تمثل عملية اغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسى لحركة حماس إسماعيل هنية يوم 31 يوليو 2024، على الأراضى الإيرانية أثناء مشاركته فى فاعليات تنصيب الرئيس الإيرانى الجديد مسعود بزشكيان، بداية لمرحلة جديدة فى مسار المواجهات بين إيران، من خلال "محور المقاومة"، وبين إسرائيل، وهى مرحلة قال عنها حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبنانى فى خطابه مطلع أغسطس 2024، بأنها "مرحلة تنتهى فيها عمليات إسناد المقاومة الفلسطينية وتبدأ فيها عمليات الحرب المفتوحة".
هذه الجملة عبّرت عن تهديد واضح من قبل نصر الله لإسرائيل، وهو تهديد يتسق مع حالة التحدى التى أبدتها الأخيرة بتجاوزها كافة قواعد الاشتباك البينية عبر اغتيالها لإسماعيل هنية، ومن قبله اغتيال فؤاد شكر، رئيس الجناح العسكرى لحزب الله، فى 30 يوليو 2024 بالضاحية الجنوبية لبيروت. ويشير مضمون تهديد نصر الله إلى أن كل ما سبق من عمليات قامت بها فصائل وجماعات فى العراق واليمن وسوريا ضد أهداف إسرائيلية وأمريكية إسناداً للمقاومة الفلسطينية باتت مرحلة منتهية وأن "محور المقاومة" فى اتجاهه لتصعيد أوسع لعملياته العسكرية دون خطوط أو محاذير أو قواعد اشتباك، بما يعنى أن الإقليم يتجه نحو مرحلة من المواجهات المفتوحة التى قد تؤدى إلى حرب إقليمية شاملة.
مؤشرات على مرحلة جديدة
أشار نصر الله فى خطابه إلى أن الرد على عمليات الاغتيال الأخيرة- فؤاد شكر وإسماعيل هنية- سيكون "مدروساً" وربما يكون "متفرقاً" أو "متزامناً"، وهى مفردات تضع "إطاراً محدداً" وجديداً لطبيعة تفاعل المحور الإقليمى مع إسرائيل خلال المرحلة المقبلة فى المنطقة، والتى تكشف مؤشراتها أنها ستكون مرحلة "تغييرات كبرى" بالمقارنة مع مرحلة الإسناد المعمول بها على مدار الشهور العشرة السابقة من عمر العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة.
ويأتى الاغتيال على الأراضى الإيرانية مباشرة ليضع عدة محددات أمام إيران وحلفائها تستطيع من خلالها بلورة طبيعة الرد والأدوار المتوقعة لعناصر المحور فيه. إذ يبدو أن إسرائيل رغبت فى وضع محددات تفاعل جديدة تستبق وصول الإدارة الأمريكية الجديدة من ناحية، وتوضح للرئيس الإيرانى الجديد مسعود بزشكيان من ناحية ثانية بأن "إعادة التموضع" الإيرانى العسكرى فى مناطق النفوذ الإيرانية فى الشرق الأوسط – لاسيما بعد استهداف إسرائيل للقنصلية الإيرانية فى دمشق في أول أبريل الماضى- لم تعد تمثل حاجزاً لها، ولا يمكن أن تردعها عن تجاوز قواعد الاشتباك بالمفهوم السياسى والعسكرى على حد سواء، وأن قاعدة "الرد والرد المقابل" عسكرياً فى الميدان من قبل حزب الله و"محور المقاومة" فى مواجهتها لن تُحجم من أهدافها الجديدة بتصفية كوادره السياسيين والعسكريين على حد سواء.
هذا يعنى أن إسرائيل تدفع إيران للاختيار بين بديلين: إما أن تدخل فى مواجهات عسكرية مفتوحة معها عبر "محور المقاومة"، وفى حالة اتساع هذه الحرب فإن المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل ستبدو حتمية. وإما أن تعيد إيران دراسة أوراقها الإقليمية والضغط على محور الدعم والإسناد للمقاومة الفلسطينية لوقف التصعيد والتراجع. ويبدو من رد الفعل الإيرانى الذى تمثل فى تصريحات المرشد الأعلى على خامنئى، رداً على اغتيال هنية على الأراضى الايرانية، ومن خطاب حسن نصر الله فى السياق نفسه، أن إيران فى طريقها لاختيار البديل الأول كخيار لا بديل عنه فى الوقت الراهن حفاظاً على ماء الوجه، وهو الانتقال فى المواجهات العسكرية بين إسرائيل و"محور المقاومة" من "مرحلة الإسناد" إلى مرحلة "الجبهات المفتوحة"؛ أى أن إسرائيل نجحت فى توظيف تجاوزها لقواعد الاشتباك - باغتيالات نوعية لقيادات مهمة فى وزن هنية وشكر – فى استدراج إيران إلى مواجهات عسكرية مفتوحة خلال المرحلة المقبلة، وهو أمر بات مفروضاً على إيران وعلى المحور مواجهته؛ نظراً للتحديات التى فرضتها إسرائيل باغتيال هنية على الأراضى الإيرانية وما عكسه من دلالات ورسائل للقيادات الإيرانية، واغتيال شكر فى الضاحية الجنوبية لبيروت وما حمله من دلالات على الداخل اللبنانى لاسيما مع وقوع ضحايا من المدنيين.
