فقد كشفت دراسة أجرتها مؤسسة "كلين" “CLEEN”، وهي منظمة نيجيرية غير حكومية تهدف لتعزيز الأمن والسلامة العامة في نيجيريا، حول الأمن والحوكمة في شمال شرق نيجيريا، أن المناطق الشمالية من نيجيريا لديها أدنى مستويات التحصيل العلمي وأعلى مستويات الأمية، لاسيما بالنسبة للفتيات، مؤكدةً على أن هناك مخاوف من أن انتشار الأمية بين الإناث قد يزيد من احتمالية تعرضهن لمخاطر التطرف[9].
4- تأثير شبكات الإرهاب العالمية على جماعات التطرف المحلي
حتى بداية القرن الحادي والعشرين، لم تكن الأنشطة المناهضة للحكومات المحلية والمصحوبة بأعمال عنف في دول أفريقيا جنوب الصحراء، يمكن وصفها بالأعمال الإرهابية. واستمر هذا الوضع حتى نمو النفوذ السياسي والعسكري للمنظمات الإرهابية الدولية، وفي مقدمتها تنظيمى "القاعدة" و"داعش"، حيث تقاطعت دوافع وأهداف وتكتيكات الشبكات الإرهابية العالمية مع الأزمات والتحديات التي تواجه المجتمعات الأفريقية المحلية من فساد وضعف الأنظمة الحاكمة، وتدهور الأوضاع المعيشية، وهشاشة القبضة الأمنية، وغيرها من الاختلالات التي خلقت أرضًا خصبة لإضفاء الطابع الأفريقي على الإرهاب المحلي المُتأثر بنفوذ ومصالح شبكات الإرهاب العالمية، وتحول الإرهاب المحلي إلى إرهاب عابر للحدود الوطنية، سواء من خلال الحصول على الدعم المالي واللوجيستي من التنظيمات الإرهابية العالمية، أو من حيث الاندماج في هياكل تلك التنظيمات، أو حتى اعتماد أساليبها واستراتيجياتها وخبراتها العملية.
فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن جماعة "بوكو حرام" نشأت في بدايتها كجماعة "وطنية" أصولية محدودة النشاط والعدد، تحكمها مبادئ الشريعة الإسلامية وتناهض أي محاولة لتغريب أو علمنة المجتمع النيجيري، إلا أنها مع الوقت تحولت إلى تنظيم مسلح عابر للحدود، تشمل عملياته أجزاء عديدة من غرب أفريقيا مثل الكاميرون، والنيجر، وتشاد، وعدد من البلدان الأخرى في غرب ووسط أفريقيا[10]. كما أصبحت الجماعة أكثر راديكالية والتزامًا بتعاليم المدرسة السلفية الوهابية، وهي النسخة الأكثر تشددًا في تفسير وتطبيق النصوص الإسلامية، مُتأثرةً في ذلك بأسامة بن لادن، مؤسس تنظيم "القاعدة". والجدير بالذكر في هذا الشأن أنه في عام 2002، ومع إرهاصات تأسيس جماعة "بوكو حرام"، أرسل بن لادن ثلاثة ملايين دولار بالعملة المحلية للجماعات السلفية في نيجيريا، التي كانت جماعة "بوكو حرام" واحدة منها[11]. هذا فضلاً عن الدعم المالي واللوجيستي الذي حصلت عليه الجماعة عام 2011 من "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" التي عُرفت بعد ذلك بتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"[12].
وبعد تعديل قانون حظر الإرهاب في نيجيريا عام 2011، صنفت الحكومة النيجيرية في 4 يونيو 2013، جماعة "بوكو حرام" رسميًا بأنها منظمة إرهابية، وتم حظر أنشطتها. ثم حذا حذوها قطاع كبير من المجتمع الدولي، حيث صنفت كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، واستراليا، وغيرها من الدول، فضلاً عن منظمات دولية وإقليمية كالأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، الجماعة كتنظيم إرهابي، تُحظر أنشطته.
