د. أحمد عسكر

باحث مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

أقرَّ كلٌّ من الجيش المالي ومجموعة فاجنر الروسية سقوط عدد كبير من جنودهما - أشارت بعض التقديرات غير الرسمية إلى أكثر من 80 عنصر للطرفين - إثر اشتباكات مسلحة وقعت في 22 يوليو  2024 ولمدة خمسة أيام مع مجموعات مسلحة تابعة للطوارق الانفصاليين وتنظيم القاعدة في مدينة "تينزاراتن" أقصى شمال مالي بالقرب من الحدود الجزائرية، والتي استطاعت إسقاط طائرة هليكوبتر تابعة لفاجنر هناك.

يعكس هذا التطور الدراماتيكي في شمال مالي أزمة حقيقية تمس سمعة فاجنر أمام الرأي العام الأفريقي وبعض حكومات منطقة الساحل التي رحبت بروسيا كحليف بديل للدول الغربية قادر على القضاء على الإرهاب، خاصة بعد إخفاق فرنسا وحلفائها الأوروبيين في هذا الصدد على مدار العقد الماضي.

ويسلط المشهد الراهن في المنطقة الضوء على تراجع فاجنر في المسرح العملياتي على الساحة الأفريقية، خاصة أنها تمتلك تجربة سلبية في شمال موزمبيق قبل خمس سنوات بعدما أجبرها تنظيم داعش على الانسحاب من البلاد، في الوقت الذي استطاعت فيه القوات الرواندية تحقيق بعض الانتصارات العسكرية على الأرض فيما يتعلق باحتواء نشاط داعش هناك، مما يستدعي محاولة البحث في أسباب ودلالات هزيمة فاجنر في شمال مالي، وما قد يترتب على ذلك بخصوص مستقبل فاجنر في الساحل وانعكاساته على السياسة الروسية حيال أفريقيا والتي تتخذ من منطقة الساحل مرتكزًا أساسيًّا لتحقيق مصالحها الاستراتيجية في عموم القارة.

دلالات مهمة

اعترفت فاجنر بهزيمتها الأولى في مالي منذ انخراطها هناك في عام 2021 بناءً على اتفاق وقعته مع المجلس العسكري الانتقالي الحاكم يقضي بنشر 1000 عنصر[1]، وسط توقعات بأنها لن تكون الهزيمة الأخيرة في ضوء تصعيد المواجهات بين الجيش المالي والمجموعات المتمردة في شمال البلاد. وذلك بالرغم من تحقيق القوات المالية وحليفتها من فاجنر انتصارات قوية خلال الشهور الماضية استطاعت خلالها استعادة مدينة كيدال شمالي البلاد، بما يعني اكتساب عناصر فاجنر بعض الخبرات فيما يتعلق بالطبيعة الجغرافية للمنطقة، إلا أن البعض أرجع هذا الإخفاق الأخير للثقة المفرطة من جانب قوات فاجنر، وهو ما كشفته بعض الصور التي بثتها إحدى قنوات تلجرام بشأن سخرية عناصر فاجنر من الطوارق والمجموعات المتمردة في شمال مالي.

وإن كانت فاجنر قد صرحت بأنها لم تكن معركة متكافئة، خاصة أنها عزت هزيمة قواتها إلى عاصفة رملية غير متوقعة قد سمحت للمتمردين بإعادة ترتيب صفوفهم وشن هجوم مضاد، إلا أن الواقع ربما يشير إلى تحول جوهري على مستوى التحالفات بين المجموعات المسلحة في شمال مالي مما أسهم في تغير توازنات القوة هناك خلال الفترة الأخيرة، حيث تشير تقديرات إلى تحالف كل من مجموعات الطوارق والعرب مع تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين الموالي لتنظيم القاعدة، في محاولة للحفاظ على مدينة "تينزاراتن" التي تعد آخر معقل للطوارق لإقامة دولة مستقلة في شمال مالي[2]، وهو ما أشارت إليه مجموعة فاجنر في أحد بياناتها عقب المعركة الأخيرة، ما يعني تنامي القوة العسكرية للمتمردين الأكثر تنظيمًا في شمال مالي، في مقابل ضعف القدرات العسكرية والقتالية للجيش المالي، الأمر الذي ترتب عليه تكبد فاجنر في المعركة الأخيرة أكثر الخسائر الدموية بالنسبة لها في أفريقيا.