محددات الرد
وفقاً لهذا السياق، يبدو أن مفهوم الرد على إسرائيل بات خياراً وحيداً ولابد منه أمام كل من إيران وحزب الله وباقى الفضائل فى العراق واليمن. لكن السؤال هو: ما هى طبيعة هذا الرد؟، وما نوعيته ومستواه؟.
الإجابة على هذا التساؤل تتطلب توضيح معطى مهم يقول بأن ثمة محددات للرد ترغب إيران و"محور المقاومة" في الحفاظ عليها، وهى محددات تتعلق بالمكاسب التى تحققت منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى فى أكتوبر 2023.
أول هذه المحددات، يتعلق بالحفاظ على مكتسب "الردع الاستراتيجى" فى بعده الإقليمى الذى حققته المقاومة الفلسطينية بعملية طوفان الأقصى من ناحية، وأكده المحور الإقليمي فى عمليات إسناده لها طوال الشهور الماضية من ناحية ثانية، وهو المكسب الحقيقى الذى تحاول إسرائيل هدمه بعمليات الاغتيال النوعية التى قامت بها فى طهران وبيروت على حد سواء، بمعنى أنها تحاول إنهاء قدرة "محور المقاومة" ومن ورائه إيران على "الردع الاستراتيجى" الذى تحقق عبر مواجهتها طوال الشهور العشرة الماضية، وترغب بذلك فى العودة إلى مرحلة ما قبل عملية طوفان الأقصى؛ أى إلى مرحلة تفوقها النوعى واستعادتها القدرة مجدداً على" الردع الاستراتيجى" فى المنطقة.
وثانيها، يشير إلى أن الرد يجب أن يوازن عمليات الاغتيال من حيث المكان والنوعية والحجم؛ أى يشمل عمليات نوعية يقوم بها الحرس الثورى بنفسه، وأن يكون الداخل إسرائيلى على قائمة المستهدفات فى هذا الرد؛ بمعنى أن تشمل العمليات من حيث الجغرافيا الأراضى المحتلة، وأن الاستهداف يجب أن يشمل شخصيات سياسية فى الحكومة الإسرائيلية مع احتمالية أن يشمل رأس الحكومة نفسها، رغم صعوبة هذا الطرح أمنياً واستخباراتياً، وأن يستخدم الحرس الثورى فى رده نوعية فائقة ومتطورة من الأسلحة عالية التكنولوجيا غير المرصودة القادرة على إحداث قوة تدميرية لافتة.
وثالثها، يتعلق بمدى الرغبة من جانب الطرفين: إيران و"محور المقاومة" من ناحية، وإسرائيل من ناحية ثانية، بالدخول فعلياً فى حرب مفتوحة. الاعتقاد السائد ووفقاً لما سبق توضيحه من ردود الفعل الواردة فى تصريحات وخطابات إيران وحزب الله أنه لم يعد هناك خطوط حمراء، ولم يعد هناك قواعد اشتباك، ولم يعد هناك إسناد، وإنما هناك جبهات مفتوحة. والأمر نفسه بالنسبة لإسرائيل؛ وهى حققته بالفعل باغتيالها هنية وشكر. لكن الواقع يقول أن كلا الطرفين تواجههما عدة قيود أبرزها مسارعة الولايات المتحدة إلى إرسال مزيد من قواتها العسكرية إلى المنطقة كرسالة ردع لإيران و"محور المقاومة"، ومن ثم فهذا فى حد ذاته – أى المتغير الأمريكى - يمثل قيداً على تصرفات إيران والمحور، وهو ما يعنى أن الرد الإيرانى يجب أن يكون "محدود النطاق"، و"معلوم التوقيت"، و"محدد النهايات" بالنظر إلى دخول المتغير الأمريكى على معادلة التفاعلات بين إيران وإسرائيل حالياً، وأن الولايات المتحدة ستسمح بهذا الرد وفقاً لتلك المعطيات ولن تسمح بأكثر من ذلك. وبالنسبة لإسرائيل حتى وإن جاء الرد الإيرانى وفقاً لهذه القيود والقواعد فإن ذلك لا يعنى أنها قد استعادت القدرة على الردع مرة أخرى، ولا يعنى كذلك تآكل القدرة على الردع الاستراتيجى التى اكتسبتها إيران و"محور المقاومة". بمعنى أكثر دقة، إننا سنكون أمام حالة "وسيطة" بين هذا وذاك. وهذه الحالة فى حد ذاتها ستؤدى إلى استمرار التصعيد فى الإقليم؛ لأن مسبباتها الرئيسية وهى العدوان الإسرائيلى على غزة لا تزال قائمة، فضلاً عن رغبة إسرائيل المحمومة فى فتح الجبهة الشمالية حيث الصراع مع حزب الله اللبنانى.