واستمر تأثير شبكات الإرهاب العالمية على جماعة "بوكو حرام" حتى مبايعتها لتنظيم "داعش" عام 2015 والانتقال بصورة رسمية بمنهج الجماعة من "القاعدة"إلى "داعش"، وتغيير اسمها من "أهل السنة للدعوة والجهاد" إلى تنظيم "الدولة الإسلامية في ولاية غرب إفريقيا"، وذلك قبل انقسام التنظيم إلى فصيلين عام 2016، الأول ظل تحت زعامة أبو بكر شيكاو باسم "أهل السنة للدعوة والجهاد"، المعروف إعلاميًا حتى الآن باسم "بوكو حرام"، والآخر باسم "الدولة الإسلامية في غرب إفريقيا" تحت زعامة أبو مصعب البرناوي.
5- توظيف الموارد الطبيعية لتعزيز النفوذ وجني العوائد المالية
تلعب الموارد الطبيعية من مصادر الطاقة، والثروات المعدنية، والحيوانية، والنباتية، دورًا هامًا في تحديد بؤر تمركز ونشاط التنظيمات الإرهابية، لاسيما أن العديد من تلك التنظيمات يعتمد على هذه الموارد كمصدر أساسي للتمويل، وجني الأرباح، التي تُحفز على تعبئة وتجنيد المزيد من العناصر الإرهابية، وتُعزز من قوة ومكانة الجماعة وتماسك هيكلها الداخلي، بما يدعم قدرتها على شن المزيد من الهجمات والعمليات التي تتطلب إمكانيات مالية عالية.
فعلى سبيل المثال، ارتبط تنامي الإرهاب في أماكن عديدة من الساحل الأفريقي بتعدين الذهب وتهريبه منذ اكتشاف مناجم غنية بالذهب في عام 2012 تمتد على جزء كبير من منطقة الساحل. وقد أدى التوسع السريع في عمليات تعدين الذهب عقب هذا الاكتشاف إلى نشوء منافسة قوية بين الجماعات الإرهابية للسيطرة على هذه المناجم، وتنامي الهجمات ضد عمليات تعدين الذهب في السنوات الثلاث الماضية، لاسيما أن السيطرة على مناجم الذهب يضمن لتلك الجماعات المزيد من التأثير والنفوذ بين السكان المحليين، فضلاً عن المكاسب والعوائد المالية[13].
ففي حين تقوم الجماعات الإرهابية باستخراج الذهب وتهريبه لجني عوائد مالية، خاصة في دول مثل بوركينا فاسو، التي تنتج وحدها ما يصل إلى 20 طنًا من الذهب سنويًا، بقيمة سنوية تقديرية تصل إلى 1.5 مليار دولار، تظل الممارسة الأكثر شيوعًا في المناطق التي تسيطر عليها جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" في بوركينافاسو ومالي هي كسب المال من خلال توفير الأمن للسكان، حيث تحل الجماعة في العديد من مناطق تعدين الذهب محل الميليشيات الموالية للحكومة، وتقوم بتوفير الأمن والحماية لعمال المناجم المحليين، مقابل رسوم مالية، الأمر الذي لا يمنح الجماعة دخلاً ثابتًا فحسب، بل يساعدها أيضًا على بناء علاقات وشراكات في المنطقة مع الزعامات المحلية[14].
جهود مكافحة الإرهاب في غرب أفريقيا
تضمنت خطط مكافحة الإرهاب فى الغرب والساحل الأفريقى العديد من الفاعليات كان للعمل الجماعى المشترك الدور الأبرز فيها:
1- أهم جهود مكافحة الإرهاب
تعتبر مجموعة دول الساحل الخمس (G5)، التي أنشأت عام 2014، لتضم كل من بوركينافاسو، ومالي، والنيجر، وتشاد، وموريتانيا، من أبرز وأهم الآليات والجهود الإقليمية في مواجهة خطر الجماعات الإرهابية والمتطرفة في غرب أفريقيا، لاسيما في مثلث ليبتاكو-غورما. هذا إلى جانب قوة المهام المشتركة المتعددة الجنسيات (MNJTF) المؤلفة من بنين والكاميرون وتشاد والنيجر ونيجيريا، التي بدأت نشاطها منذ عام 2015، وركزت بصورة كبيرة على مواجهة خطر الأنشطة الإرهابية لبوكو حرام في منطقة حوض بحيرة تشاد. والتي رغم التحديات العديدة التي واجهت القوة على كافة المستويات الاستخباراتية والتمويلية والعسكرية، إلا أنها حققت في مرحلة ما من عملها العديد من النجاحات سواء بالنسبة لخطة مواجهة الإرهاب والتطرف في دول الحوض، أو بالنسبة لتعزيز روح العمل الإقليمي المشترك بين دول المنطقة.
