يكثُر الحديث منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما رافقها من مشاهد قتل مروعة بحق المدنيين الفلسطينيين وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ارتكبتها آلة القتل الإسرائيلية، حول موقف الولايات المتحدة تجاه هذه الانتهاكات وحدود دورها في الضغط على إسرائيل لوقف هذه الانتهاكات التي أضرّت بصورتها باعتبارها قائدة العالم الغربي ومنظومته القيمية التي تأسست على دعم الحريات وحماية حقوق الإنسان، خاصة وأن هذا التصعيد يأتي في ظل إدارة أمريكية ديمقراطية، لتعكس بين ثنايا هذا الموقف العديد من الحسابات المعقدة التي لا يحكمها فقط الجانب القيمي في السياسة الخارجية الأمريكية الذي تبين أنه يتمتع بالوزن النسبي الأقل من ناحية التأثير على عملية صنع القرار، وذلك لصالح واقعية المصلحة الأمريكية في الحفاظ على هيمنتها الإقليمية والدولية عبر تأمين بقاء ونفوذ مصالح حلفاءها الاستراتيجيين وفي مقدمتهم إسرائيل.
ملامح الموقف الأمريكي منذ اندلاع الحرب
غلب على الموقف الأمريكي منذ اندلاع الحرب الجارية جملة من الملامح والمحددات التي ارتكزت إليها في تشكيل سلوكها الخارجي تجاه الأزمة، وذلك على النحو التالي:
1- تأكيد الدعم المطلق لإسرائيل واستراتيجية العلاقة معها: جاء الموقف الأمريكي منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب مؤكدًا على دعمه المطلق غير المحدود لتل أبيب، وانعكس ذلك في الزيارة غير المسبوقة لأي رئيس أمريكي يزور إسرائيل أثناء الحرب، والتي قام بها الرئيس الأمريكي جو بايدن في 18 أكتوبر 2023، والتي أكد خلالها أن وجوده في إسرائيل "لكي يعرف العالم أن الولايات المتحدة تقف إلى جانبها"، مضيفًا: "الولايات المتحدة ستتأكد من أن إسرائيل لديها ما تحتاجه للدفاع عن نفسها". وتلى ذلك العديد من الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأمريكية لتوفير كافة سبل الدعم السياسي والعسكري لتل أبيب، حيث وافق مجلس النواب الأمريكي في مطلع نوفمبر 2023 على طلب إدارة الرئيس جو بايدن بتخصيص 14.3 مليار دولار مساعدات لإسرائيل، وفي أبريل 2024 تمت الموافقة على حزمة مساعدات خارجية بقيمة 17 مليار دولار من الدعم العسكري لإسرائيل. وعلى مستوى الدعم السياسي، قامت واشنطن باستخدام الفيتو لتعطيل العديد من القرارات الدولية التي تدين الانتهاكات الإسرائيلية وتدعو لوقف فوري لإطلاق النار.
هذا فضلاً عن تحريك القطع البحرية الأمريكية وحاملات الطائرات إلى المنطقة لتفعيل مظلة "الردع الممتد" تجاه إسرائيل في مواجهة التهديدات الإيرانية ووكلاءها في الجبهات المختلفة التي تطوق تل أبيب، لتعكس هذه المؤشرات في مجملها الحرص الأمريكي على تأكيد التزامه بأمن إسرائيل وتوفير الدعم غير المحدود لموقفها باعتبارها الحليف الاستراتيجي الأكثر أهمية لواشنطن بمنطقة الشرق الأوسط.
