سعيد عكاشة

خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تميل أغلب التناولات الإعلامية في إسرائيل وخارجها إلى التركيز على مسئولية رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عن الفشل في الوصول إلى اتفاق لتبادل الرهائن الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين، وتؤكد هذه التناولات أن نتنياهو يقاوم التوصل إلى اتفاق مع حماس، خوفاً من أن يؤدي إلى إنهاء الحرب في غزة دون تحقيق أهدافها (الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين وإسقاط حكم حماس في غزة) حيث سيعني ذلك التعجيل بالإطاحة به من منصبه، وربما من الحياة السياسية بأكملها.

ينطوي هذا التفسير على عدة مغالطات تعكس القراءة غير الموضوعية للقضية برمتها، كما أن التفسير نفسه يمكن أن يتسبب في حجب العوامل الحقيقية التي تحول دون فهم أسباب تعطل الصفقة بين إسرائيل وحماس حتى اليوم.

والسؤال الذي ينبغي طرحه ليس لماذا يرفض نتنياهو الصفقة؟، بل ما هي مصادر قوته في تبني هذا الموقف؟

فمن المسلم به أن منصب رئيس الحكومة في النظام السياسي الإسرائيلي يمنح نتنياهو قوة كبيرة في اتخاذ القرارات، ولكن صناعة القرارات في حد ذاتها ليست محصورة في شخصه، وغير مرهونة بتوجهاته الأيديولوجية والسياسية وفقط، ومن ثم يجب البحث عن أسباب تعطل الصفقة في مواقف العديد من مؤسسات صناعة القرار مثل الائتلاف الحاكم، والمجلس الوزاري المصغر (الكابينت)، والأجهزة الأمنية، ومؤسسة الجيش، وأخيراً الرأي العام الذي تعكسه استطلاعات الرأي.

موقف الحكومة من الصفقة

تتسم عملية صناعة القرار الأمني في إسرائيل بتعقيدات هائلة، فمن الناحية النظرية يجب الحصول على موافقة مجلس الوزراء على أي قرارات يتخذها رئيس الحكومة، ولكن من الناحية العملية فإن صناعة القرار الأمني تتم داخل إحدى دائرتين:

الأولى، رسمية ولها وضعيتها القانونية والمتمثلة في المجلس الوزاري المصغر أو "الكابينت"، وهو مجلس مشكل من أعضاء دائمين وهم  وزراء: الدفاع والخارجية والمالية والأمن القومي والعدل، بالإضافة إلى شخصيات أخرى يمكن أن يختارها رئيس الوزراء من خارج الدائرة الحكومية.

والثانية، وهي دائرة أصغر تتكون من رئيس الحكومة وعدد محدود من الوزراء الذين يختارهم بالإضافة إلى مستشار أو أكثر ممن يثق بهم حتى لو لم تكن لهم صفة رسمية.

وبسبب الحرب التي نشبت في أعقاب هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، تشكل كيان جديد هو "مجلس الحرب" أو "حكومة طوارئ" مهمتها إدارة الحرب، وتشكل هذا الكيان من نتنياهو، ووزير الدفاع يؤاف جالنت، وزعيم حزب "معسكر الدولة" بيني جانتس، ومعه نائبه في الحزب جادي آيزنكوت، ورون دريمر وزير الشؤون الاستراتيجية في ائتلاف نتنياهو.

وأصبح هذا الكيان الجديد صاحب الرأي الحاسم في إدارة الحرب ساحباً معظم صلاحيات "الكابينت" التقليدية لصالحه. ولكن مع حل مجلس الحرب في يونيو الماضي، بعد انسحاب بيني جانتس وجادي آيزنكوت منه، كان من المفترض أن يستعيد الكابينت صلاحياته المفقودة، ولكن ذلك لم يحدث، حيث لجأ نتنياهو بدلاً من تفعيل الكابينت، إلى تشكيل ما سمى في الإعلام الإسرائيلي باسم "المجلس التشاوري المصغر"، والذي يتكون منه كرئيس للوزراء، ومن وزير الدفاع يؤاف جالنت، ووزير الشؤون الاستراتيجية رون دريمر، ورئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي، بالإضافة إلى رئيس حزب شاس أرييه درعي.