كما يُنظر إلى المعركة الأخيرة باعتبارها هجومًا انتقاميًّا من جانب الطوارق والعرب ردًّا على ما أسمته مجازر ارتكبتها القوات المالية وحليفتها فاجنر في شمال ووسط البلاد خلال الشهور الماضية. وحققت أيضًا بعض المكاسب الاستراتيجية الأخرى على رأسها الخسائر البشرية لعناصر فاجنر لا سيما استهداف بعض قادتها مثل سيرجي شيفتشينكو وتأثيرات ذلك على معنويات العناصر المقاتلة في صفوفها[3]. إضافة إلى التشكك في بعض المقولات الخاصة بأن هناك تحسنًا في الأوضاع الأمنية تحت حكم المجلس العسكري الانتقالي الذي وصل إلى السلطة من خلال الانقلاب العسكري الذي شهدته البلاد في أغسطس 2020 ومايو 2021. وما يرتبط بذلك من دحض الادعاءات الخاصة بقدرة فاجنر على تحقيق ما عجزت عنه فرنسا والغرب في التخلص من التنظيمات الإرهابية بدول الساحل.

وفي سياق آخر، يبدو أن فاجنر لا تزال تعاني من تداعيات مقتل مؤسسها وقائدها يفجيني بريجوجين في أغسطس 2023[4]، خاصة فيما يتعلق بحالة الفوضى فيما يتعلق بمستويات هيكلها الداخلي، وتحركاتها على الصعيد العملياتي في المناطق المضطربة المختلفة، الأمر الذي دفع قائدها الحالي أنطون يليزاروف لمناشدة وزارة الدفاع الروسية بمساعدتها عقب الأحداث الأخيرة في شمال مالي، وهو ما يثير تساؤلات عدة حول طبيعة العلاقة بين موسكو والمجموعة عقب مقتل يفجيني، وهل تستفيد موسكو من تلك الخسائر في اتخاذ قرار بتصفية فاجنر ليحل محلها الفيلق الأفريقي الذي أُعلن عنه في أواخر عام 2023.

مسرح عملياتي استخباراتي

بدا النطاق الجغرافي لشمال مالي بمنزلة ساحة للصراع الدولي بعدما زعمت الاستخبارات الأوكرانية تورطها في القتال الأخير الذي نتج عنه سقوط أكثر من 50 عنصر من مقاتلي فاجنر بحسب إحصاءات غير رسمية، وذلك من خلال تقديم معلومات استخباراتية حيوية مكنت المجموعات المتمردة من الطوارق ونصرة الإسلام والمسلمين من تكبيد فاجنر والجيش المالي خسائر كبيرة، في الوقت الذي لم يتضح بعد مدى تورط جنود أوكرانيين في هذا القتال على الأرض، لا سيما أن هناك ادعاءات بوجود مجموعة من الجنود الأوكرانيين في بعض دول الجوار غير المباشر لمالي.

يسلط ذلك الضوء على تعقيدات ديناميات الصراع الدولي، وذلك في ضوء رغبة أوكرانيا في الانتقام من روسيا في مناطق نفوذها الاستراتيجي من خلال استهداف مقاتلي فاجنر الأكثر خبرة، وتقليل الإمكانات العسكرية للمجموعة، والانتقام من عملياتها العسكرية في كييف، إضافة إلى حرمان موسكو من الاستيلاء على المزيد من الموارد والثروات الأفريقية التي تستغلها في تمويل حربها ضد أوكرانيا. وإن كان هذا التطور يثير تساؤلات حول طبيعة العلاقة التي تربط بين المجموعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية في الساحل وبعض الأطراف الدولية، لا سيما بعدما نشرت صحيفة "كييف بوست" صورة لمتمردين ماليين يرفعون العلم الأوكراني، في إشارة إلى التضامن مع أوكرانيا ضد موسكو.