2- موازنة الدعم بجهود الوساطة: بالتوازي مع هذا الموقف الداعم لتل أبيب، سعت واشنطن إلى موازنة هذا الدعم من خلال تعزيز جهود الوساطة والترويج لرؤيتها لحل الصراع في إطار ما عُرف بسيناريوهات اليوم التالي للحرب، وذلك استنادًا لمبدأ "حل الدولتين" الذي تدعمه غالبية أعضاء الجماعة الدولية، وإن كانت هذه الرؤية لم تتوافق مع الرؤية المتطرفة للائتلاف الإسرائيلي الذي يسعى إلى توسيع رقعة احتلاله للأراضي الفلسطينية بضم أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، والعمل على تهجير المواطنين الفلسطينيين إلى دول الجوار.
وفي هذا الإطار، حرصت الولايات المتحدة على المشاركة في جهود التفاوض، فجاء مقترح الهدنة الذي أعلنه الرئيس الأمريكي بايدن في 31 مايو 2024، والذي مرره باعتباره مقترحًا إسرائيليًا، ولم يتمكن من إحداث اختراق وحلحلة لجمود مشهد التفاوض بين أطراف الصراع، ليعقب ذلك محاولات أخرى، كان آخرها جولة التفاوض التي انطلقت في الدوحة على مدار يومين (15 -16 أغسطس 2024)، والتي وصفها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بأنها قد تكون "الفرصة الأخيرة" لتأمين هدنة، ولا يبدو أن هذه الجولة قد أحدثت المرجو منها، في ضوء ما يتوارد من تصريحات لمسئولي الوساطة، وكذلك تصريحات أطراف الصراع، خاصة الإسرائيلي الذي تمسك بمنهج المراوغة ووضع العراقيل عبر تجزئة الحل لتوليد أثمان مختلفة لكل مسألة، فضلاً عن أخذ التفاوض في مسار غير مجدٍ للتركيز على التفريعات والتفصيلات وليس الحل ذاته (فرض التهدئة ووقف إطلاق النار) بحيث يصبح التفاوض غاية في ذاته وليس أداة للحل.
وفي المقابل، تتمسك حركة حماس بمقترح الهدنة الأمريكية المشار إليه سلفًا، والذي يضمن لها على الأقل -بحسب تقديرها- الحد الأدنى من الضمانات في إطار مراحل الهدنة التي ستكون مقيدة بشروط ينبغي أن يلتزم بها الطرفان لاستكمال كامل المراحل الثلاث التي من شأنها أن تقود لوقف كامل لإطلاق النار، وهو ما بدا أنه هدف غير مرغوب للائتلاف الاسرائيلي الذي يراهن على منهج الاستمرار بفرض الأمر الواقع خاصة بعد الواقع الجديد الذي تشكل في أعقاب اجتياح مدينة رفح، وفي المقابل يعمل على تحييد آية آثار للضغط من شأنها أن تقود إلى وقف الحرب، بحيث تتعامل تل أبيب مع أحداث التصعيد ولا تتفاعل معها بمنطق الضغط، وإنما بمنطق التوظيف لتحييد الضغط. وبدا ذلك واضحًا في أعقاب تصعيدها المبالغ فيه ارتباطًا بأحداث "مجدل شمس"، بالقيام بعمليات اغتيال استفزازية لقيادات الصف الأول لحركات المقاومة، والتي استهدفت منها تحييد أثر الضغط الإقليمي المتولد من مبدأ "وحدة الساحات" الذي يقوده ما يُعرف بـ "محور المقاومة" المدعوم إيرانيًا، من أجل تثبيت قواعد جديدة للردع دون عتبة "الحرب الشاملة" خاصة مع حزب الله، وهو ما بدا أنها نجحت في تحقيقه خاصة في أعقاب إعلان حزب الله في 25 أغسطس 2024، الانتهاء مما وصفه بـ"المرحلة الأولى" من الهجوم الجوي على إسرائيل ردًا على مقتل فؤاد شكر.
