في التاسع من أغسطس 2024، مرت الذكرى التاسعة والسبعون لإلقاء القنبلة النووية الأمريكية على مدينة نجازاكي اليابانية، وقبلها بثلاثة أيام مرت ذكرى ذات الكارثة الفظيعة على مدينة هيروشيما. وكالعادة يكون هناك إحياء للذكرى التي يحضرها سفراء الدول المعتمدون في طوكيو. هذا الحضور يكون بدعوات من عمدتى المدينتين، ومن الطقوس أن يلقى كل منهما في الاحتفال ما يسمى برسالة السلام. وقد ورد ذكر ما يحدث في الشرق الأوسط في رسالتي السلام كلتاهما، وإن اختلف السياق. لكن ليس هذا ما جعل الحرب في غزة ومن ثم التوتر الحاد في كل منطقة الشرق الأوسط يحضر في كلتا المناسبتين، وإنما ما جلب الاهتمام هو الدعوة التي لم يوجهها عمدة مدينة نجازاكي للسفير الإسرائيلي جلعاد كوهين، وإصراره على عدم تقديم تلك الدعوة على الرغم مما مورس عليه من ضغوط، بينما كانت هناك دعوة موجهة للسفير الإسرائيلي من قبل عمدة هيروشيما.
لم يقف الأمر عند مجرد تقديم الدعوة وعدم تقديمها، وإنما امتد للاحتفال نفسه، حيث اختارت ست دول إضافة إلى الاتحاد الأوروبي تخفيض مستوى حضورها في نجازاكي احتجاجاً على عدم دعوة إسرائيل، بينما حضرت في هيروشيما. لم تكتف بعض من تلك الدول الممتعضة من عدم دعوة السفير الإسرائيلي بعدم حضور سفرائها، وإنما قام سفراؤها رفقة السفير الإسرائيلي بالاحتفاء بالمناسبة في أحد المعابد البوذية في طوكيو.
في أي سياق يمكن فهم كل هذا الجدل؟ وما هي خلفياته؟.
لماذا يتم الربط بين ما يحدث في غزة وما حدث في هيروشيما ونجازاكي؟
يمكن الحديث عن أربعة عناصر أساسية استدعت الربط بين ما يحدث في الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023 وبين ما حدث في اليابان نهاية الحرب العالمية الثانية عندما قامت الولايات المتحدة بإلقاء قنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما ونجازاكي.
العنصر الأول، يتمثل في كمية المتفجرات التي ألقتها إسرائيل على قطاع غزة محدود المساحة، ومن ثم حجم الدمار الذي ألحقته تلك المتفجرات، حيث عقدت مقارنات بين القوة التدميرية لكلتا القنبلتين النوويتين على هيروشيما ونجازاكي وبين ما أحدثته أطنان المتفجرات الملقاة على قطاع غزة. ومن ذلك على سبيل المثال ما ذكره المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بعد مرور ثلاثة أسابيع فقط من الحرب من أنه لو تم جمع المتفجرات التي ألقتها إسرائيل في تلك الفترة فإن ذلك يعني قنبلة نووية زنة 30 ألف طن. وبعد مرور أشهر قدّرها البعض بثلاث والبعض الآخر بست قنابل، بات الحديث عن متفجرات تعادل ثلاثة أضعاف القنبلة التي ألقيت على هيروشيما أو يزيد.
بغض النظر عن مدى دقة تلك التقديرات، فإن مجرد القياس على قنبلتي هيروشيما ونجازاكي يشير إلى المدى الذي بلغته آلة الحرب الإسرائيلية في استهداف هذه المنطقة محدودة المساحة. كما أن الأحاديث تدور عن مخاطر أخرى إضافة إلى عدد القتلى والجرحى تتمثل في الكميات الكبيرة من القنابل التي لم تنفجر.
