عكست الفترة الماضية وحتى فجر اليوم (31 يوليو 2024) بالإعلان عن اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، نشاطاً مكثفاً لعودة سياسة الاغتيالات التي دأبت إسرائيل على اتباعها ضمن استراتيجيتها لردع الخصوم على مدار العقود الماضية، وكان من أبرزها عملية اغتيال زعيم حركة حماس ومؤسسها الشيخ أحمد ياسين في مارس 2004. بينما جاءت عمليات الاغتيال الأخيرة التي استهدفت قيادات الصف الأول لحركة حماس اتساقاً مع ما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 22 نوفمبر 2023، بتوجيهه الموساد بالعمل ضد قادة حماس، بما في ذلك خارج غزة. ومن ثم، تفرض هذه العمليات حسابات جديدة معقدة بشأن مجريات الحرب في قطاع غزة وفقاً للقواعد الجديدة التي رسمتها تل أبيب عبر هذه العمليات، على نحو يفرض الحاجة لفهم مآلات التصعيد المحتمل وفقاً لحسابات حركات المقاومة الفلسطينية وكذلك الحسابات الإسرائيلية.
حسابات المقاومة الفلسطينية
جاءت عملية استهداف شخصية قيادية وازنة مثل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، والذي كان يمثل الحركة في جولات التفاوض طيلة الفترة الماضية، لتفرض حسابات جديدة تواجهها الحركة في الوقت الراهن، خاصة فيما يتعلق بمنهج التعامل مع مجريات الحرب في قطاع غزة، ومسار المفاوضات التي تم استئنافها مؤخراً، هذا فضلاً عن حسابات ردها على هذه العملية، وذلك وفقاً للنقاط التالية:
1- إعادة ترتيب الأوراق وتحييد الأثر التنظيمي للعملية: سيكون مطلوب من الحركة كتحرك أولي إعادة ترتيب أوراقها وتنظيم صفوفها وملء الفراغ الذي خلّفه اغتيال إسماعيل هنية، وإن كانت هذه المسألة تواجه بعض التحديات المرتبطة بالحرب الجارية في الوقت الراهن في قطاع غزة، حيث تتطلب عملية اختيار رئيس للحركة وفقاً للقواعد المنظمة داخل الحركة، أن تتم من خلال مجلس الشورى المركزي، الذي يتألف من قيادات الحركة من مختلف المناطق، وعادة ما يتم الاختيار بناءً على التوافق الداخلي والتصويت. وبالتالي، قد تلجأ الحركة لاختيار أحد الشخصيات القيادية في الصف الأول -ولو بشكل مؤقت- لحين ملائمة الظروف لاتباع الإجراءات الطبيعية في الاختيار، على أن تحظى الشخصية المختارة بالقبول وتتوافق حولها قيادات الحركة داخل القطاع وخارجه، وهي مهمة ليست باليسيرة ولكنها ضرورية لتحييد الأثر التنظيمي لعملية الاغتيال، وإظهار مرونة هيكل الحركة في التعامل مع الظروف الطارئة.
2- الميل نحو "الردع الممتد" في الرد عبر وحدة الساحات: قد تميل حركة حماس في ردها على هذه العملية النوعية باغتيال رئيس الحركة إلى تفعيل مظلة "الردع الممتد" التي توفرها ساحات المواجهة الأخرى، وتحديداً الجبهة الشمالية المتوقع أن تقوم بالرد على اسرائيل نتيجة عملية الاغتيال التي تمت في 30 يوليو الجاري بالضاحية الجنوبية ببيروت واستهدفت خلالها أحد أبرز قادة حزب الله اللبناني، وهو فؤاد شكر، الذي يُشار إليه بأنه المسئول العسكري الأبرز في حزب الله، والرجل الثاني بعد حسن نصر الله، وقد يعزز من هذا التوجه القدرة المحدودة لحركة حماس للرد المتبادل بالردع على نفس مستوى الاستهداف عبر الميدان في ضوء تراجع القدرات العسكرية للحركة وخاصة القدرة الصاروخية التي كانت تعتمد عليها في الرد على مثل هذه العمليات.