3- تعزيز الهيمنة الإقليمية وموازنة نفوذ الخصوم بالمنطقة: إلى جانب الأهداف الواضحة للتحركات الأمريكية السابقة بتوفير الدعم لإسرائيل على خلفية الحرب التي تشنها ضد قطاع غزة، وتعزيز مظلة الردع الممتد لتل أبيب في مواجهة تهديدات الوكلاء الإيرانيين، تنشأ أهداف أخرى مهمة على المستوى الجيوسياسي لواشنطن تتمثل في إعادة التموضع في المنطقة، وتأكيد نفوذها في مواجهة تصاعد نفوذ القوى المناوئة لها هناك على غرار النفوذ الإيراني، وكذلك النفوذ (الروسي – الصيني)، خاصة في ظل محاولتهم ملء فراغ تراجع الحضور الأمريكي بالمنطقة.
وينعكس ذلك في التحركات العسكرية الكبيرة التي قامت بها واشنطن بتحريك البوارج والقطع البحرية وحاملات الطائرات إلى المنطقة، إلى الدرجة التي دفعت بعض التقارير خلال الأيام الماضية للحديث عن أن هذه التحركات كانت من بين الأسباب التي أدت إلى خلو المحيط الهادئ للمرة الأولى منذ العام 2001، من أي حاملة طائرات أمريكية (هناك ستة منها تابعة لأسطول المحيط الهادئ: خمس، لأسباب مختلفة، بما في ذلك بسبب الصيانة، لا يمكنها الوصول إلى هناك؛ والسادسة ترسو في الوقت الراهن بمنطقة الشرق الأوسط) وذلك في استعراض للقوة لا يبدو أنه مقصود منه ردع إيران ووكلاءها بالمنطقة فحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى إطار الاستراتيجية العامة للولايات المتحدة المرتبطة بموازنة نفوذ الخصوم (الصين – روسيا) بالمناطق الجغرافية المختلفة حول العالم لتأكيد استمرار هيمنتها العالمية.
حسابات اللحظة الراهنة ومتغيرات السياق
جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال الساعات الماضية، والتي أكد خلالها بأنه لا يعتقد "أن نتنياهو يبذل ما يكفي من الجهد لضمان التوصل لاتفاق"، في محاولة على ما يبدو للحديث فوق رؤوس قادة الائتلاف الاسرائيلي إلى الجمهور الاسرائيلي وتحديدًا أهالي الأسرى والنازحين، الذين تلقوا هذه التصريحات، واعتمدوا عليها في توجيه الانتقادات لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته بعدم بذل الجهد الكافي لإنقاذ أرواح ذوويهم، خاصة وأن ذلك جاء تزامنًا مع العثور على جثث ستة من الأسرى الإسرائيليين.
السؤال هنا: هل نحن بصدد الحديث عن تحول في موقف الإدارة الأمريكية استنادًا لهذه التصريحات، التي ربما جاءت في إطار ممارسة مزيد من الضغط على نتنياهو للقبول باتفاق تهدئة يروج إليه خلال اليومين الماضيين بأنه سيكون مقترح "الفرصة الأخيرة"، خاصة في ظل تنامي الإدراك على ما يبدو لدى مسئولي الإدارة الأمريكية بمناورة نتنياهو لتوظيف أحداث التصعيد الراهنة بالمنطقة، وعرقلة المفاوضات من خلال نهج المراوغة، من أجل تعزيز حظوظ المرشح المفضل لتل أبيب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وذلك على حساب المرشحة الديمقراطية ونائبة الرئيس الحالي كامالا هاريس.
