بين ليلة وضحاها تحول السباق الرئاسي في الولايات المتحدة إلى معركة بين امرأة ورجل. ويحمل هذا الموقف رمزية سياسية كبيرة لها معانٍ قيمية مهمة لقطاعات عريضة من المجتمع الأمريكي. فكاميلا هاريس نائبة الرئيس كريمة المهاجرين ذوي الأصول الأفريقية والهندية التي شقت طريقها التعليمي ثم كافحت وظيفياً وسياسياً لتصبح مدعياً عاماً في مدينة سان فرانسيسكو ثم ولاية كاليفورنيا تنافس رئيساً سابقاً أبيضاً - دونالد ترامب- من عائلة ثرية ومتهماً في عدة قضايا جنائية ومدنية وسياسية.
وبذلك باتت هاريس ترمز إلى مبادئ المساواة السياسية في الحقوق والواجبات التي تنشدها جماعات المرأة والأقليات والمهاجرين والعمال أمام وجه أمريكا الآخر. ذلك الوجه الذي يتميز بالذكورية البيضاء المسيحية ويتحكم في رؤوس أموال كبيرة وله نزعات عنصرية ضد الأقليات والمهاجرين.[1] ومن ثم فقد أحدث اختيارها حراكاً قوياً لدى تلك القطاعات المؤيدة للحزب الديمقراطي. وبدا الحزب أكثر تحفزاً للفوز وربما تحسنت فرصه.[2] كما بدأت سردية سياسية جديدة للحزب الديمقراطي تكتسب رواجاً وقبولاً لدى الرأي العام الأمريكي، بحيث يظهر الحزب أكثر مسئولية واحتراماً لرغبة الناخبين. وفيما يلي سنعرض مؤشرات توحد صفوف الحزب وراء هاريس ثم ملامح سردية الحزب الجديدة، وأخيراً كيف أحدث ترشحها موجة حماسية وسط جموع المرأة والأقليات والشباب وبعض رؤوس الأموال التقدمية.
الحزب الديمقراطي صفاً واحداً
تعد وحدة الحزب في دعم المرشح الرئاسي أحد أهم عوامل النجاح في إعادة انتخاب أي رئيس أمريكي لفترة رئاسية ثانية. ومن ثم فقد كان هناك تخوف لدى بعض قيادات الحزب بأن تنازل بايدن عن ترشحه سيضيع تلك الميزة النسبية ويفتح باب الانقسام والخلاف داخل الحزب على شخصية المرشح البديل.[3] غير أن مطالبات بايدن بعدم الترشح لمرة ثانية بسبب عمره وحالته الذهنية هي التي كادت أن تعصف بوحدة الحزب، وبالتالي عندما أعلن عن عدم ترشحه وأيد هاريس، أضفى ذلك الإعلان شرعية جديدة عليها، ودبت موجة واسعة من الأمل في أركان الحزب الديمقراطي. وقد ظهر ذلك الدعم الحزبي جلياً في سرعة جمع هاريس تأييد مندوبي الحزب من الولايات المختلفة، فقد حصلت على تأييد 1976 مندوباً في أقل من 48 ساعة بعد إعلان بايدن. كما توالى عليها دعم قيادات الحزب في الكونجرس وقيادات الحزب الديمقراطي في كل الولايات الأمريكية. وربما كان الأكثر دلالة على وحدة الحزب في دعمها هو توالي إعلان المنافسين لها دعمهم. فقد أيدها حكام ولايات كاليفورنيا وبنسلفانيا وميشيغان، الأمر الذي استحسنته جموع ناخبين الحزب الديمقراطي. ويُظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة نيويورك تايمز أن 70٪ من الناخبين الديمقراطيين يؤيدون ترشح هاريس.