أيضاً فرض الظرف المكاني لمسرح عملية الاستهداف بالعاصمة الإيرانية أن يكون هناك رد من طهران التي قد تميل هي الأخرى إلى الرد غير المباشر عبر أذرعها وخاصة حزب الله بحيث يكون رداً موحداً على اغتيال كل من شكر وهنية، ويرجح أن يكون رد في إطار "المناطق الرمادية Gray Zones" للتصعيد دون الحرب الشاملة، على غرار الرد الإيراني على استهداف القنصلية الإيرانية في سوريا في أبريل الماضي (2024)، وما أعقبه من هجمات اسرائيلية في أصفهان، والتي جاءت لتثبيت الردع وليس التصعيد لحرب شاملة. ويعزز من ذلك التزام رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بقاعدة "الإنكار المعقول للردع Plausible deniability"، والتي توفر مساحة لمرونة رد فعل الخصم وفق قواعد الاشتباك المحددة بينهما دون أن يقود ذلك لمواجهة شاملة بين الجانبين، وانعكس ذلك في إصدار مكتب بنيامين نتنياهو تعليمات للوزراء بـ "عدم التعليق على وفاة إسماعيل هنية".
3- تعليق المفاوضات وتكثيف رسائل الضغط للداخل الإسرائيلي: رغم تعامل الحركة بقدر من المرونة مع عملية الاستهداف الاسرائيلية منذ أيام قليلة، والتي كانت تستهدف بها قائد الجناح العسكري للحركة محمد الضيف، وقتل على إثرها رافع سلامة، قائد لواء خان يونس، حيث لم يعقب ذلك تعليق للمفاوضات، إلا أن عملية الاستهداف النوعي التي تمت اليوم ستدفع الحركة إلى تعليق المفاوضات، خاصة وأن رسائل هذا الاستهداف تعكس الموقف الاسرائيلي من كامل المشهد التفاوضي وسيناريوهات اليوم التالي للحرب، التي ينتصر فيها لرؤية اليمين المتطرف. وفي هذا الإطار، قد تكثف الحركة رسائل الضغط للداخل الاسرائيلي خاصة وأن هذه العملية الأخيرة تحمل مخاطرة بحياة ذوويهم من الأسرى، وتعكس عدم اكتراث من جانب نتنياهو وحكومته بحياة الأسرى، نظراً لتأثيرها الكبير على سير المفاوضات التي تمثل الأمل الوحيد في عودتهم أحياء بعد أن ثبت فشل المسار العسكري في تحريرهم، وإن نجح بشكل محدود إلا أنه في المقابل تسبب في مقتل أعداد مساوية لأعداد الأسرى المحررين.
