رابحة سيف علام

خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

 

باشر حزب الله اللبناني، فجر الأحد 25 أغسطس 2024، توجيه رده المنتظر على اغتيال قائده العسكري الأول فؤاد شكر. وكان رد الحزب على إسرائيل قد تأخر ثلاثة أسابيع قبل أن يتم حسمه من خلال إطلاق نحو 340 صاروخاً وعشرات المسيرات الهجومية الموجهة ضد قواعد عسكرية في محيط جغرافي يمتد من الشمال الإسرائيلي حتى تل أبيب ليستهدف 11 هدفاً منهم 4 أهداف في الجولان، فضلاً عن قاعدتين في تل أبيب إحداهما جوية والأخرى استخباراتية وتعتبر مقراً سرياً، فيما ييدو أنه محاولة من الحزب لتثبيت معادلة جديدة للردع تشمل استهداف ضاحية تل أبيب الشمالية مقابل استهداف ضاحية بيروت الجنوبية، واستهداف قواعد عسكرية سرية مقابل استهداف قادة الصف الأول.

في وصف الهجومين: "رد" حزب الله و"استباق" إسرائيل

نفذ حزب الله هجومه على مرحلتين: الأولى، شملت توجيه رشقة صاروخية تتكون من 340 صاروخ كاتيوشا من عدة منصات لإطلاق الصواريخ في جنوب وشمال نهر الليطاني والبقاع. استهدف الحزب من هذه الرشقة الصاروخية تشتيت الدفاعات الجوية لإسرائيل كي تعجز القبة الحديدية عن اعتراض المسيّرات الهجومية التي تعتبر لب الهجوم. ولذا نفذ هذه الرشقة بصواريخ تعتبر محدودة الإمكانيات أو حتى قيل أنها مجسمات للصواريخ وليست صواريخ فعلية بالضرورة.

والثانية، تضمنت إطلاق مجموعة من المسّيرات- تحفظ الأمين العام للحزب حسن نصرالله في خطابه عن ذكر عددها- إلى هدفين رئيسيين في محيط تل أبيب. الهدف الأول والأصلي هو قاعدة 8200 وهي قاعدة سرية للاستخبارات العسكرية – أمان- ضمن مجمع جليلوت العسكري - وهي القاعدة المسئولة بحسب بيان حزب الله عن الاتصالات والرصد الاستخباراتي، وبالتالي فهي قاعدة متورطة بشكل مباشر باغتيال فؤاد شكر، فهذا المستوى القيادي يتم تتبعه عن بعد عبر خدمات التجسس الفني التي تقدمها هذه القاعدة.

أما الهدف الثاني فهو هدف ثانوي تم استهدافه فقط لتأمين الاستهداف الأول، وهي قاعدة عين شيمير للدفاع الجوي التي تبعد 72 كم من الحدود اللبنانية-الإسرائيلية وتعتبر هي التأمين الجوي الرئيسي لمجمع جليلوت العسكري، ولذا كان لابد من ضربها كي يصبح ضرب جليلوت ممكناً. وبالنظر لطبيعة الهدف، فإن حزب الله قد هاجم المقر الرئيسي للاستخبارات العسكرية ضمن مجمع عسكري يعتبر سرياً ويقع على بعد 110 كم من الحدود اللبنانية-الإسرائيلية وعلى بعد 1.5 كم فقط من تل أبيب أي ضمن ضاحيتها الشمالية. وصف حزب الله تفاصيل الهجوم أولاً بأول من خلال بيانين رسميين أصدرهما صباحاً قبل أن يصدر بياناً ثالثاً ينفي فيه الرواية الإسرائيلية المقابلة ويعد بظهور أمينه العام حسن نصر الله في وقت لاحق ليشرح تفاصيل الاستهداف.

من جهتها، أعلنت إسرائيل أنها رصدت استعداد حزب الله لتنفيذ هجوم كبير ضدها فصدرت أوامر عاجلة من المستوى السياسي للجيش بعد التداول مع الأمريكيين لتنفيذ هجوم استباقي لمنع تنفيذ هجوم حزب الله. وحشدت إسرائيل، وفق ما أعلنت، ما يقارب 100 طائرة مقاتلة لتنفيذ قصف مكثف في نحو 40 نقطة بهدف إجهاض الهجوم الصاروخي الكبير الذي كان من المفترض أن يكون قوامه 6 آلاف صاروخ بحسب المصادر الإسرائيلية[1].