كل ذلك لا ينفي أن السباق الرئاسي سيظل محتدماً بسبب حالة الاستقطاب الشديدة داخل المجتمع الأمريكي، ويبين استطلاع الرأي أيضاً أن 48٪ من الناخبين المسجلين يؤيدون ترامب رئيساً، بينما يؤيد 47٪ منهم هاريس.[4]
الحزب الأكثر مسئولية
بدأت سردية الحزب الديمقراطي الجديدة في التبلور بعد إعلان بايدن قراره بالانسحاب استجابةً لمطالب الرأي العام وإعلاءً لفرص حزبه في الفوز وترجيحاً لمصالح حزبه على مصلحته الشخصية. وبهذا يصور الحزب نفسه أمام الرأي العام على أنه الحزب الأكثر مسئولية والأكثر تغليباً للصالح العام. وقد برز ذلك خلال خطاب بايدن المتلفز للشعب الأمريكي يوم 24 يوليو 2024، بعد تعافيه من فيروس كورونا وعودته إلى العمل، حيث برر قراره بأنه حان وقت إعطاء فرصة جديدة لدماء شابة من السياسيين الديمقراطيين ليقودوا الحزب في المرحلة القادمة وخير من يقوم بهذا الدور هي كاميلا هاريس. وبذلك يصبح بايدن القائد المضحي بطموحه الشخصي وكبرياءه وهو في قمته السياسية كرئيس حالي تغليباً لمصلحة الولايات المتحدة. ويُعدُ ذلك الأمر اختلافاً جوهرياً عن طبيعة المنافس الجمهوري ترامب. فالأخير يرمز إلى إعلاء المصلحة الشخصية والتمسك بمنصبه رغم خسارته وعرقلة التداول السلمي للسلطة وتشجيعه للعنف ضد مؤسسات الدولة.[5] وقد حسّنت تلك السردية من النظرة الإيجابية للناخبين تجاه هاريس، فبعد أن كانت تتمتع بنظرة إيجابية بنسبة 36٪ من الناخبين في فبراير الماضي ارتفعت إلى 46٪ من الناخبين في شهر يوليو الفائت بزيادة 10 نقاط. كما يرى 51٪ من الناخبين أن هاريس تهتم بشئونهم الحياتية، وبذلك تكون قد تفوقت على ترامب بنقطتين.[6]
تحالف هاريس: الحراك النسوي والأقليات والشباب
بمجرد أن أصبحت هاريس المرشحة الرئاسية للبيت الأبيض احتلت قضايا المرأة مكانة رئيسية من جملة القضايا الانتخابية لعام 2024. وبدأت حملتها الانتخابية في تسليط الضوء على دور هاريس كرئيس في تمكين المرأة من حقوقها ومنها الحقوق الإنجابية، وهو الأمر الذي يعد ذي أهمية كبيرة لدى حركات حقوق المرأة في الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل تراجع تلك الحقوق بعد حكم المحكمة الدستورية العليا بإلغاء حكم رو ضد ويد (Roe vs Wade) عام 2022 والذي كان يعطي المرأة منذ عام 1973 الحق في اتخاذ قرار الإجهاض دون تدخل من الحكومة الفيدرالية أو حكومات الولايات. ونتج عن ذلك الإلغاء أن أصدرت 14 ولاية قرارات بمنع الإجهاض داخل ولاياتهم، وهو الأمر الذي ترفضه غالبية أعضاء الحزب الديمقراطي و38٪ من أعضاء الحزب الجمهوري.[7] وقد كانت تلك القضية حافزاً قوياً لجذب أصوات الناخبين لصالح الحزب الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس عام 2022، وستظل الحقوق الإنجابية للمرأة تلعب دوراً بارزاً في جذب أصوات الناخبين لصالح هاريس.[8]
وترتبط أيضاً حالة تحفز الجماعات النسوية المؤيدة لهاريس بقناعاتهم بأنه حان الوقت لتصبح المرأة رئيساً للولايات المتحدة، وربما تأخر ذلك الوقت كثيراً مقارنة بتجارب ديمقراطية أخرى في أوروبا وآسيا.[9] فالمرأة في الولايات المتحدة هي أكثر من نصف المجتمع، و70٪ منهم يصوتن في الانتخابات.[10] يأتي ذلك في خضم سباق رئاسي يرى فيه كثيرون أن هاريس تتمتع بصفات تجعلها الأكثر مقدرة على قيادة الولايات المتحدة، فعلى سبيل المثال يرى 52٪ من الناخبين بأنها ستكون قائداً أكثر فعالية من ترامب، بل هي تفوقت عليه في درجة الذكاء، حيث يرى 66٪ من الناخبين أنها المرشح الأكثر ذكاءً، بينما يرى 49٪ من الناخبين أن ترامب يعد هو الأكثر ذكاء، بفارق 17 نقطة لصالح هاريس.[11]