الحسابات الاسرائيلية
عكس توالي الاستهدافات الاسرائيلية خلال الفترة الماضية، التي جاءت تزامناً مع جولات التفاوض التي تواجه تعثرات، عزم رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو على استكمال المسار العسكري، واعتماد منهج المرواغة في التفاوض لكسب الوقت والهروب للأمام من أزماته الداخلية، ورهانه على استمرار الحرب في أن تضمن له فرص البقاء في المشهد السياسي في أعقاب انتهاء الحرب الحالية، وتعزيز حظوظه الانتخابية لدى تيار اليمين المتطرف ليضمن إعادة انتخابه من جديد في أية انتخابات قادمة، وهو ما يضمن له أن يتجنب اختتام تاريخه السياسي وإرثه الذي سيتركه –باعتباره رئيس الوزراء الأطول حكماً في تاريخ الدولة العبرية– بهذه الهزيمة المذلة من جانب حركة حماس. وفيما يلي استعراض لأبرز محددات الموقف الاسرائيلي خاصة في أعقاب عمليات الاغتيال الأخيرة، وذلك على النحو التالي:
1- استمرار الضغط العسكري الإسرائيلي والترويج للنصر: يسعى الائتلاف الحكومي إلى استمرار النهج العسكري باعتباره المسار الأنجع لحسم الصراع وتحقيق "النصر الكامل" بحسب ما يروج نتنياهو، وعلى المستوى التكتيكي يروج قادة الائتلاف إلى أن الضغط المتولد من المسار العسكري يحسن وضع المفاوض الإسرائيلي ويضمن شروطاً جيدة لاتفاق التهدئة دون تنازلات. وينعكس هذا التوجه عبر الاستهدافات العسكرية التي تنفذها تل أبيب لقيادات حركات المقاومة، رغم إدراكها بتأثير ذلك السلبي على مسار المفاوضات وعملية التهدئة في الإقليم. ويأتي ذلك أيضاً اتساقاً مع سعيها لإعادة ترميم معادل الردع خاصة فيما يتعلق بتعزيز القدرة على الاستهداف النوعي والمصداقية في الردع، وذلك ارتباطاً بالعملية التي كانت قد أعلنتها في نهاية العام الماضي تحت مسمى "نيلي" (اختصاراً لعبارة توراتية بالعبرية تعني "إسرائيل الأبدية لن تكذب") لاستهداف كبار قادة حماس، والتي أعقب الإعلان عنها تنفيذ عملية اغتيال القيادي بحركة حماس، ونائب الأمين العام للحركة، صالح العاروري، الذي تم استهدافه بالضاحية الجنوبية ببيروت في 2 يناير 2024، وما تلاها من استهدافات متوالية. ومن ثم، يستهدف الائتلاف عبر هذه العمليات تأكيد جدوى الاستمرار في الضغط العسكري باعتباره المسار الوحيد الذي يقود لتحقيق أهداف الحرب من حيث هزيمة حركة حماس (عسكرياً وسياسياً)، وتحرير الأسرى، دون تقديم تنازلات تمثل إذعاناً بالهزيمة لصالح حماس.
2- ضغط أحزاب الائتلاف المتطرفة لرفض التفاوض: لا تزال مواقف الأحزاب المتطرفة في الائتلاف تعارض توقيع اتفاق من شأنه إيقاف الحرب، بل وسعت إلى تفخيخ أية اتفاقات، برفع سقف مطالبها وخطوطها الحمراء للانسحاب من الائتلاف، فإلى جانب هزيمة حركة حماس، قامت بإضافة شروط جديدة تتمثل في ضرورة عدم الانسحاب من معبر رفح ومحور فيلادلفيا، وهو ما عبرت عنه تصريحات عدد من قادة الأحزاب المتطرفة، ومن أبرزهم بتسلئيل سومتريتش، الذي أكد في 22 يوليو 2024، في تصريحات له موجهة لنتنياهو بعدم التوقيع على الصفقة ومواصلة تعزيز الضغط العسكري على حماس بهدف تحقيق كافة أهداف الحرب، كما هاجم قادة الأجهزة الأمنية بسبب موقفهم المؤيد لصفقة "غير شرعية" بحسب وصفه. أيضاً كانت وزيرة المستوطنات الاسرائيلية من حزب "الصهيونية الدينية" أوريت ستروك قد هددت، في 16 يوليو 2024، خلال زيارتها إلى معبر كرم أبو سالم بإسقاط الحكومة إذا انسحب الجيش من محور فيلادلفيا ومحور نيتساريم.
ويتلقف نتنياهو هذه التصريحات بالرفض ليبعث من جانبه برسائل طمأنة لشركائه، ليوسع هامش مناورته ومراوغته في التعامل مع بنود اتفاق وقف إطلاق النار، حيث أعلن في 12 يوليو 2024، عن "خطوط حمراء" لكي توافق إسرائيل على مقترح الصفقة، تتمثل في الحرية في استئناف العمل العسكري ضد حركة حماس، والحفاظ على الوجود العسكري واستمرار سيطرة الجيش الإسرائيلي على محور فيلاديلفيا على الحدود وعلى معبر رفح، وهي شروط يعلم جيداً الرفض المتوقع من جانب حركة حماس لها. وبالتالي، يعيد المسار التفاوضي من جديد إلى حالة الجمود، وهو النهج ذاته الذي اتبعه خلال جولات التفاوض الماضية.