إلا أن هذه الحالة من عدم اليقين بشأن دوافع واتجاهات الضغط الأمريكية ضد الموقف المراوغ لتل أبيب في التجاوب مع مقترحات التهدئة التي قادتها الولايات المتحدة إلى جانب مصر وقطر خلال الأيام الماضية، والمحتملة خلال الأيام القادمة، يمكن تفسيرها في ضوء معطيات اللحظة الراهنة التي تنطلق منها الإدارة الأمريكية في رسم حدود دورها، وذلك وفقًا للحسابات التالية:
1- سياق الانتخابات الرئاسية وتوازنات الداخل الأمريكي: يفرض سياق الانتخابات الأمريكية المرتقبة في 5 نوفمبر القادم حسابات معينة على موقف الإدارة الأمريكية الراهنة إزاء اتجاهات الضغط والتأييد ضد موقف قادة الائتلاف الاسرائيلي، نظرًا لقدرتهم على مخاطبة جماعات الضغط والمصالح وخاصة (الإيباك) في الداخل الأمريكي، وذلك فوق رؤوس قادة الإدارة الأمريكية الحالية من أجل تأمين الدعم لمواقفهم المتطرفة بشأن مسارات الحل والتفاوض، خاصة وأن هذه المواقف تأتي في وقت تخوض فيها إسرائيل حربًا تروج إلى أنها ضد قوى "محور الشر". وبالتالي، فإن مساحات المزايدة على أي موقف أمريكي ضاغط ضد تل أبيب يمكن لجماعات اللوبي أن تروجها بأنها تأتي طعنًا في ظهر الحلفاء وقت الحرب. ولعل ذلك يفسر سهولة الانتقاد الذي توجهه الإدارة الأمريكية من وقت لآخر ضد الحكومة الإسرائيلية -وإن لم يرتق إلى مستوى الانتهاكات المرتكبة- نتيجة توسعها الاستيطاني في الضفة الغربية، وكذلك انتهاكات المستوطنين المتطرفين ضد السكان الفلسطينيين هناك.
بيد أن تلك الحسابات لم تمنع هامش المناورة للإدارة الأمريكية في مواجهة هذه الضغوط، وذلك بدافع تحييد أي تحرك مضاد تراهن عليه الحكومة الإسرائيلية وعلى رأسها نتنياهو بالتدخل غير المباشر في الانتخابات الأمريكية لترجيح كفة المرشح الجمهوري على حساب المرشحة الديمقراطية عبر عرقلة جهود الإدارة الحالية لإحداث أي اختراق في ملف التفاوض ورفض مقترحاتها للتهدئة ولعل من أبرزها المقترح الذي أعلنه الرئيس الأمريكي في 31 مايو 2024، وإفشال جولة التفاوض الأخيرة. ويتقاطع ذلك مع ما تداولته بعض التقارير التي تتحدث عن أن المرشح الرئاسي دونالد ترامب يحاول إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بوقف محادثات السلام في غزة حتى بعد الانتخابات الأمريكية.
2- الداخل الإسرائيلي وحسابات شرعية الائتلاف: في ضوء ما يشهده الداخل الإسرائيلي من اتساع لرقعة الاحتجاج وسط دعوات من جانب اتحاد نقابات العمال الإسرائيلي (الهستدروت) بالإضراب العام، وذلك على خلفية الإعلان عن العثور عن جثث ستة أسرى اسرائيليين، فإن هذه التطورات تعكس بدورها حالة الاحتقان والغضب التي يشهدها قطاع واسع من الشارع الاسرائيلي بشأن الموقف المتعنت من جانب قادة الائتلاف الحكومي وعدم المرونة للوصول إلى اتفاق هدنة يتم بموجبه إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وكذلك عودة النازحين بمناطق الشمال والجنوب. ومن ثم، شكل هذا السياق الداخلي الضاغط ضد شرعية الائتلاف فرصة لأن يتحدث الرئيس الأمريكي إلى الجمهور الإسرائيلي في إطار الضغط على نتنياهو وشركاءه، بذريعة الحرص على أرواح الإسرائيليين ومصلحة الدولة العبرية على غرار الحديث الذي وجهته هذه الإدارة قبل اندلاع أحداث 7 أكتوبر العام الماضي، إلى قادة الائتلاف الإسرائيلي بالعدول عن خطط الإصلاح القضائي التي كادت أن تقود إلى حرب أهلية، وكذلك التأثير على النموذج الديمقراطي – بحسب الرواية الأمريكية آنذاك - الذي يتجاوزه قادة هذا الائتلاف أيضًا خلال هذه الحرب والسعي عبر مخططاتهم لفرض الهوية اليهودية القومية المتطرفة في رؤيتهم بشأن مسارات التسوية للصراع الفلسطيني – الاسرائيلي.