تسببت تعددية مراكز صناعة القرار تلك في نشوب صراعات حادة بين أطرافها المباشرة وغير المباشرة، وبدا واضحاً أن الائتلاف الحكومي الرسمي والكابينت الأمني قد تم إضعاف سلطتيهما تماماً لصالح الوافد الجديد "المجلس التشاوري المصغر"، وأصبحت مسألة الصفقة مع حماس رهينة بتوافق هذا المجلس الذي يميل بشدة لصالح نتنياهو باستثناء عضو واحد وهو وزير الدفاع يؤاف جالنت (الذي يسعى نتنياهو للإطاحة به في أي لحظة)، فيما لجأ الوزيران في الائتلاف الحكومي ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموترتش إلى تقوية مركز نتنياهو داخل الائتلاف بإصرارهما على إعطاء الأولوية لاستمرار الحرب ضد حماس على حساب أي صفقة معها، خاصة وأن أي صفقة لن تمر إلا بموافقة الأغلبية في الائتلاف في نهاية المطاف.

موقف الجيش

تمر مؤسسة الجيش الإسرائيلي بعد هجوم 7 أكتوبر 2023 على يد حماس، بفترة من أصعب الفترات في تاريخها منذ تأسيس الدولة، وبعد أن كان الجيش هو "الأيقونة الكبرى" لدى الشعب الإسرائيلي بات مُعرَّضاً للتشكيك في قدراته حتى رغم اعتراف قائد الأركان هرتسي هاليفي بمسئوليته عن الإخفاق الذي قاد إلى تلك الحرب الطويلة. وفي حين صدرت تصريحات واضحة من هاليفي بإمكانية إتمام الصفقة والقبول بوقف الحرب في غزة لفترة طويلة مقابل استعادة الرهائن، فإنه لم يقدم إجابات شافية لمعنى وقف الحرب لمدة معينة إذا كانت حماس تريد الإفراج عن الرهائن في صفقة من ثلاثة مراحل تتضمن ضمانات دولية بالوقف الكامل للحرب والانسحاب التام للجيش الإسرائيلي من داخل غزة، والبدء في إعمار القطاع.

وتعني تلك الضمانات عملياً في حالة الاستجابة لها، التخلي عن أهم أهداف الحرب وهو القضاء على حركة حماس عسكرياً ومنع استمرار حكمها للقطاع مستقبلاً. من هنا، بدا الجيش في موقف ضعف حقيقي، فمن جانب وبحكم القانون فهو يخضع للمستوى السياسي وليس من صلاحياته إعلان الحرب أو وقفها. ومن جهة أخرى، فإن الرأي العام الإسرائيلي وإن كان يميل لإعطاء الأولوية للإفراج عن الرهائن، إلا أن الأغلبية ترفض أن يكون ذلك بالتوازي مع الوقف الدائم للحرب، وبالتالى من الممكن افتراض أن الجيش يواجه معضلة حقيقية يستغلها نتنياهو لصالح موقفه الرافض للصفقة مع حماس، وتتمثل هذه المعضلة في التناقض بين موقفه "الأخلاقي" (الجيش) الذي يقوم على ضرورة حماية أرواح جنوده واستردادهم من الأسر إذا ما وقعوا فيه، وبين ضرورة استمرار الحرب لاستعادة الثقة الشعبية بقدرة الجيش على حماية أمن البلاد واسترداد الردع في مواجهة الأعداء. وقد عبّر عن هذا التناقض الناطق باسم الجيش دانيال هاجاري عندما تراجع عن تصريحه في يونيو الماضي والتي قال فيها أن "القضاء على حماس هو وهم"، حيث عاد ليقول بعدها بأيام قليلة أن "ما كان يقصده هو استحالة هزيمة حماس كفكرة، ولكن الجيش ما يزال ملتزماً بهدف القضاء على حماس عسكرياً!"، ولم يسأل هاجاري نفسه: كيف يمكن أن تتم صفقة للإفراج عن الرهائن، كما يريد الجيش، دون أن يعني ذلك التخلي عن الهدف الاستراتيجي وهو القضاء على حماس ومنع تكرار هجوم 7أكتوبر؟

ومما لا شك فيه أن نتنياهو استغل هذا التناقض في خطاب الجيش لإسكات المعارضين لموقفه من الصفقة مع حماس.