العنصر الثاني، يرتبط بما ذكره عضو مجلس الشيوخ الأمريكي ليندسي جراهام عند مناقشة الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل في حربها على غزة، خاصة من القنابل الثقيلة. إذ توجه السيناتور الأمريكي بسؤال إلى رئيس هيئة الأركان الأمريكية الجنرال براون جونيور بخصوص قنبلتي هيروشيما ونجازاكي وما إذا كانتا قد أنهيتا الحرب. ومن ثم رد رئيس الأركان بالموافقة وهو ما وافقه عليه وزير الدفاع الأمريكي لويد اوستون، ليرتب على ذلك السيناتور الأمريكي ضرورة إمداد إسرائيل بكل ما تحتاجه لإنهاء الحرب والانتصار فيها تماماً كما أدت قنبلتا هيروشيما ونجازاكي لإنهاء الحرب والانتصار فيها.
استدعاء الحديث عن قنبلتي هيروشيما ونجازاكي عند مناقشة مسألة تتعلق بالسلاح الأمريكي إلى إسرائيل في خضم عدوانها على قطاع غزة لا يخلو من دلالات. إذ أن ذلك يعني أن هناك من لا تعنيه أعداد الضحايا طالما يتحقق الهدف المتمثل في النصر الإسرائيلي، ومن ثم فلا داعي لأن يتوقف شحن أعتى أنواع القنابل حتى ولو مؤقتاً. والأكثر من ذلك، فإنه قد يحمل تشجيعاً لتلك الأصوات التي جاهرت بضرورة استخدام السلاح النووي ضد غزة. يشار إلى أن اليابان قد احتجت رسمياً على تصريحات السيناتور الأمريكي.
العنصر الثالث، واضح تماماً في التصريحات التي صدرت من قبل أحد المسئولين الإسرائيليين، وتحديداً وزير التراث عميحاي إلياهو، والذي طالب باستخدام السلاح النووي ضد غزة. والأشد استخفافاً من هذا التصريح تعليق وزير الأمن الداخلي ايتمار بن غفير عليه عندما اعتبره نوعاً من الاستعارة. ويبدو أنه قدم لوزير التراث مبرراً فبات هو الآخر يتحدث عن ضرورة تفسير تصريحه في إطار التشبيه المجازي. وسواء أكان الأمر استعارة أم مجازاً، فإنه من الواضح أن القرار الرسمي الإسرائيلي هو بتدمير غزة وكل سبل الحياة فيها سواء كان ذلك بالسلاح النووي أو بما يعادله أو حتى يفوق قوته التدميرية. ومعلوم ما هي مواقف الوزيرين ليس فقط من حقوق الفلسطينيين، وإنما ما يتعلق بالدول المجاورة وإمكانية احتلال أجزاء منها. وكما هو معلوم، فإن الكنيست الإسرائيلي قد أغلق الباب تماماً أمام قيام دولة فلسطينية.
العنصر الرابع، ذو شقين: أولهما الشق القانوني، حيث مازال سؤال مشروعية استخدام الأسلحة النووية من عدمه مطروحاً. وثانيهما واقعي، فالأمر ليس فقط قانونياً، وإنما تشي معطيات الواقع بتدحرج الأمور إلى حافة الهاوية على الصعيد النووي، ممثلة في الاستراتيجيات النووية للدول الحائزة للأسلحة النووية فيما يتعلق بإمكانية البدء باستخدام هذا السلاح للرد على هجوم نووي أو في حال تهدد كيان الدولة ونظامها الاجتماعي، وكذلك الخطاب النووي المتزايدة حدته في السنوات الأخيرة خاصة بعد الحرب في أوكرانيا، والتخلي عن بعض الاتفاقيات وتعطل المفاوضات بخصوص ترتيبات بديلة، ناهيك عن تزايد الإنفاق على تطوير وتحديث الترسانات النووية. ومن ثم فإن هناك حاجة للجم هذا الخطاب النووي الحاد سواء أكان من مسئولين إسرائيليين أو من غيرهم، كما أن هناك ضرورة للالتزام بالتعهدات الدولية، ومن ثم فلا أمان للعالم إلا بالتخلص التام من الأسلحة النووية، وهو الأمر الذي دائماً ما تؤكد عليه رسائل السلام التي تبث سنوياً من هيروشيما ونجازاكي في 6 و9 من شهر أغسطس.