أما فيما يخص الأقليات، فيتميز الحزب الديمقراطي بتحالفاته الواسعة مع الأقليات الأمريكية، وخصوصاً الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية والأصول اللاتينية والأصول الاسيوية، فتاريخياً صوتت غالبيتهم لصالح الحزب الديمقراطي. ويحدث بين الحين والآخر أن تنقص نسب تصويت تلك الكتل، إذا لم تتحمس للمرشح الديمقراطي، وهو ما حدث مع ترشح الرئيس بايدن لفترة ثانية. ولكن منذ أن تغير الموقف لصالح هاريس تحمست الكتل من ذوي الأصول الأفريقية والتي تمثل 14٪ من الناخبين الأمريكيين، ورصدت استطلاعات الرأي تحولاً نسبياً في درجة دعمهم لهاريس.[12] فعلى سبيل المثال، أبدى 81٪ من الناخبين السود في ولاية ميشيغان تأييدهم لهاريس، بينما لم يحصل ترامب على أي تأييد.[13] وسيلعب الناخبون من ذوي الأصول الأفريقية دوراً مهماً في الولايات المتأرجحة (Swing States) مثل كارولينا الشمالية وجورجيا، حيث تتميز تلك الولايات بكثافات سكانية ضخمة منهم، وبالتالي قد ينجحوا في ترجيح كافة الحزب الديمقراطي في تلك الولايات.[14]
النمط نفسه يحدث مع الأقلية اللاتينية في الولايات المتحدة التي تمثل 14.7٪ من الناخبين الأمريكيين، وتاريخياً انتخب الصوت اللاتيني الحزب الديمقراطي أيضاً.[15] وتتمتع هاريس شخصياً بميزة نوعية على ترامب، فقد حشدت من قبل أصوات اللاتينيين لصالحها في ولاية كاليفورنيا في انتخاباتها كمدعٍ عام للولاية عام 2010 وانتخابات عضوية مجلس الشيوخ عن الولاية عام 2014. ولمن لا يعرف فولاية كاليفورنيا تضم 8.5 مليون ناخب أمريكي من أصول لاتينية، وهي أعلي نسبة أصوات لهم في أي ولاية على الإطلاق.
وأخيراً، فالأقلية الآسيوية ربما ستتشجع أيضاً لوصول هاريس إلى البيت الأبيض كأول رئيس أمريكي من أصول هندية. ويؤيد غالبية الأمريكيين الآسيويين الذي يمثلون 6.1٪ من جموع الناخبين الأمريكيين الحزب الديمقراطي.[16] ويتركز معظمهم في ولايات تميل نحو الحزب الديمقراطي مثل كاليفورنيا ونيويورك، وبالتالي قد يلعبون دوراً محدوداً على مستوى التصويت، إلا أن وزنهم يعدُ أقوى نسبياً في مجال التبرعات المالية لصالح الحزب.[17]
أما الشباب الأمريكي فقد استجاب بشكل إيجابي لإعلان ترشح هاريس، فبعد أن كان بايدن يتمتع بـ53٪ من أصوات شباب الناخبين في مقابل 47٪ لترامب، زادت نسبة تأييد هاريس – المرشحة الشابة نسبياً- إلى 60٪، وانخفضت نسبة تأييد ترامب إلى 40٪. ويتفق المراقبون على أن تصويت الشباب في الانتخابات المقبلة سيزيد من فرص هاريس في الفوز.[18]
وأخيراً، أدت الحماسة التي قوبلت بها أنباء ترشح هاريس إلى سرعة استجابة كبار ممولين الحزب الديمقراطي لهذا التطور. ونجحت حملة هاريس في جمع 200 مليون دولار بعد أسبوع واحد من إعلان ترشحها. كما نجح الحزب الديمقراطي أيضاً في جمع 150 مليون دولار آخرين لصالح هاريس. وبدأ كبار الممولين في إعلان تعهداتهم بضخ كميات ضخمة من الأموال لصالح هاريس مثل رييد هاستينج رئيس منصة نتفليكس الذي تعهد بدعم حملتها بمبلغ 7 مليون دولار. كما أعلن كل من ميليندا جاتز زوجة بيل جاتز مؤسس شركة مايكروسوفت السابقة، وشيرل ساندبرج المدير التنفيذي السابق للعمليات في شركة فايس بوك، بالإضافة إلى الأخوين رجال الأعمال جورج واليكس سوروس دعمهم لهاريس.[19]
كل تلك التطورات السابقة تدل على أن الحزب الديمقراطي يعدُ العدة لحرب ضروس لمنع ترامب وما يمثله هو وفصيله من الحزب الجمهوري من العودة مرة أخرى إلى البيت الأبيض. فالحزب الديمقراطي يرى فصيل ترامب خطراً على ديمقراطية الولايات المتحدة ومستقبلها في العالم. وعلى ذلك، سيبقى السؤال عن أي وجه لأمريكا سينتصر!