3- الحسابات الشخصية لنتنياهو وحزبه: تتلاقى هذه المواقف الرافضة لشركاء نتنياهو في الائتلاف مع رغباته الشخصية وحزبه خاصة في ظل تنامي الإدراك لديهم بخسارتهم الكبيرة في أية انتخابات قادمة إذا لم يتحقق الانتصار الذي يمكن معه تجاوز إخفاقات 7 أكتوبر 2023 التي بدأت ملامحها تتكشف على إثر صدور تقرير أولى خلال الأيام الماضية يتضمن جزءاً من نتائج التحقيق في أحداث 7 أكتوبر 2023. وعلى الرغم من تعويل البعض على هذه التحركات من جانب المستوى العسكري بإخراج بعض التقارير الأولية التي تؤكد إخفاقات التعامل مع الأحداث، والتي من شأنها أن تزيد الضغط على الائتلاف الحكومي للإقرار بمسئوليته عن الإخفاق، وبالتالي إبداء المرونة في التعامل مع المسار السياسي لإطلاق سراح الأسرى، إلا أن هذه التحركات تصدر إشارات عكسية لقادة الائتلاف بضرورة استكمال المسار العسكري حتى موعد إجراء الانتخابات في 2026، تعويلاً على أن تتغير المعادلة لصالحهم عبر تحقيق ما يعتبرونه "إنجازات" تكتيكية تتجدد معها شرعيتهم بشكل مؤقت، على غرار عمليات الاغتيال التي تقوم بها إسرائيل والعثور على جثث الأسرى، وهو ما يكسبهم بعض الوقت للوصول إلى نقطة الانتصار التي يمكن ترويجها داخلياً لقاعدة ناخبيهم من اليمين المتطرف.
ويعكس هذا التوجه تصريحات عضو حزب الليكود البارز ووزير الثقافة والرياضة ميكي زوهار في مقابلة بتاريخ 11 يوليو 2024، أكد خلالها أن "تفكك الائتلاف الذي سيقودنا إلى انتخابات سنجد أنفسنا في النهاية في المعارضة لسنوات عديدة قادمة، هذا واضح تماماً، لا يوجد عنصر الخوف من الانتخابات هنا، ولكنه عنصر من الواقع"، مضيفًا: "إن كل من يدعو إلى الانتخابات يتصرف بشكل غير صحيح". يعكس هذا التصريح حقيقة كون هذا الائتلاف يتعامل مع الحرب الحالية ضد قطاع غزة بمنطق إدارة حملة انتخابية يستهدف من خلالها تعظيم مكاسبه السياسية، التي يمكن أن يجنيها إذا ما استمرت هذه الحملة، ولم يذهب إلى مرحلة الصمت الانتخابي التي لم يستعد لها بعد.