ومن المتوقع أن تتجاوز تداعيات تلك الاشتباكات الطابع الإقليمي إلى ما هو أبعد من عدم الاستقرار الإقليمي بحيث تؤثر على الأمن الدولي، وما قد تشكله من تحديات جديدة في المنطقة، وذلك في ظل تقاطع الدعم الدولي للتنظيمات الإرهابية في أفريقيا بما في ذلك الساحل مع تطورات وتعقيدات المشهد الدولي، مما قد يجعلنا أمام سياق أكثر تعقيدًا خلال المرحلة المقبلة.

مستقبل ضبابي

هناك ترقب لتداعيات المعركة الأخيرة في شمال مالي على أكثر من مستوى. فمن ناحية، قد تهتز صورة فاجنر لدى الرأي العام الأفريقي خلال المرحلة المقبلة، في ظل التخوفات من تكرار تجربة الغرب الفاشلة في مجال الحرب على الإرهاب، وربما يدفع ذلك الشركة الروسية إلى محاولة تحسين صورتها سواء عبر أدواتها الإعلامية المنتشرة في الدول الأفريقية لا سيما دول الساحل، أو من خلال إعادة ترتيب صفوفها وشن حملة عسكرية في شمال مالي في محاولة لرد الاعتبار مرة أخرى.

بينما يظل التساؤل الأكثر إلحاحًا حول السياسة المحتملة للكرملين حيال استمرار فاجنر في أفريقيا لا سيما أن مثل تلك الخسائر قد تعرقل بشكل واضح مساعي روسيا لتوسيع نفوذها في منطقة الساحل لا سيما أنها تشكل حزامًا استراتيجيًّا يمكّن موسكو من الربط مع عدد من المناطق الاستراتيجية الأخرى مثل الشمال الأفريقي خاصة ليبيا والشرق الأفريقي بما في ذلك القرن الأفريقي.

أما على الجانب الآخر، من المتوقع أن تدفع المجموعات المتمردة في شمال مالي نحو البناء على الانتصار الأخير من خلال تكثيف عملياتها ضد الجيش المالي وحليفته فاجنر من أجل الضغط عليهما بهدف إجبارهما على التراجع التكتيكي من الشمال المالي، وذلك لاسترداد المناطق التي فقدتها على يد قوات الجيش خلال الشهور الأخيرة مثل كيدال.

ويعني ذلك توسع القتال في شمال مالي خلال المرحلة المقبلة، بما يؤشر إلى استبعاد التوصل لاتفاق سلام جديد بين الحكومة المالية والمجموعات المتمردة في شمال البلاد، الأمر الذي يعزز في الوقت ذاته مخاوف الرأي العام في الداخل المالي من إخفاق جديد لفاجنر في التصدي للتهديدات الأمنية في شمال البلاد على نحو يعيد للذاكرة الإخفاق الفرنسي والغربي في احتواء مخاطر الإرهاب في دول الساحل منذ عام 2012.

وربما تتزايد أيضًا مخاوف بعض دول الساحل إزاء قدرات فاجنر الروسية في مواجهة الإرهاب، بما قد يدفع تحالف كونفدرالية دول الساحل نحو توسيع دائرة تحالفاته الدولية وعدم الاعتماد على حليف دولي وحيد فقط، وذلك من أجل ضمان تعزيز القدرات الإقليمية في مواجهة التحديات الأمنية.

إلا أن ذلك قد لا يؤثر على خطط موسكو بشأن تأسيس بعض القواعد العسكرية المحتملة في منطقة الساحل، بل قد تنظر إليها دول المنطقة كخطوة أولى نحو توسيع الحضور العسكري الروسي من خلال التعزيزات العسكرية بما في ذلك مضاعفة أعداد الجنود الروس وتعزيز الصادرات التسليحية لدول المنطقة في المرحلة المقبلة، بما ينعكس على توسع التدخل الروسي في مجال الحرب على الإرهاب.