موقف الأجهزة الأمنية

مثلها مثل مؤسسة الجيش، تبقى أجهزة الأمن الإسرائيلية الأهم (الموساد، الشاباك، أمان) في وضع دفاعي بعد اعتراف كل من الشاباك وأمان بمسئوليتيهما عن إخفاق 7 أكتوبر. ومثلما أن الجيش يتبع المستوى السياسي، فإن جهازي الموساد والشاباك يتبعان رئيس الحكومة مباشرة، فيما يبقى رئيس الاستخبارات العسكرية (أمان) خاضعاً لرئيس أركان الجيش ووزير الدفاع. وقد تباينت مواقف تلك الأجهزة من قضية التفاوض مع حماس وعقد صفقة معها لتبادل الرهائن الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين في إسرائيل.

بالنسبة لجهاز أمان، فقد كان المُبادِر بالاعتراف بمسئوليته عن إخفاق 7 أكتوبر، وقدم رئيسه أهارون حليفا استقالته من منصبه وتم تفعيلها في 21 أغسطس الجاري، ليخلفه شلومي بيندر، الذي أعاد التأكيد على التزام جهازه بالمساعدة على استعادة الرهائن والقضاء على حماس. ولكن في كل الأحوال، لا يشارك أمان في المفاوضات الجارية مع حماس، حيث أن أدواره الرئيسية تتعلق بمهام حربية بالدرجة الأولى وتقديم التقدير الاستخباراتي القومي. أما جهازي الموساد والشاباك فكلاهما ضالع منذ اللحظة الأولى في عملية التفاوض مع حماس، ولكن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو قلص كثيراً من هامش المناورة أمامهما في كل جولات التفاوض السابقة والحالية، وتشير التقارير في وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى وجود خلافات كبيرة بين كل من رونين بار (رئيس الشاباك) وديفيد برنياع (رئيس الموساد) من جهة وبين نتنياهو من جهة أخرى فيما يتعلق ببعض بنود الصفقة، ففي حين يدفع بار وبرنياع بأن بوسع إسرائيل التخلي مؤقتاً عن محور فلادليفيا والسماح بعودة المدنيين إلى شمال القطاع (شروط حماس لتنفيذ الصفقة)، واتباع  تكتيكات خاصة لمنع عودة مقاتلي حماس لشمال القطاع بين المدنيين الذين سيتم لهم السماح بالعودة لديارهم، فإن نتنياهو يستغل حقيقة اعتراف الشاباك على وجه الخصوص – كونه المسئول عن جمع المعلومات الاستخباراتية عن الفلسطينيين في غزة والضفة – بإخفاقه في التنبؤ بنوايا حماس عشية 7 أكتوبر الماضي، ليشكك في تقديراته بشأن إمكانية التعامل مع الخطر الذي تمثله حماس حال الانسحاب من محور فلادليفيا.

موقف الرأي العام الإسرائيلي

تركز معظم التناولات الإعلامية في إسرائيل وخارجها على وجود أغلبية في أوساط الرأى العام الإسرائيلي تؤيد توقيع صفقة التبادل مع حماس، كما تستند التناولات نفسها إلى المظاهرات الكبيرة التي تشهدها إسرائيل منذ أشهر عديدة والتي تؤيد هذا المطلب، بل وتدعو للإطاحة بنتنياهو وإجراء انتخابات مبكرة. وإذا كان الأمر صحيحاً بالفعل وفقاً للمظاهر الماثلة للعيان، إلا أن تفسيرها يبقى منقوصاً في ظل الحقائق التالية:

1- في استطلاع لهيئة البث الإسرائيلية نُشر في 21 أغسطس الجاري، أظهر أن 49% يؤيدون صفقة تبادل الرهائن و30% يعارضونها، فيما أجاب21 % بأنهم لا يعرفون.

وتكمن المشكلة في مثل هذه الاستطلاعات في أنها لا تبين ما إذا كان الجمهور الإسرائيلي على إطلاع بالتفاصيل الكاملة للصفقة أم لا، حيث يقدم السؤال بصورة مختزلة تقتصر على وقف إطلاق النار مقابل الإفراج عن الرهائن، دون عرض ما تطلبه حماس من ضمانات. ورغم ذلك، يبدو من هذا الاستطلاع أن هناك أغلبية ولو ضئيلة إما أنها رافضة للصفقة صراحة، حتى من دون معرفة التفاصيل الكاملة لها، أو أنها متشككة في نتائجها البعيدة على الأمن الإسرائيلي إذا ما استمرت حماس في السلطة، وهو ما يعزز موقف نتنياهو الرافض للصفقة إذا كانت تعني الوقف الدائم للحرب.