وفي عام 2013، تدخلت القوات الفرنسية في مالي بناء على طلب من الحكومة المالية، من خلال عملية "سيرفال"، وهي عملية عسكرية فرنسية في مالي، كانت تقوم على مواجهة الميلشيات الإسلامية المتمردة في شمال مالي. وقد تحولت هذه العملية في وقتٍ لاحق إلى عملية "برخان"، كقوة قوامها ثلاثة آلاف جندي مقرها تشاد، تستهدف في الأساس مواجهة الجماعات المتطرفة والإرهابية في كل من بوركينافاسو، ومالي، والنيجر.
ويُذكر أنه في عام 2015 قدمت عملية برخان دعمًا إضافيًا لقوة المهام المشتركة المتعددة الجنسيات، كما أعلنت في 2017 إلى جانب مجموعة الدول الخمس لمنطقة الساحل (G5)، إنشاء قوة الساحل G5، كقوة لمكافحة الإرهاب قوامها خمسة آلاف جندي تهدف إلى مواجهة الجماعات المسلحة والإرهابية مع تفويض موسع لعبور الحدود في منطقة الساحل. هذا فضلاً عن دورها في إنشاء بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي.
لكن مع فشل التدخل العسكرى الفرنسى فى الساحل فى احتواء التنظيمات الإرهابية، وتزايد أعداد الضحايا من الجنود الفرنسيين، وتزايد المطالب الشعبية فى دول الساحل المطالبة بخروج القوات الفرنسية، أعلن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون في 13 يوليو 2021، أن عملية "برخان" ستنتهي في الربع الأول من عام 2022. الأمر الذي أدى إلى تنامي معدل العمليات الإرهابية في المنطقة، لاسيما الهجمات الموجهه ضد بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد، التي وصفت بأنها أخطر بعثة لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة والتى أتمت انسحابها من البلاد فى ديسمبر 2023[15].
2- تحديات مكافحة الإرهاب
- مثل الفراغ الأمني الذي عانى منه إقليم الغرب الأفريقى ومنطقة الساحل في هذه المرحلة، وما نتج عنه من تنامي ملحوظ في نشاط ونفوذ التنظيمات الإرهابية في الإقليم، دافعًا للمجلس العسكري المالي للسعى من أجل الحصول على مساعدة دعم مجموعة "فاجنر" الروسية، التي سارعت في نشر ألف مُرتزقة في مالي يتمركزون في خمسة عشر موقعًا، بما في ذلك القواعد الفرنسية السابقة. وتنخرط مجموعة "فاجنر" والتى أصبح اسمها عقب اغتيال قائدها "الفيلق الأفريقى" في عمليات عسكرية عديدة ضد التنظيمات الإرهابية النشطة في الساحل الأفريقي بموجب عقود تبرمها مع حكومات دول المنطقة بزعم توفير الدعم الأمني والعسكري للجيوش الوطنية، وتمكينها من مواجهة خطر تلك التنظيمات.
