د. أماني الطويل

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والخبيرة فى الشئون الأفريقية

 

تشكل التفاعلات السياسية التي تجري بين دول غرب أفريقيا وكل من روسيا وأوكرانيا انعكاساً مباشراً للصراع الذي تتصاعد حدته بين الدولتين الأخيرتين، والذي لم يكتف بساحاته الميدانية في منطقة شرق أوروبا، ولكنه يمتد في أكثر من نقطة ارتكاز، ربما يكون الأهم والأكثر وضوحاً منها هي منطقة الساحل الأفريقي الممتد مضافاً إليها السودان التي تواجه صراعاً عسكرياً مفتوحاً يؤثر ويتأثر بمنطقة الساحل الأفريقي.

وإذا كانت هذه التفاعلات بين روسيا وأوكرانيا تعد حرب استنزاف بين الطرفين في الساحات الخارجية، فإنها  تفرض، وعلى نحو موازٍ، تغييرات جيوسياسية في منطقة الساحل الأفريقي، حيث تعد هذه التفاعلات غير بعيدة عن العلاقات الفرنسية-الأفريقية في غرب القارة الأفريقية التي تواجه فيها باريس تراجعاً لنفوذها في أهم دول الساحل بعد قيام انقلابات عسكرية متوالية في أربع منها باتت جميعها تتبنى سياسات معادية لفرنسا والولايات المتحدة، ومتحالفة بدرجات متفاوته مع روسيا، وذلك لسببين رئيسيين:

الأول، طبيعة السياسات الغربية في التعامل مع الموارد الأفريقية بمعنى استنزاف هذه الموارد دون عوائد عادلة، وهو ما ساهم في إفقار الشعوب الأفريقية إلى حد العوز، وكان لذلك انعكاس مباشر على القدرات الشاملة للدول ونظم الحكم الأفريقية في هذه المناطق خصوصاً في مواجهة التهديدات الأمنية.

 والثاني، طبيعة الإدارة الغربية لأزمة التهديدات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي دون وضع سياسات جذرية لمواجهتها، بل إن بعض الدول الغربية-وفقاً لتقارير عديدة- قد تعاونت استخباراتياً مع بعض الجماعات المسئولة عن عمليات إرهابية خصوصاً تنظيم "داعش"، الذي أعلن مسئوليته عن حادث إرهابي في غرب النيجر في أعقاب الانقلاب العسكري الذي وقع هناك في 26 يوليو 2023، وهو ما تمت قراءته على أنه تهديد لسلطة النيجر الجديدة.

 من هنا، فمن غير المستغرب أن تمارس فرنسا نوعاً من أنواع التنسيق وربما التحالف مع أوكرانيا في مواجهة روسيا التي يتوسع نفوذها في هذه المنطقة الحساسة للمصالح الغربية بشكل عام والمصالح الفرنسية على وجه الخصوص.

في هذا السياق، قطعت النيجر، في 6 أغسطس 2024، علاقاتها مع أوكرانيا عطفاً على عمليات عسكرية نفذت في مالي ضد القوات الحكومية المتحالفة مع الفيلق الأفريقي "فاجنر سابقاً". كما استدعت السنغال سفير أوكرانيا لتوضيح موقف بلاده من وقوع ضحايا عسكريين من الجيش المالي يزيدون عن 80 عسكرياً بسبب الدعم الأوكراني لقوات الطوارق المتمردة على حكومة مالي المركزية، والتي تحاصر حالياً الحاضرة المالية تمبكتو بالتعاون مع جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" التي تمثل أحد أفرع تنظيم "القاعدة في غرب أفريقيا".

وطبقاً لهذه التفاعلات، يمكن رصد الحرب الارتدادية بين روسيا وأوكرانيا، والتي تجري في وسط أفريقيا في المنطقة الممتدة من البحر الأحمر وحتى المحيط الأطلنطي، حيث تتعدد ساحاتها في كل من السودان وأفريقيا الوسطى والنيجر ومالي وبوركينافاسو وموريتانيا، بينما تشغل هذه التفاعلات كلاً من السنغال وغانا باعتبار أنهما متأثرتان على نحو مباشر بما يجري في جوارهما الجغرافي المباشر والمتاخم من حيث تصاعد التهديدات الأمنية وكذلك تأثر الحركة الاقتصادية والتجارية في العلاقات البينية بين دول غرب أفريقيا.

ويمكن بلورة ملامح الحرب الارتدادية الروسية-الأوكرانية في المظاهر التالية:

1- تسريبات عن رصد قوات عسكرية أوكرانية في السودان متعاونة مع الجيش هناك، في توقيت مبكر من الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وذلك في ضوء علاقات تسليحية تسبق الحرب السودانية بين الجيش السوداني وأوكرانيا، كما يمكن قراءتها أيضاً كرد فعل أوكراني على دعم "فاجنر" أو "الفيلق الأفريقي" لقوات الدعم السريع.

