كان الظهور الأول لمفهوم الإرهاب «Terrorism» مع نهاية القرن الثامن عشر مرافقًا لأحداث الثورة الفرنسية. بدايةً ظهر مصطلح «Terreur» في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام 1694، بمعنى الرعب والخوف الشديد، ثم تم استدعاؤه بعد مئة عام تزامنًا مع أحداث القتل والعنف والترويع المصاحب للثورة الفرنسية على المَلكية، وصدور قانون الإرهاب في يوليو 1794 لمحاكمة حكومة الثورة الفرنسية التي أعملت القتل الواسع والترويع الشديد لعشرات الآلاف من المواطنين الفرنسيين العزل. فقد حوكم روبسبير حاكم فرنسا بعد نجاح الثورة وإسقاط المَلكية وأصبح أول من يوصف بـ «الإرهابي»، ووضع على المقصلة بعد إدانته بـ «ممارسة الإرهاب».
بحلول منتصف القرن العشرين تم استدعاء مصطلح «الإرهاب» لوصف عنف النظام النازي والفاشي في ألمانيا وإيطاليا بحق المدنيين العزل، سواء كانوا مواطنين محليين، أو من دول مجاورة، أو أقلية دينية مثلما حدث مع اليهود في أحداث الهولوكوست خلال الحرب العالمية الثانية. هذه المرة وصف هتلر بـ «ممارسة الإرهاب»، وظهرت مصطلحات مثل «الإرهاب النازي».
إذن، ظهر مفهوم الإرهاب في بدايته ليصف إفراط «صاحب السلطة» في استخدام العنف والترويع والتخويف الشديد بحق المدنيين العزل، كان من المتداول والشائع استخدام مصطلح «إرهاب سلطة الدولة»، ومن المقبول وصف أي ممارسة عنف شديد ضد أفراد أو جماعات أو دول بقصد الانتقام الواسع ودون مبرر قانوني بأنه «ممارسة إرهابية»، ومن ثم وصف أنظمة أو أشخاص أصحاب سلطة بأنهم «إرهابيون».
ثم تغيرت خريطة المصالح والصراعات الدولية، وأصبح لا صوت يعلو فوق الصوت الأمريكي/ الغربي حول تصنيف من هو الإرهابي، ومن هو غير ذلك، ومتى يكون نفس الاستخدام المفرط للعنف يسمى «إرهابًا»، ومتى يسمى «حق الدفاع عن النفس»، ومتى يسمى «مقاومة»!
وفقًا لميثاق الأمم المتحدة، فإن «المقاومة المسلحة»، تعرف بأنها عمليات القتال التي تقوم بها عناصر «وطنية» من غير أفراد القوات المسلحة النظامية ضد قوى «أجنبية»، وتعرف أيضًا بأنها كل أشكال العمل المعبر عن رفض الاحتلال.
بعد ذلك تأتي أحداث الحرب على غزة الحالية، لتعيد إلى الأذهان صور مماثلة لهولوكوست النازي ولمقصلة حكومة الثورة الفرنسية، ولتجعلنا نتساءل عن وصف ممارسات الحكومة والجيش الإسرائيلي في مواجهة نحو مليوني ونصف مليون من المدنيين العزل في قطاع غزة، هل يمكن وصفها بـ»الإرهاب»؟ أم أن مجرد صدورها عن «دولة» لا يجعلها «إرهابًا»!
إذا كان المشهد اليومي في غزة يحتوي على مختلف قرائن الترويع وتعمُّد القتل العشوائي واستهداف الأطفال، بل والرضع والحصار والتجويع وإشعال الحرائق داخل المخيمات واستهداف المستشفيات، فما هو العائق لوصف كل هذه الممارسات الموثقة والمثبتة والمستمرة بالإرهاب؟ هل العائق الوحيد أنها ممارسات صادرة عن دولة تمتلك اعترافًا دوليًا، وليس تنظيمًا مصنفًا من الفاعلين من غير الدول؟ هنا، تكمن المفارقة في أن المصطلح الذي ظهر منذ أكثر من ثلاثة قرون لوصف الاستخدام المفرط للعنف من قِبل الدول لم يعد مناسبًا لوصف الممارسات الشديدة العنف والترويع في عام 2024 ضد «المدنيين» الفلسطينيين في غزة، لأنها تصدر عن «دولة» إسرائيل!
نشهد مفارقة أخرى ونحن نتابع احتفالات افتتاح أولمبياد باريس 2024، التي جرت في شوارع العاصمة على جانبي نهر السين، وفي جانب من العرض الفني الحي، فيما عرف بلوحة «الحرية»، ظهر تجسيد فني لشخصية الملكة ماري إنطوانيت، وهي مقطوعة الرأس، في تعبير احتفالي بطريق فرنسا للحصول على الحرية من خلال أحداث الثورة الشعبية على المَلكية. فعلى الرغم من أن إعدام ما يربو على 16 ألف شخص على مقاصل الثورة، وصف بعد عام واحد بأنه «إرهابًا»، إلا أن هذا الحدث الرياضي أصر على الاحتفاء بمشهد شديد العنف، وهو قطع رأس ملكة فرنسا بعد عزلها واعتقالها باعتباره رمزًا لـ «حركات التحرر» و»المقاومة».
السؤال يظل مطروحًا، من هو «الإرهابي»؟ وكيف يمكن تمرير كل الممارسات الإرهابية للجيش الإسرائيلي ضد مدني غزة، باعتباره ردًا قانونيًا مكفولًا له باعتباره «جيشًا نظاميًا»؟ وكيف يمكن الخلط بين «المقاومة» و»الإرهاب» إلى هذا الحد؟