- أما الأمر الآخر الذي ساهم في تعقيد حالة الفراغ الأمني في المنطقة، فهو مطالبة حكومة مالي برحيل بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، في يونيو عام 2023، وهو ما وافقت عليه الأمم المتحدة ما دفع كل من مالي، والنيجر، وبوركينافاسو لإنشاء اتفاق دفاع مشترك تحت مُسمى تحالف دول الساحل (AES)، في 16 سبتمبر 2023، بهدف تحقيق التعاون الأمني والسياسي والاقتصادي بين الدول الثلاث، وتعزيز جهود الدول الثلاثة في استراتيجيات وعمليات مكافحة التطرف والإرهاب. وعلى الرغم من التحديات السياسية والعسكرية التي تواجهها الدول الثلاث، إلا أن مجرد فكرة إنشاء مثل هذا التحالف الإقليمي يُمثل خطوة هامة في مسار فك الارتباط بالقوى الغربية في المنطقة، لتقويض نفوذها، وسد الفراغات الأمنية التي لطالما استغلتها القوى الخارجية لمد نفوذها داخل القارة بزعم حفظ السلم والأمن الإقليمي والدولي.
ختامًا، يمكن القول إن مستقبل الإرهاب في إقليم غرب أفريقيا يرتبط بدرجة كبيرة بمدى قدرة دول المنطقة على علاج وإعادة هيكلة العديد من الاختلالات والتحديات التي تواجه أوضاعها الداخلية على كافة المستويات السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، للعمل دون أن تصبح تلك الدول بيئة خصبة وبؤرًا جاذبة لتنامي نشاط ونفوذ التنظيمات الإرهابية المحلية والدولية على حد سواء. فضلاً عن ضرورة تعزيز التعاون والتنسيق البيني السياسي، والاستخباراتي، والعسكري بين دول الإقليم بشأن جهود مكافحة الإرهاب والتطرف، للوقوف أمام الأطماع والأجندات الدولية، التي تتنافس على استغلال الثغرات والتهديدات الأمنية التي تواجهها تلك الدول للتغلغل فيها تحت ستار حفظ السلم والأمن الدوليين،ولزيادة فرصها على المدى الطويل في خلق شبكات من المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية داخل تلك الدول.
(*) يتم تحديد مدى هشاشة الدول بالاعتماد على مؤشر الدول الهشة (FSI) الذي يصدره صندوق السلام (FFP)، وهو تقييم سنوي لـ 178 دولة بناء على قياس الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تواجهها كل دولة.
[2] أحمد عسكر، إشكالية العلاقة بين الإرهاب والانقلابات العسكرية في الساحل، مجلة المشهد العالمي للتطرف والإرهاب (القاهرة: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 8، مارس 2024)، ص: 77، 81.
[4] خميس جمعة الشهواني، التنظيمات الإرهابية في ضوء القانون القطري لمكافحة الإرهاب)دراسة مقارنة(، رسالة ماجستير (الدوحة: جامعة قطر كلية القانون، يونيو 2018)،ص ص: 10،11.
([5])المرجع السابق، ص: 13.
[6] Jonathan Matusitz, Doris Wesley, Jihad in Sub-Saharan Africa(Bern: Published by the registered company Springer Nature Switzerland AG., 2024), p.43.
[7] Sergey V. Kostelyanets, Tatyana S. Denisova, Terrorism in Nigeria: National Peculiarities and International Linkages, in J. Besenyo˝ et al. (eds.), Terrorism and Political Contention, Perspectives on Development in the Middle East and North Africa (MENA) Region (Bern: Springer Nature Switzerland AG, 2024), P.296.
[8] Jonathan Matusitz, Doris Wesley, Op.Cit., p.44.
[9] Kemi Okenyodo, The Role of Women in Preventing, Mitigating and Responding to Violence and Violent Extremism in Nigeria, in Naureen Chowdhury Fink, Sara Zeiger & Rafia Bhulai (Editors), A Man’s World? Exploring the Roles of Women, in Countering Terrorism and Violent Extremism (Washington, D.C.: Hedayah and The Global Center on Cooperative Security, 2016), p.111.
[10] لماذا تتصدر "بوكو حرام" الجماعات الأكثر دموية في العالم؟!، مرصد الأزهر لمكافحة التطرف (القاهرة: مطابع الأزهر الشريف، الطبعة الثالثة، 2018)، ص:9.
[11] Threat Tactics Report: Boko Haram (TRADOC G-2 ACE Threats Integration, Version 1.0, October 2015), p.4.
[13] Institute for Economics & Peace., Op.Cit., p.56.