تركزت الضربات الإسرائيلية في محيط يبعد 10-15 كم من الحدود المشتركة، وزعمت تل أبيب أنها قد دمرت الآلاف من منصات الصواريخ الدقيقة مما أفقد هجوم حزب الله زخمه وأثر على تسلسله الزمني ودقته وقلل من خسائره الفادحة، وبالتالي فشل في ضرب أهداف عسكرية مهمة للغاية في منطقة الوسط، أي محيط تل أبيب[2].

من جانبها، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أنها ساعدت إسرائيل في رصد استعداد حزب الله لتوجيه ضربة ولكنها نفت مشاركتها الفعلية في الهجوم الاستباقي الإسرائيلي قُبيل هجوم حزب الله[3]. وخلال الفترة الصباحية من يوم الهجوم، صدرت تعليمات في الجبهة الداخلية الإسرائيلية بالتوجه للملاجئ وعُلِّقت حركة الطيران بمطار بن جوريون لبضعة ساعات قبل أن تعود الحياة إلى طبيعتها عقب إعلان حزب الله عن انتهاء الهجوم. 

نصرالله ينفي إجهاض الرد

بعد نحو 12 ساعة من تنفيذ الهجوم، ألقى نصرالله خطاباً متلفزاً لشرح تفاصيل الهجوم ولتفنيد ما اعتبره ادعاءات إسرائيلية بأن الهجوم قد أحبط. إذ اعتبر نصرالله أن الرد الذي وجهه حزب الله على اغتيال فؤاد شكر قد أُنجز بحسب ما كان مخططاً له، ولم يتأثر بالهجوم الاستباقي الذي ادعت إسرائيل أنها نفذته. بدا نصرالله خلال خطابه هادئاً وواثقاً بل معتداً بتنفيذ هجوم "ناجح" كما تم الإعداد له، رغم أنها العملية المركبة الأولى التي ينفذها حزب الله دون إشراف قائده العسكري الأول، فؤاد شكر. اهتم نصرالله بالحديث عن تفاصيل تتعلق بتوقيت الهجوم، وتحديد الهدف ومراحل تنفيذ العملية وطبيعة الصواريخ المستخدمة ولكنه سكت عن وصف المسيرّات وعددها. قال نصرالله أن الرد قد تأخر لعدة أسباب، أهمها إعطاء الفرصة للمساعي التفاوضية للتقدم، على أساس أن هدفه المركزي كان مساندة المقاومة الفلسطينية في حرب غزة، وإفساح المجال لوساطة الأطراف العربية في التفاوض، فلما تأكد له أن الإسرائيليين يناورون وليسوا جادين في إتمام اتفاق تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، قرر المضى بتنفيذ الرد دون تأخير إضافي.

كما اعتبر نصرالله أن الحزب أراد انتقاء الهدف بدقة من بين بنك الأهداف الزاخر الذي يملكه، فهو هدف عسكري بالأساس، لأن حزب الله قرر منذ منتصف التسعينيات الإحجام عن استهداف المدنيين الإسرائيليين كي يحمي بذلك المدنيين اللبنانيين. كما أنه هدف يطال مقر يعتقد الإسرئيليون أنه سرياً للمخابرات العسكرية، وهو استهداف لوحدة المخابرات العسكرية المسئولة عن الاتصالات الاستخباراتية وبالتالي تختص بالتعقب والرصد وتقدم المعلومات اللازمة لتنفيذ الاغتيالات. وفي ذلك شرح نصرالله أن استهداف قواعد الدفاع الجوي الشمالية في كل من الجولان والخط المحاذي للبنان وتل أبيب نفسها لم يكن إلا فتحاً للمجال الجوي دون قبة حديدية كي تتمكن المسيّرات التابعة له من الدخول للعمق الإسرائيلي.