4- حسابات الموقف الأمريكي: مع إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن انسحابه من خوض الانتخابات الرئاسية القادمة في 5 نوفمبر 2024، وترشيح بدلاً عنه نائبته كمالا هاريس، يرى المراقبون أن هذا التغيير من شأنه أن يؤثر على أجندة أولويات الإدارة الحالية خاصة فيما يتعلق بالقضايا الخارجية وفي مقدمتها الحرب الاسرائيلية ضد قطاع غزة، من ناحية عدم التعويل على التسريع بعقد اتفاق لوقف إطلاق النار يسمح بدفع جهود توقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع السعودية، والتي ستتراجع لصالح الاهتمام بقضايا الداخل التي سيكون معنياً بها بشكل أكبر الناخب الأمريكي، وبالتالي، سيتضائل تأثير الموقف الأمريكي المتصور أن يقوم به الرئيس الأمريكي جو بايدن، وهو ما كشفت عنه كواليس زيارة نتنياهو لواشنطن خلال الأيام الماضية، وما جرى أثناء لقاءاته بالرئيس الأمريكي ونائبته، فرغم خروج التقارير التي أكدت مطالبة الطرفين نتنياهو بضرورة اتمام صفقة التهدئة، وإن كانت لغة الخطاب من جانب هاريس أشد في حدتها من بايدن، إلا أنه عاد ليعكس التأثير الهامشي لهذه المطالبات، وإظهار بدلاً من ذلك رهانه وتعويله على مراعاة الخطوط الحمراء التي وضعها له شركاؤه في الائتلاف، من ناحية ضرورة استكمال الحرب وهزيمة حركة حماس عسكرياً وسياسياً وإنهاء حكمها في القطاع. إلى جانب تأكيد رفض الرؤية الأمريكية التي تقوم على أهمية خيار "حل الدولتين" ضمن سيناريوهات اليوم التالي للحرب في قطاع غزة، ولذلك جرى الترتيب بأن يتم التصويت خلال الفترة الماضية من جانب الكنيست الإسرائيلي برفض إقامة دولة فلسطينية، قبل موعد زيارته لواشنطن بأيام قليلة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه الحسابات وإن كانت تسير في صالح الجانب الاسرائيلي، إلا أن تحولات المشهد الإقليمي من ناحية تصاعد الصراع واحتمالية انجرافه إلى مواجهة إقليمية واسعة ستتورط فيها واشنطن، قد تدفع الرئيس الأمريكي جو بايدن ونائبته للضغط على نتنياهو بالوصول إلى صيغة تهدئة ولو مؤقتة يتم خلالها تبريد ساحات المواجهة المتعددة، على الأقل حتى موعد إجراء الانتخابات، إلا أن مرونة الحكومة الاسرائيلية في التجاوب مع هذا الضغط قد تكون محدودة إذا كانت تخطط لممارسة الضغط على الإدارة الحالية عبر التصعيد الراهن لتعزيز حظوظ وفرص مرشحها المفضل الرئيس السابق دونالد ترامب في الانتخابات القادمة.
ماذا بعد؟.. هل يقترب اليوم التالي للحرب في غزة أم يبتعد؟
في ضوء ما جرى خلال الأيام الماضية من مياه كثيرة في اتجاهات مختلفة حول الحرب الجارية في قطاع غزة ومسار المفاوضات، على نحو تتأرجح معه الإشارات الصادرة ما بين السلبي والإيجابي الذي يجعل المتأمل للأحداث يعتقد تارة بأنه قاب قوسين أو أدنى من اتفاق لوقف إطلاق النار ويكون تمهيداً للإعلان عن إيقاف هذه الحرب المستعرة منذ عشرة أشهر، وتارة أخرى، يجد أن التفاعلات الحادثة كالذي يسير في مكانه ولا يبارحه، أصبح مسار ما بات يعرف بـ "اليوم التالي" للحرب يتسم بنوع من الغموض.
ويمكن القول إن الذي يقود عامل الإيهام هذا هو الطرف الإسرائيلي الذي يعتمد مبدأ "المراوغة وعدم الحسم". ففي الوقت الذي يعكس مرونة تجاه مسار التفاوض ليرسل من خلالها رسائل طمأنة لأهالي الأسرى في الداخل ويخفف الضغط الخارجي، يعود مرة أخرى، أثناء سير التفاوض، ويفخخه بعراقيل يُدرك صعوبة دفع مسار التفاوض معها مثل عمليات الاغتيال التي قام بها خلال الفترة القليلة الماضية واستهدف خلالها قيادات عسكرية وازنة داخل القطاع وقيادات سياسية تقود المفاوضات من الخارج، ليعكس رغبته الحقيقية في استمرار الحرب وكسب الوقت الذي يُبقي الائتلاف الحكومي أطول فترة ممكنة للوصول إلى نقطة الانتصار التي يمكن ترويجها في أوساط الجمهور اليميني تمهيداً لأية انتخابات محتملة بعد الحرب.