ورابعها، يتصل بقدرة إيران والفصائل على تبنى رد "مدروس" و"موجع" و"مشترك" و"متزامن" فى آن واحد؛ وهذا يتطلب تخطيطاً جيداً لطبيعة وحدود ومكان الرد حتى لا يكون مجرد رد عشوائى، بحيث تستطيع إيران والمقاومة نقل كرة النيران المتدحرجة إلى الجانب الأمريكى الداعم الدولى لإسرائيل. أى بإمكان إيران وحلفائها تبنى آلية "الرد المتزامن" فى اتجاهين: الرد داخل إسرائيل مباشرة من ناحية، والرد فى الوقت نفسه ضد المصالح الأمريكية فى العراق وسوريا والبحر الأحمر من ناحية ثانية. فعنصر"المزامنة" هنا، حتى فى ظل محدودية التأثير، يعطى انطباعاً بقدرة المحور على التأثير المزدوج على مصالح الطرفين الإسرائيلى والأمريكى، مع ملاحظة أن الرهان الأمريكى-الإسرائيلى سيتمثل فى دفع ايران ومحورها الإقليمى نحو مزيد من الانجرار لصراعات مفتوحة؛ بهدف إتاحة الفرصة أمام الولايات المتحدة لتقليم أظافر إيران وأذرعها فى المنطقة، وإن ظلت قدرة الولايات المتحدة على ذلك محكومة بالمحدد نفسه، وهو قدرة أذرع إيران على التأثير بفاعلية على المصالح الأمريكية فى المنطقة.
إطار الرد المحتمل
تناقلت بعض وكالات الأنباء الأمريكية أخباراً تفيد بعقد حزب الله اللبنانى، وجماعة أنصار الله الحوثية اليمنية، وميليشيات عراقية، وممثلين عن حركتى الجهاد الإسلامى وحماس الفلسطينيتين اجتماعاً فى طهران مع ممثلى المرشد الأعلى علي خامنئي وعدد من قادة الحرس الثورى (فى 1 أغسطس 2024 )، وذلك فى أعقاب اغتيال كل من فؤاد شكر وإسماعيل هنية، لتقييم الوضع ومناقشة الرد المحتمل على عمليات الاغتيال التى نفذتها إسرائيل بحق القادة المذكورين. والتسريبات الصادرة عن هذا الاجتماع – تعمدت إيران تسريب معلومات هذا الاجتماع لصحف ووكالات أنباء أمريكية- تشير إلى أن المرشد خامنئى أقر للمجتمعين بضرورة ضرب إسرائيل مباشرة رداُ على اغتيال إسماعيل هنية على الأراضى الإيرانية، وأن هذا الرد حتمي. وبالطبع تشير إجراءات الطوارئ التى اتخذتها إسرائيل داخلياً إلى أنها تتوقع وربما تنتظر هذا الرد. وهذا فى حد ذاته يشير إلى احتمالين: الأول؛ أن تقنع إسرائيل بتلقى الرد الإيرانى دون رد مقابل، بغض النظر عن مدى كونه شاملاً ومتزامناً ومؤثراً، على اعتبار أن هدف نتنياهو من اغتيال شخصيات مؤثرة على مسار عمل المقاومة الفلسطينية، أو لدى حزب الله، قد حقق المراد منه والمتمثل فى محاولة "انتزاع نصر وهمى" يحفظ ماء وجهه أمام الداخل الإسرائيلى وأمام معارضيه، ومن ثم تكتفى بتلقى الرد دون أن تلحقه برد مقابل.