[2] Lisa Lerer, Maya King and Reid Epstein, “Harris Created a Huge Wage of Energy. How Long Can Democrats Ride It?” New York Times, July 31st, 2024; https://www.nytimes.com/2024/07/31/us/politics/kamala-harris-democrats-campaign.html
[4] Shane Goldmacher Ruth Igielnik and Camille Baker, “ Harris Narrows Gap Against Trump,” Times/ Siena Poll Finds,” July 25th, 2024; https://www.nytimes.com/2024/07/25/us/politics/poll-kamala-harris-donald-trump.html?pageType=LegacyCollection&collectionName=Times%2FSiena+Poll+Coverage&label=Times%2FSiena+Poll+Coverage&module=hub_Band®ion=inline&template=storyline_band_recirc
[6] Shane Goldmacher Ruth Igielnik and Camille Baker, “ Harris Narrows Gap Against Trump,” Times/ Siena Poll Finds,” New York Times, July 25th, 2024; https://www.nytimes.com/2024/07/25/us/politics/poll-kamala-harris-donald-trump.html?pageType=LegacyCollection&collectionName=Times%2FSiena+Poll+Coverage&label=Times%2FSiena+Poll+Coverage&module=hub_Band®ion=inline&template=storyline_band_recirc
[7] Hannah Hartig, “Wide Partisan Gaps in Abortion Attitudes, but Opinion in Both Parties Are Complicated,” Pew Research Center, May 6th, 2022; https://www.pewresearch.org/short-reads/2022/05/06/wide-partisan-gaps-in-abortion-attitudes-but-opinions-in-both-parties-are-complicated/
[8] Corina Knoll and Mitch Smith, “ My Main, Core Issue’: Abortion Was the Driving Force for Many Voters,” New York Times, November 10, 2022; https://www.nytimes.com/2022/11/10/us/abortion-ballot-midterm-elections.html
[9] Caroline Leicht, “Kamala Harris: Why Does the US Struggle with the Idea of Women Leader, When Other Countries Don’t?” The Conversation, July 31st, 2024; https://theconversation.com/kamala-harris-why-does-the-us-struggle-with-the-idea-of-a-woman-leader-when-other-countries-dont-235477
[10] “Share of People Registered to Vote in the United States in 2022 by Gender,” Statista Research Department, Statista, July 5th, 2024; https://www.statista.com/statistics/999930/share-people-registered-vote-gender/
[11] Shane Goldmacher Ruth Igielnik and Camille Baker, “ Harris Narrows Gap Against Trump,” Times/ Siena Poll Finds,” New York Times, July 25th, 2024; https://www.nytimes.com/2024/07/25/us/politics/poll-kamala-harris-donald-trump.html?pageType=LegacyCollection&collectionName=Times%2FSiena+Poll+Coverage&label=Times%2FSiena+Poll+Coverage&module=hub_Band®ion=inline&template=storyline_band_recirc
[12] Jens Manuel Krogstad and Mohamed Moslimani, “ Key Facts about Black Eligible Voters in 2024,” Pew Research Center, January 10, 2024; https://www.pewresearch.org/short-reads/2024/01/10/key-facts-about-black-eligible-voters-in-2024/
[13] Khaleda Rahman, “Donald Trump Gets No Black Votes vs. Kamala Harris in New Michigan Poll,” Newsweek, July 26, 2024; https://www.newsweek.com/donald-trump-no-black-voters-michigan-poll-kamala-harris-1930542
[14] Jens Manuel Krogstad and Mohamed Moslimani, “ Key Facts about Black Eligible Voters in 2024,” Pew Research Center,
[15] Jens Manuel Krogstad, Jeffrey S. Passel, Abby Budiman, and Anusha Natarajan, “Key Facts about Hispanic Eligible Voters in 2024,” Pew Research Center, January 10th, 2024; https://www.pewresearch.org/short-reads/2024/01/10/key-facts-about-hispanic-eligible-voters-in-2024/
[17] Hailey Fuchs and Jessica Piper, “Harris was Expected to Have Fundraising Trouble. Here’s Why Big Donors are Actually Lining Up in Droves,” Politico, 07/30/2024; https://www.politico.com/news/2024/07/30/kamala-harris-fundraising-00171630.
[18] Erica Pandey, “Exclusive Poll: Harris Opens Up Early Edge With Young Voters,” Axios, July 25, 2024; https://www.axios.com/2024/07/25/poll-harris-biden-trump-young-voters
[19] Hailey Fuchs and Jessica Piper, “Harris was Expected to Have Fundraising Trouble. Here’s Why Big Donors are Actually Lining Up in Droves,” Politico,