وعلى عكس الادعاءات الإسرائيلية، أكد نصرالله أن لا خرقاً إسرائيلياً لخطته الهجومية، فلم تتسرب أية معلومة عن الهجوم ولا طبيعته ولا أهدافه، وإنما ما رصده الإسرائيليون هو حركة مقاتلي حزب الله لتنفيذ الهجوم قبل دقائق من وقوعه. بينما جاء القصف الإسرائيلي في مناطق أخرى غير تلك التي أطلق منها حزب الله صواريخه ومسيّراته الهجومية. اعترف نصرالله بمقتل اثنين من مقاتليه وعنصر من حركة أمل، ولكنه شدد على أن ما استهدفته إسرائيل في هجومها لا يعدو أن يكون عدداً محدوداً من منصات الصواريخ التي لا تكلفه الكثير لتطويرها، بينما مخازن صواريخه الدقيقة قائمة كما هي لم تمس.

ولكن في المقابل، لم تعلن إسرائيل عن أية خسائر فادحة، فكل ما أعلنته هو مقتل جندي من قوات البحرية في زورق حربي قبالة شاطئ نهاريا وإصابة اثنين آخرين. بينما نفي نصرالله أنه استهدف نهاريا وفسر مقتل الجندي بإمكانية إصابته بصاروخ اعتراضي إسرائيلي وليس من صواريخ حزب الله.

أما في حجم الخسائر التي حققها هجوم حزب الله على قاعدة المخابرات العسكرية 8200 في جليلوت، فقد تضاربت الروايات، إذ نفت إسرائيل وقوع أية خسائر فادحة، وقال المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي أن أغلب صواريخ ومسيّرات حزب الله قد تم اعتراضها أو سقطت في مناطق مفتوحة[4]. بينما شدد نصرالله في خطابه على أن المسيّرات وصلت إلى أهدافها، ولكن الحزب لا يزال في مرحلة تقييم لحجم الخسائر التي أحدثتها خاصة مع ما اعتبره تكتماً من الجانب الإسرائيلي عن إعلان الأضرار. إذ اعتبر نصرالله أن تقييمه الأوّلي أن العملية قد تمت بنجاح ولكنه ينتظر لمعرفة حجم أضرارها، فإذا رأى أن الأضرار مرضية له وتليق بعميلة الرد على اغتيال شكر سيكتفي بهذا القدر، وإذا كان الأمر مختلفاً فقد يدرس الحزب توجيه رد آخر. بافتراض أن الأضرار المُرضية التي يتحدث عنها الحزب هي القضاء على قاعدة بيانات ما أو القضاء على مراصد محددة لأهداف لدى حزب الله أو إيران، فلا شك أن تقييم هذه الأضرار يستغرق وقتاً لاكتشاف هل وقعت الإصابة بالفعل أم لا. ولكن في المطلق، فإن دراية حزب الله بوجود هذه القاعدة وبموقعها هو في حد ذاته نجاح له وإن لم يسفر الهجوم عن نتائج واضحة للمراقبين.   

تعادل استراتيجي وعودة لقواعد الاشتباك المعتادة

اهتم الطرفان بتحديد نهاية للهجوم المتبادل بينهما بدقة، فحزب الله أعلن في بيانه الثالث في التاسعة صباحاً أن كافة الصواريخ والمسيّرات التي كان مخططاً إطلاقها عبرت الحدود المشتركة وأن عملياته قد انتهت لهذا اليوم. بينما ردت إسرائيل بتصريحات مشابهة بأنه إذا كان هجوم حزب الله قد توقف، فإسرائيل ستكتفي بذلك ولن توجه أية ضربات إضافية.

 تكشف هذه التصريحات عن رغبة الطرفين في إبقاء مستوى الاشتباك بينهما في حدوده الدنيا بعد أسابيع من الاستنفار الأقصى ومن التصريحات والتهديدات النارية على الجانبين. فحزب الله اهتم بتوضيح أنه قد درس هدف العملية جيداً كي يكون دقيقاً بما يكفي فلا يتسبب في فتح جبهة حرب شاملة. بينما هوّلت إسرائيل من حجم العملية التي رصدت أن حزب الله يهدف لتنفيذها كي يبدو أنها قد منعته من تحقيق أهدافه وعطلت مفاعيل ضربته وقللت من خسائرها، فتبدو بصورة المنتصر في هذه الجولة.