والاحتمال الثانى؛ أن تُقيم إسرائيل مستوى ونوعية وحجم الرد ومدى تأثيره عليها، وفى حالة الوصول إلى قناعة بضرورة الانتقام مجدداً فسنكون أمام فتح فعلى وحقيقى لجبهة صراع إقليمى لا تراجع عنها، وستكون له أثمانه الإقليمية على المنطقة كلها.
ومن ثم يمكن القول إن الإطار المتوقع لرد إيران ومحورها سيكون كالتالى:
1- رد حتمى "مشترك" و"متزامن"؛ يشمل قلب الداخل الإسرائيلى (محيط تل أبيب وحيفا) والقواعد الأمريكية فى المنطقة باستخدام صواريخ وأسلحة غير نمطية ومتطورة، بحيث تكون قادرة على إحداث قدرة تدميرية عالية.
2- رد حتمى "مدروس"؛ بحيث يكون مؤثراً بدرجة ما، دون الانجرار لحرب واسعة أو شاملة؛ لأن لدى إيران قناعة بأن حرباً بهذا المضمون ستمنح نتنياهو الفرصة لإدخال الولايات المتحدة كرقم أساسى فى معادلة الصراعات الإقليمية المباشرة بينها وبين إسرائيل، وهو ما لا ترغب فيه إيران حقيقة.
3- "عمليات هجينة"؛ تشمل إلى جانب العمليات العسكرية بأسلحة وذخيرة متطورة عمليات أخرى للاختراق الأمنى السيبرانى وتعطيل المطارات الإسرائيلية والتشويش على مراكز المعلومات الأمنية. إلى جانب تصدير الحرب النفسية إلى الداخل الإسرائيلى بالنظر إلى المخاوف التى تثيرها إجراءات الطوارئ التى فرضتها الحكومة الإسرائيلية على مواطنيها، وهى إجراءات غير مسبوقة فى تاريخ إسرائيل.
4- استمرار جبهات إسناد المقاومة الفلسطينية فى غزة؛ مع الانتقال إلى مرحلة أكثر عمقاً فى هذا الإسناد بصورة مشتركة بين قوى "محور المقاومة"، لأن فعلياً إسرائيل لا تستطيع التكيف مع هذا الواقع الذى فرضه المحور عليها بمرور الوقت، حتى وإن أخذ عدوانها على غزة مساراً زمنياً متزايداً، وانتهجت أسلوباً نوعياً فى طبيعة الاستهدافات بتفعيلها أداة الاغتيالات كوسيلة للمواجهة، لأن الكلفة السياسية داخلياً على حكومة بنيامين نتنياهو آخذة فى التزايد مع مرور الوقت؛ لاسيما فى ظل عدم تحقيق أى اختراق فى مفاوضات الهدنة مع الجانب الفلسطينى.
يمكن القول، إن انتهاج إسرائيل أداة الاغتيالات وسيلة جديدة فى حربها مع المقاومة الفلسطينية من ناحية، وإيران ومحورها من ناحية ثانية، يعنى أنها لم تعد مكتفية بقطاع غزة كساحة حرب، وأنها بصدد توسيع هذه الحرب لتنتقل إلى الحرب الشاملة، معتمدة على الدعم الأمريكى العسكرى والمادى وفى المحافل الدولية، لأن ذلك يخدم أهداف الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة الحالية، ويخدم مصالح رئيسها نفسه بنيامين نتنياهو داخلياً. وفى المقابل، فإن تجاوز قواعد الاشتباك بمفهوميها السياسى والعسكرى من قبل إسرائيل فى مواجهة "محور المقاومة" برعاية إيران يدفع إلى حرب مفتوحة الجبهات قد تؤدى إلى حرب إقليمية شاملة، ستتحدد ملامحها مع طبيعة وحجم ومستوى الرد الإيرانى المحتمل على اغتيال كل من إسماعيل هنية وفؤاد شكر. لكن يظل الطرفان يتفاعلان تحت مظلة رفض الحرب الشاملة الكبرى حتى الآن، وتظل القدرة على التحكم فى عدم الوصول إلى هذه المرحلة محكومة بقرار الولايات المتحدة نفسها؛ بمعنى هل ستكتفى بقبول الرد الإيرانى الحتمى المنتظر على إسرائيل بغض النظر عن حجمه ومدى تأثيره، أم أنها ستكون عاملاً مساعداً على دخول الحرب الشاملة بإتاحة الفرصة لإسرائيل لمزيد من الرد، أو أن تشارك بنفسها فى توجيه ضربات مباشرة إلى إيران.