حرب غزة وخلفيات ما حدث في هيروشيما ونجازاكي
دأبت المدينتان اليابانيتان على استحضار ذكرى إلقاء القنبلتين النوويتين عليهما عبر تحديث قوائم الضحايا، بإضافة من رحل منهم، وكذلك بدعوة من ما زالوا على قيد الحياة، ناهيك عن توجيه الدعوات لسفارات الدول الأجنبية الممثلة في طوكيو، ويتوج الأمر برسالة السلام التي يلقيها عمدة كل مدينة.
لم تخل رسالتا السلام هذا العام مما يجري في الشرق الأوسط جنباً إلى جنب مع ما يجري في أوكرانيا. وهنا، ثمة أمران أوّليان: أولهما، يتمثل في أن كلاً من هيروشيما ونجازاكي قد توقفتا عن دعوة سفيري كل من روسيا وبيلاروس منذ عام 2022، حيث كانت الحرب في أوكرانيا قد اندلعت في فبراير من العام نفسه. وثانيهما، أنه وإن كانت إشارة رسالة كل من هيروشيما ونجازاكي قد ربطت بين الحربين في شرق أوروبا وفي الشرق الأوسط إلا أن السياق مختلف. إذ كانت رسالة شيرو سوزوكي محافظ مدينة نجازاكي أقوى عندما ذهب إلى أن "عدم وجود نهاية في الأفق للغزو الروسي لأوكرانيا وكذلك المخاوف بشأن انتشار الصراع المسلح في الشرق الأوسط" فإن مبدأ عدم استخدام الأسلحة النووية قد يتلاشى. بينما تحدث كازومي ماتسوي عمدة هيروشيما عن المزيد من الأرواح التي تزهق بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا وتدهور الوضع الإسرائيلي الفلسطيني. وقد جاء ذلك بعدما طرح تساؤلات حول ما هو سائد من تفكير بخصوص الأسلحة النووية وقوة الدولة وتحقيق أمنها على الصعيد العالمي. ويلاحظ هنا أن عمدة هيروشيما تحدث عن وضع فلسطيني-إسرائيلي على عكس عمدة نجازاكي الذي تحدث عن انتشار للصراع في الشرق الأوسط كله. كما أن ربطه المباشر بين ما يحدث في أوكرانيا والشرق الأوسط واعتبار عدم وضع حد لهما مهدداً بتلاشي مبدأ عدم استخدام الأسلحة النووية لا يخلو من إشارة ولو غير مباشرة لما ورد على لسان مسئولين إسرائيليين بهذا الخصوص تماماً كما هو الحال فيما يتعلق بتصريحات المسئولين الروس وإن في سياق مختلف.
منذ البداية، كان عمدة ناجازاكي واضحاً في عدم توجيه الدعوة للسفير الإسرائيلي في اليابان. ولم يكتف بذلك بل إنه وجه دعوة لممثل فلسطين في اليابان، والأكثر من ذلك أنه وجه رسالة للسفير الإسرائيلي بخصوص ما يجري في غزة وضرورة العمل على وقف الحرب سريعاً، خاصة في ظل تداعياتها الإنسانية الكبيرة. في المقابل، وجه محافظ هيروشيما الدعوة للسفير الإسرائيلي، ولم يوجهها لممثل فلسطين في اليابان.