ولعل الحصيلة الأهم لتبادل القصف بين الجانبين فجر يوم 25 أغسطس هي العودة إلى نقطة التعادل الاستراتيجي بينهما بما يرسخ قواعد الاشتباك السابقة من جديد. فإسرائيل كانت في فترة استنفار شامل طوال ثلاثة أسابيع في ترقب رد حزب الله ورد طهران وحلفائها في المنطقة. وحزب الله كان مثقلاً بوعود ما أسماه "الرد المزلزل" ومضطراً للوفاء بهذه الوعود أمام جمهوره، خاصة مع تصعيد القصف الإسرائيلي خلال الأسبوع الماضي في البقاع وصيدا وسائر الجنوب، حيث بدا وكأن تأخر الرد قد أغرى إسرائيل بالتمادي في استهدافها كمن أمن العقاب، أو بدا أنها صار بحوزتها معلومات استخباراتية جديدة بشأن مخازن الصواريخ والذخائر ولديها شهية مفتوحة لاستهدافها.

 ولذا اهتم نصرالله بتقديم شرح تفصيلي لكيفية رصد إسرائيل على الهجوم قبل وقوعه بدقائق كي ينفي عنها أي نجاح معلوماتي في هذا الصدد، بل شدد أكثر من مرة على أن الهجوم يعكس الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي. كما شرح تفصيلياً أيضاً عملية إعداد وتنفيذ الهجوم في ظهوره المتلفز كي يضيف للهجوم زخماً إعلامياً أكثر مما حققه بالفعل على أرض الواقع، فيكون بذلك- في رؤيته- قد وفّى وعده بـ"الرد المزلزل" دون أن يشعل حرباً واسعة، حيث اهتم بذكر تفاصيل كثيرة تنم عن قوة قاعدة حزب الله الاستخباراتية ونجاح مسيّراته في اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية. بينما نجحت إسرائيل في جعل هجومها الذي أسمته "استباقياً" في صدارة نشرات الأخبار العالمية بدلاً من أن يكون هجوم حزب الله هو الخبر نفسه.

ولكن رغم ذلك التعادل الاستراتيجي الذي يعد ببعض الهدوء في المنطقة بعد أسابيع من حبس الأنفاس وإلغاء رحلات الطيران من وإلى بيروت وتل أبيب، تبقى بعض النقاط مُعلّقة وغير محسومة. من هذه النقاط التي حرص نصرالله على تركها مبهمة، هل انتهى رد حزب الله بالكامل أم أن له جزء ثانٍ؟. علق نصرالله معتبراً أن الفيصل هو تقييم الحزب لحجم الخسائر الإسرائيلية وهذا التقييم يستغرق وقتاً. لم يتضح أيضاً هل سيكتفي حلفاء طهران في المنطقة برد حزب الله أم أن طهران نفسها سترد هي الأخرى على اغتيال هنية. والأهم من ذلك أن جبهة حزب الله/ إسرائيل ستعود للتراشق الصاروخي المعتاد ضمن قواعد الاشتباك ولكنها لن تشتعل بالكلية ولن تهدأ بالكلية حتى تهدأ جبهة غزة. ولذا يتوقع أن تتراجع حالة الاستنفار العسكري في المنطقة بعد أسابيع من الترقب، رغم أن حاملات الطائرات الأمريكية ستبقى في المتوسط لفترة تحسباً لأي تصعيد جديد قد يأتي هذه المرة من إيران أو من اليمن.


[1] Steve Hendrix et al, “Israel Hezbollah exchange heaviest strikes in months raising regional tension”, in the Washington Post, 25-8-2024, https://www.washingtonpost.com/world/2024/08/25/israel-hezbollah-lebanon-strikes/

[2] ليبانون 24، "تفاصيل ضربة حزب الله.. هكذا حرك صواريخه"، نقلاً عن يدعوت أحرونوت الإسرائيلية، 25-8-2024،

https://www.lebanon24.com/news/lebanon/1238717/%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B5%D9%8A%D9%84-%D8%B6%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%87%D9%83%D8%B0%D8%A7-%D8%AD%D8%B1%D9%91%D9%83-%D8%B5%D9%88%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%87

[3]  بي بي سي عربي، "هل تبقى المواجهة بين إسرائيل وحزب الله ضمن قواعد الاشتباك أم تتطور لتصبح حرباً شاملة؟"، 25-8-2024، https://www.bbc.com/arabic/articles/ceq504yre53o

[4]  سي ان ان عربية، "إسرائيل ترد على مزاعم نصرالله بشأن استهداف قواعد عسكرية"، 25-8-2024 https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2024/08/26/israel-denies-that-hezbollah-strikes-damaged-military-bases