3- السياق الإقليمي ومُحفِّزات التصعيد: في إطار ما شهدته المنطقة خلال الفترة الماضية من تصعيد محموم بين تل أبيب وتنظيمات ما يُعرف بـ "محور المقاومة"، والتي فرضت بدورها حالة من عدم اليقين بشأن مواقف أطراف التصعيد حول احتمالية الذهاب إلى مواجهة إقليمية واسعة، على نحو دفع بعض الأطراف الإقليمية والدولية وفي مقدمتهم الولايات المتحدة المعنية بعدم اتساع رقعة الصراع بشكل سيكون مُضِرًا لمصالحها ومصالح حلفاءها بالمنطقة، إلى تكثيف الحركة من أجل تهدئة الصراع، وإطلاق جولة جديدة للتفاوض بشأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة باعتبارها أحد المسببات الرئيسية للتصعيد الذي تشهده المنطقة على الجبهات المختلفة. بيد أن رهان قادة الائتلاف الاسرائيلي وفي مقدمتهم نتنياهو على براجماتية وعقلانية السلوك الإيراني في التعامل مع حالة التصعيد في المنطقة بحيث لا يسمح بالذهاب إلى مواجهة شاملة صفرية، هذا فضلاً عن الاعتماد على مظلة "الردع الممتد" التي توفرها الولايات المتحدة لمنع جبهات المواجهة الإقليمية من الإقدام على سيناريو تصعيدي يقود إلى حرب إقليمية واسعة، عزز منهج المراوغة الإسرائيلي وعدم المرونة في التعامل مع الصيغ المقترحة للتهدئة، ووضع شروطًا جديدة تعلم جيدًا تل أبيب صعوبة التجاوب معها، بل ويسعى في الوقت الراهن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى خلط الأوراق عبر مهاجمة الوسطاء وجعلهم طرفًا في المشكلة وليس الحل، وهو ما دفع البعض للاعتقاد بعدم جدية الطرف الأمريكي الذي أحيا هذه المفاوضات من جديد، والتشكيك في نواياه حول ما إذا ما كانت هناك رغبة حقيقية في الوصول لاتفاق تهدئة يتجاوب معه الطرف الإسرائيلي الذي ساعد الدعم الأمريكي في تحييد أية مسارات للضغط تجعله يتفاعل مع المفاوضات ويُبدي مرونة بشأن صيغ التفاوض المقترحة، بل وذهب البعض إلى أبعد من ذلك من ناحية كون هذه الجهود الأمريكية بإحياء المفاوضات إنما جاءت في إطار كسب الوقت من أجل تعطيل أية محاولات من جانب إيران للرد على عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية بطهران.
ختامًا، تفرض هذه الحسابات تعقيدات متأرجحة في تأثيرها على الموقف الأمريكي من ناحية الضغط على تل أبيب بشأن مرونتها تجاه أية مسارات للتفاوض، وإن كانت تراهن واشنطن في الوقت الحالي على أن يحدث ذلك عبر الداخل الإسرائيلي والرأي العام هناك، من خلال اتساع رقعة الاحتجاجات التي تشكك بدورها في شرعية الائتلاف الحكومي الإسرائيلي وتسهل مهمة انتقاده والضغط عليه إقليميًا وبدرجة أكبر دوليًا، وبدأ ذلك يتضح عبر اتخاذ الحكومة البريطانية خلال اليومين الماضيين قرارًا بتعليق بأثر فوري تراخيص تصدير الأسلحة لإسرائيل. بيد أن التعويل على هذه العوامل بأن تحدث فارقًا في الموقف الإسرائيلي يواجه عقبات، خاصة في ظل هامش المناورة السياسية التي يقوم بها طوال الوقت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويفرض معها المسار العسكري واستمراره كأمر واقع بالنسبة للداخل، خاصة في ظل رهانه على شركاءه المتطرفين في الائتلاف الذين يوفروا بدورهم حاضنة شعبية من جمهور اليمين المتطرف، ويسعوا إلى مغازلته من وقت لآخر بتوسيع حركة الاستيطان في أراضي الضفة الغربية وكذلك الدفع نحو مسار احتلال قطاع غزة.