2- إذا كان من الصحيح وجود حراك شعبي يطالب بالقبول بصفقة مع حماس، فإن هذا الحراك لا يبدو أنه كافٍ للضغط على نتنياهو للقبول بالصفقة في ظل رفض جمهور اليمين لها وإصراره على مواصلة الحرب حتى القضاء على حماس.

3- على الرغم من تشكل منظمات أهلية إسرائيلية عقب هجوم 7 أكتوبر تنشط في حشد التأييد لصفقة من أجل إطلاق الرهائن، إلا أنها تواجه في المقابل منظمات مماثلة تحشد من أجل استمرار الحرب. والمثير في الأمر أن بعض هذه المنظمات يقودها أقارب جنود ومواطنين قتلوا أو تم أسرهم في 7 أكتوبر، وهو ما اتضح في لقاء جمع نتنياهو في 20 أغسطس الجاري، مع مندوبين لمنظمة تسمى "مجموعة البطولة"، التي تضم نحو 150 عائلة لقتلى إسرائيليين، ومندوبين من "مجموعة الأمل"، التي تضم عائلات مخطوفين إسرائيليين محتجزين في قطاع غزة، وهما مجموعتان يمينيتان تؤيدان استمرار الحرب على قطاع غزة وتدعمان سياسة الحكومة.

 4- على صعيد التصويت في الانتخابات إذا ما أجريت الآن، كشف استطلاع لموقع "تايمز أوف إسرائيل" في 9 أغسطس الجاري، تصاعد شعبية نتنياهو، فوفقاً لهذا الاستطلاع سيكون حزب الليكود، بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أكبر حزب في الكنيست إذا ما أجريت الانتخابات اليوم. بالإضافة إلى ذلك، عندما طٌرح سؤال: من هو الأنسب ليكون رئيس الوزراء: نتنياهو، أو زعيم الوحدة الوطنية بيني جانتس، اختارت الأكثرية نتنياهو (48٪) مقابل (42٪) لبيني جانتس. وعلى الرغم من أن الاستطلاع يبين أن الائتلاف الحالى والذي يحظى بـ64  مقعداً في الكنيست الحالي، سينخفض تمثيله إلى 53 مقعد فقط لو أجريت الانتخابات الآن، إلا أن ذلك لا يعني تراجع جبهة اليمين الموالي لنتنياهو بل إضعافها فقط، فيما ستزيد الأحزاب المتطرفة مثل "عوتسماه يهوديت" بزعامة ايتمار بن غفير، و"إسرائيل بيتينو" بزعامة أفيجدور ليبرمان بمقدار الضعف (سيحصلان معاً على 25 مقعداً في مقابل تمثيلهما الحالى البالغ 12 مقعد فقط) والمعروف أن هذين الحزبين من أكثر الأحزاب تأييداً لوضع أولوية القضاء على حماس فوق تحرير الرهائن.

خلاصة ونتائج

في إطار كل ما تقدم، يمكن القول إن تشدد نتنياهو في موقفه من الصفقة مع حماس يستند إلى عناصر موضوعية عديدة أهمها: الضعف الذي اعترى مؤسسة الجيش والأجهزة الأمنية على خلفية الإخفاق في 7 أكتوبر، والفشل في الحسم السريع للحرب، بحيث لم تعد قادرة على الوقوف في وجه نتنياهو، بالإضافة إلى انقسام الرأي العام بشكل متقارب حول قضية لمن تكون الأولوية: لتحرير الرهائن أم القضاء على حماس؟، وأخيراً تبين الاستطلاعات أنه حتى لو اختفى نتنياهو من الساحة السياسية، فإن قوة أحزاب اليمين تبدو متصاعدة، ويمكن لأي خليفة لنتنياهو أن يعيد تجميع الجبهة مجدداً للفوز في الانتخابات المقبلة وتقوية خيار الحرب بدلاً من السلام.