على صعيد آخر، ربما يتصاعد التوتر بين مالي والجزائر خلال الفترة المقبلة في ضوء الاتهامات الموجهة للأخيرة بدعمها للطوارق والمجموعات المسلحة في شمال مالي، لا سيما في ضوء قلقها من وجود فاجنر عند حدودها الجنوبية، وهو ما قد يُقوِّض علاقاتها مع الجانب الروسي أيضًا، بما يعزز حالة التوتر الإقليمي في الساحل، الأمر الذي قد تستغله التنظيمات الإرهابية في توسيع عملياتها من أجل تعزيز نفوذها الجهادي في المنطقة خلال الفترة المقبلة، على نحو يهدد الأمن والاستقرار الإقليمي في الساحل.

ومن المتوقع أن يتصاعد التنافس الروسي-الغربي في منطقة الساحل، خاصة أن الغرب سوف يستغل إخفاق فاجنر في محاولة تأليب الرأي العام الأفريقي ضدها، وربما ينخرط الطرفان في موجة جديدة من المعلومات المضللة عبر أدواتهما بهدف تضليل الأفارقة من أجل تعظيم مصالح كل طرف على حساب الطرف الآخر.

وقد يمثل ذلك فرصة جيدة لبعض الأطراف الدولية الأخرى مثل تركيا لمحاولة تقديم نفسها لدول الساحل باعتبارها الطرف الأكثر قدرة على مواجهة الإرهاب وذلك من خلال تكثيف صادراتها التسليحية بما في ذلك المسيّرات التي باتت تشكل أداة مهمة في الحرب على الإرهاب، الأمر الذي قد يسهم في احتدام التنافس الدولي بالساحل خلال المرحلة المقبلة.

إجمالًا، يبدو أن مستقبل فاجنر في أفريقيا على المحك، في ضوء التعقيدات الداخلية في المجموعة عقب غياب مؤسسها وقائدها في عام 2023، وبالتزامن مع الرغبة الروسية في إحلال الفيلق الأفريقي محلها ليكون تحت إدارة مباشرة من الكرملين لتجنب أخطاء الماضي، والانخراط ضمن أدوات السياسة الروسية الرامية إلى تعزيز نفوذها في الساحة الأفريقية. كما أن هزيمة فاجنر في شمال مالي قد تكون البداية لسلسلة هزائم متتالية قادمة ربما تُقوِّض الدور المهم الذي تقوم به الشركة الروسية في السياسة الروسية إزاء أفريقيا.

ومع ذلك، لن يؤثر غياب فاجنر أو تقويض دورها في الساحة الأفريقية على تحركات موسكو في القارة، فلا يزال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يراهن على أفريقيا باعتبارها ساحة استراتيجية يمكنه من خلالها مساومة الغرب على عدد من الملفات الاستراتيجية في مناطق التنافس المختلفة لا سيما أزمة أوكرانيا. إضافة إلى تعظيم مصالح موسكو الحيوية هناك بما في ذلك الاستيلاء على الموارد والثروات الأفريقية.


[1]. Chinedu Asadu and Sam Mednick, Russia’s Wagner has deadliest loss in Africa’s Sahel, highlighting the region’s instability, Associated Press, 29 July 2024, accessible at: https://tinyurl.com/4cdbpcsk

[2]. Shaun Walker, Ukraine military intelligence claims role in deadly Wagner ambush in Mali, The Guardian, 29 July 2024, accessible at: https://tinyurl.com/48z5njbw

[3]. Todd Prince, Wagner's Bloody Mali Debacle Shows Cracks In Russia's Sahel Strategy, Radio Free Europe, 30 July 2024, accessible at: https://tinyurl.com/5c85xej5

[4]. Jason Burke, Russian mercenaries behind slaughter of 500 in Mali village, UN report finds, The Guardian, 20 May 2024, accessible at: https://tinyurl.com/2ebaxhpts