هذا فضلاً عن غياب عوامل التأثير الأقوى في هذا الصدد، والتي سعت إسرائيل إلى تحييد أثرها وساعد في ذلك موقف الدعم الأمريكي بالردع ضد احتمالات التصعيد الإقليمي الموسع الذي حفّزته تل أبيب بالمراهنة على أن يحقق ذلك إما تثبيت قواعد للردع يتم بموجبها تحييد أثر مبدأ "وحدة الساحات" أو توريط الولايات المتحدة في مواجهة مع إيران تقطع من خلالها الطريق أمام أية محاولات لطهران لإحياء المفاوضات بشأن برنامجها النووي ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وهو ما قد تضمنه أيضًا إذا ما جاء المرشح الجمهوري دونالد ترامب، ولذلك يبدو أن نتنياهو وشركاءه في الائتلاف غير مهتمين بالتوصل إلى أية اتفاقات تهدئة في الوقت الحالي انتظارًا لما ستفضي إليه انتخابات الرئاسة الأمريكية التي ستجرى في 5 نوفمبر 2024، من أجل تحييد أية تكلفة سياسية متوقعة لهذا الاتفاق وتعظيم مكاسبهم الانتخابية في أية انتخابات قادمة في أوساط قاعدة ناخبيهم من اليمين المتطرف.
تفرض هذه الحسابات بدورها العديد من التساؤلات أمام الإدارة الأمريكية الراهنة حول ما إذا كانت ستتحرر من هذه الحسابات السياسية الضيقة وستنتصر لمسئوليتها الدولية باعتبارها قائدة للنظام الدولي الذي تسعى عبر العديد من التحركات ونسج الشراكات وتطوير المبادرات لتأكيد استمرار هيمنتها عليه، وبالتالي النظر إلى إعادة ترميم الثقة في النموذج المعرفي الغربي الذي يتأسس على قاعدة أساسية لطالما تم الترويج لها وهي حماية حقوق الإنسان، باعتبار ذلك ضرورة أساسية ضمن تحركاتها لإعادة تأكيد المكانة وفرض الهيمنة، بحيث يكون ذلك عبر بوابة إيقاف الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة، والتي ستكون بالتأكيد قد جاءت متأخرة. ومن ثم، تبدأ في التعامل مع هذا الائتلاف الإسرائيلي المتطرف باعتباره بات يمثل عبئًا حقيقيًا في ظل سعيه للانتصار لرؤيته اليمينية المتطرفة، والتي تتكشف في تصعيده الحالي في الضفة الغربية ورغبته في البقاء كسلطة احتلال لقطاع غزة أم سيبقى الوضع كما هو عليه من ناحية تغليب لغة الحسابات السياسية الضيقة التي ينطلق منها أيضًا قادة الائتلاف الإسرائيلي الراهن.
بمعنى آخر: هل من الممكن أن تكون الخطوة الأهم خلال الفترة المتبقية من حكم الرئيس الأمريكي جو بايدن هى العمل على فرض التهدئة وإنهاء هذه المأساة الإنسانية غير المسبوقة التي يشهدها قطاع غزة وكذلك تحييد مُحفِّز التصعيد الصراعي المتشكل في الوقت الراهن نتيجة هذه الحرب المستعرة التي يرغب قادة الائتلاف الإسرائيلي في استمرارها؟.