2- دخول عناصر من "الفيلق الروسي" إلى الأراضي الموريتانية في أبريل 2024، وهي الواقعة قرب الحدود مع مالي، خاصة قرية مد الله، حيث أطلقت النار على السكان، فأثار ذلك موجة من الاستياء داخل الأوساط السياسية والأمنية في موريتانيا، إذ كان عناصر "فاجنر" يطاردون بعض الجماعات المسلحة في مالي، ودخلوا الحدود الموريتانية من طريق الخطأ، وهو الأمر الذي تعامل معه الجيش الموريتاني ولكنه أنتج غلياناً في أوساط الرأي العام الموريتاني ضد روسيا، وذلك في ضوء العلاقات العضوية بين مالي وموريتانيا، حيث يمارس ميناء نواكشوط الموريتاني دوراً أساسياً في عمليتي الاستيراد والتصدير لدولة مالي التي تمنحها إدارة الميناء الموريتاني ميزات خاصة تتعلق بالتفريغ والتخزين، كما أن مالي تستقبل عبر الطرق البرية الموريتانية شاحنات محمّلة بالبضائع آتية من الجزائر والمغرب، فضلاً عن أن مستويات المعيشة في نواكشوط تعد جاذبة للعمالة من مالي، خاصة في مهن الحرف اليدوية والأعمال المنزلية.

وفي المقابل، يعتمد الموريتانيون من الرعاة وتجار المواشي في المناطق الشرقية الموريتانية على الأراضي المالية التي تتميز بوفرة المراعي الخصبة والغابات الكثيفة، كما تستورد موريتانيا من مالي أعلاف المواشي وبعض المنتجات الزراعية، وتنشط في باماكو جالية موريتانية معظمهما من التجار، ولديها استثمارات كبيرة هناك ومتنوعة المجالات.

وبطبيعة الحال، يمكن التساؤل في هذا الإطار عن دور العامل الفرنسي في التوتر الراهن بين موريتانيا ومالي، في ضوء أن نواكشوط تعتبر أن باريس شريك يحظى بكثير من الثقة، ويمكن الاعتماد عليه في التصدي للعنف والحركات المسلحة، بينما ترى مالي أن فرنسا خصم للمنطقة وشعوبها، وتتماهى في ذلك مع كل من بوركينافاسو والنيجر، اللتين تتحالفان مع روسيا. من هنا، فإنه من المرجح أن تستخدم باريس ورقة الخلاف الثنائي بين موريتانيا ومالي في تأكيد نفوذها في موريتانيا، وربما تسهم في تصعيد حدة التوتر بين البلدين، وبالتالي زيادة حجم كرة النار المشتعلة في غرب أفريقيا.

3- تأسيس تحالفات عسكرية مباشرة بين روسيا وكل من النيجر ومالي وبوركينافاسو، في أعقاب الانقلابات العسكرية التي شهدتها هذه الدول، وهي التحالفات التي أعقبت طرد القوات العسكرية الفرنسية والأمريكية خصوصاً من النيجر، ومكنت هذه الدول من تلقي تسليح روسي واستقبال قوات عسكرية.

4- تكوين كونفدرالية بين كل من مالي وبوركينافاسو والنيجر، وذلك بإعلانها تحالفاً استراتيجياً في 17 سبتمبر 2023، وهو ما أنتج انسحاباً من منظمة دول غرب إفريقيا "إيكواس" في يناير 2024، وهي المنظمة التي توصف بأنها أحد محاور النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا. إذ وقعت مالي والنيجر وبوركينافاسو، في 17 سبتمبر 2023، في باماكو، على اتفاقية دفاع عسكري مشترك تحت اسم "تحالف دول الساحل"، الهدف منها، بحسب الإعلان، هو تأسيس نظام عسكري مشترك للدفاع الجماعي ضد أي نوع من التهديدات، وكذلك توفير المساعدات المتبادلة في كل المجالات.

5- انسحاب دول كونفدرالية الساحل من تحالف جي فايف G5، وهو التحالف الذي كان منوطاً به محاربة الإرهاب في كل من تشاد والنيجر ونيجيريا وبوركينافاسو ومالي، وأتاح لفرنسا وجوداً عسكرياً في هذه الدول والتوسع في إنشاء قواعد عسكرية رحلت منها بعد ذلك في ضوء ارتفاع مؤشرات العمليات الإرهابية في هذه الدول وخصوصاً في بوركينافاسو.

إجمالاً، من غير المرجح على المستوى المنظور استقرار العلاقات البينية الأفريقية في منطقة الساحل الأفريقي على خلفية استمرار ارتدادات الحرب الروسية-الأوكرانية، والتي يمارس فيها العامل الفرنسي دوراً مضافاً لعوامل التوتر القائمة، وهو الأمر الذي يجعل دول غرب أفريقيا تواجه تصاعداً في حدة التهديدات الأمنية والتحديات الاقتصادية في توقيت متزامن، فضلاً عن تعزيز الوجود العسكري الروسي في المنطقة عبر شبكة من القواعد، وذلك مع وصول نحو 100 جندي روسي إلى بوركينافاسو، لتوفير الأمن للمجلس العسكري، الذي استولى على السلطة عقب الانقلاب الذي وقع عام 2022، وتطور هذا الوجود مع ًبناء قاعدة عسكرية في أفريقيا الوسطى الموجود فيها ما يقارب 2000 جندي روسي منذ سبتمبر 2023.