وفي الوقت الذي تحدث فيه ممثل فلسطين في اليابان عن ضغوط خارجية مورست لعدم دعوته إلى احتفال مدينة هيروشيما، كانت الضغوط الخارجية على عمدة نجازاكي واضحة ومعلنة حتى يتراجع عن قرار عدم دعوة السفير الإسرائيلي. إذ قامت سفارات كل من الولايات المتحدة وكندا وإيطاليا والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا إضافة إلى سفارة الاتحاد الأوروبي بتوجيه رسالة إلى عمدة المدينة قبل الاحتفال بحوالي عشرين يوماً تطالبه بالعدول عن قراره، وتوضح أنه في حال لم يقم بذلك فإن السفراء لن يحضروا المناسبة. ويلاحظ هنا أن هذه الدول الست أعضاء في مجموعة السبع التي يضاف إليها اليابان، كما أنها الأكثر وقوفاً مع إسرائيل منذ بداية الحرب في غزة مع اختلاف في الدرجة، أضف إلى ذلك أن بعضها قد اتخذ قرارات بمنع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين وتلك التي تنتقد إسرائيل.
المنطق العام لهذه الدول يتمثل في الاعتراض على تسييس تلك المناسبة، وعدم دعوة السفير الإسرائيلي بناءً على اعتبارات سياسية. والواقع أن هذا الأمر قد أثار جدلاً داخل اليابان فيما يتعلق بدعوة أو عدم دعوة السفير الإسرائيلي مقارنة بعدم دعوة سفيري روسيا وبيلاروس. وأصبح هناك من يتحدث عن معايير مزدوجة.
بطبيعة الحال، تصدت هذه الأطراف الرافضة لعدم دعوة السفير الإسرائيلي لمثل هذه الطرح. إذ اعتبرت سفيرة المملكة المتحدة في طوكيو أنه لا يمكن مقارنة "العدوان" الروسي بما تقوم به إسرائيل من "حق الدفاع عن النفس". بينما برر السفير الأمريكي عدم حضوره بالقول إن حضوره كان سيعني "مساواة أخلاقية بين روسيا وإسرائيل، إحداهما دولة غازية، على عكس الأخرى التي كانت ضحية للغزو"، مؤكداً في الوقت نفسه على أن القرار اتخذ لاعتبارات سياسية وليست أمنية، خاصة وأن عمدة نجازاكي حاول النأي بالمسألة عن سياقها السياسي، قائلاً إن عدم توجيه الدعوة للسفير الإسرائيلي إنما جاء لضمان سير المناسبة على ما يرام دون وجود ما يكدرها، خاصة وأن هناك كبار سن يشاركون فيها، كما قد يكون هناك محتجون على مشاركة السفير الإسرائيلي. أي أنه حاول إدراج الأمر في السياق الأمني وليس السياق السياسي.
من جانبه، فإن السفير الإسرائيلي في اليابان جلعاد كوهين اعتبر أن قرار عمدة نجازاكي "مؤسف، ويرسل رسالة خاطئة إلى العالم". وفي يوم احتفال مدينة نجازاكي نفسه، قام السفير الإسرائيلي رفقة سفيري المملكة المتحدة والولايات المتحدة بحضور مراسم تأبين لضحايا القنبلة النووية على نجازاكي في أحد المعابد البوذية في طوكيو.
وهكذا، فإن بعض الدول اعترضت ابتداء على عدم دعوة إسرائيل، ثم انتقلت إلى ممارسة الضغط من أجل العدول عن القرار، وعندما لم تجد الضغوط نفعاً انتقلت إلى ما يمكن تسميته ممارسة النكاية. وهنا، فإن ثمة سؤالاً يطرح نفسه: هل لو حاول سفيرا روسيا وبيلاروس القيام بأمر مشابه لما قام به سفراء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإسرائيل هل سيسمح لهما؟، ولو سمح لهما ماذا سيكون رد الفعل داخلياً وخارجياً؟.
في الختام، من الواضح أن هناك من يوفر حماية ودعم لإسرائيل ليس فقط على الصعيد العسكري على أرض الواقع ولا في المنظمات الدولية فقط باستخدام حق النقض المتوالي، وإنما أيضاً في دول أجنبية حتى لو تعلق الأمر بقضايا رمزية تاريخية.