وفي هذا الإطار، يمكن طرح بعض السيناريوهات التي ستكون حاكمة للموقف الاسرائيلي خلال المرحلة القادمة، والتي سيترشد معها عنصر الإيهام بالتفاؤل أو التشاؤم بشأن مسار التفاوض والإجابة حول ما إذا كنا نقترب من اليوم التالي للحرب أم نبتعد عنه، وذلك على النحو التالي:
1- استمرار حالة اللاسلم واللاحرب مع الاستهدافات التكتيكية: تعكس متغيرات السياق الراهن ميل الائتلاف الإسرائيلي بقيادة نتنياهو إلى اعتماد حالة "اللاسلم" وحالة "اللاحرب بالمفهوم الواسع" خلال الفترة المقبلة من أجل ضمان استمرار وبقاء الائتلاف حتى موعد إجراء الانتخابات في 2026، تعويلاً على استمرار الحرب لتحقيق أهدافها المرتبطة بهزيمة حماس وتحرير الأسرى، وفي هذه الأثناء سيعمل الائتلاف على تحقيق ما يعتبره "إنجازات" تكتيكية تعزز شرعية المسار العسكري الذي تصر عليه تل أبيب من خلال القيام باستهدافات لقادة حركة حماس واستنزاف قدراتها العسكرية والبشرية، بالإضافة إلى فرض مزيد من الضغط المحلي من جانب المواطنين الفلسطينيين ضد الحركة الذين تعكس نتائج استطلاعات الرأي التحول النسبي في مواقفها، وحدوث انقسام حول دعم وتأييد حركة حماس، فوفقاً لنتائج استطلاع رأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، نشر في 10 يوليو 2024، فإن المزيد من سكان غزة يعتقدون أن حماس لن تكون هي القوة الحاكمة في المستقبل، حيث قالت نسبة من سكان قطاع غزة بلغت النصف أن حماس ستعود للسيطرة على قطاع غزة، فيما قالت نسبة من سكان قطاع غزة فاقت النصف بقليل أنها تفضل عودة حماس مقابل حوالي الثلثين في الضفة الغربية. في حين قال أكثر من ربع سكان قطاع غزة أنهم يفضلون قيام سلطة فلسطينية جديدة برئيس وبرلمان وحكومة منتخبين.
2- مزيد من التنازلات من جانب حركة حماس لعقد "اتفاق جزئي وليس شاملاً": قد يذهب الائتلاف الإسرائيلي إلى عقد اتفاق جزئي على غرار الهدنة التي تم الوصول إليها في الشهور الأولى للحرب في نوفمبر الماضي بحيث تكون شروطها متمثلة في إطلاق سراح أسرى إسرائيليين في مقابل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، مع الاحتفاظ بحق الجانب الاسرائيلي في الاعتراض والتعديل على قائمة أسماء الأسرى الفلسطينيين خاصة من أصحاب المؤبدات، دون أن يشتمل هذا الاتفاق على وقف كامل لإطلاق النار، وقد تعوّل تل أبيب في الوصول إلى هذا السيناريو على تحولات السياق الراهن، والتي قد تدفع حركة حماس -بحسب التصورات الإسرائيلية- لإعادة النظر في شروطها وتقديم مزيد من التنازلات بشأن صفقة التهدئة تحت وطأة الضغط المحلي لسكان القطاع، فضلاً عن الضغط العسكري الذي تقوم به إسرائيل باستهدافها لقيادات الحركة، بالإضافة إلى تحولات مواقف الدعم الإقليمي والغربي، وخاصة تحولات المشهد في السباق الانتخابي الأمريكي، وتأثير ذلك على شكل الدعم لإسرائيل خاصة في ظل تعويل تل أبيب على أن تأتي الانتخابات بالرئيس السابق دونالد ترامب المعروف بمواقفه الداعمة لإسرائيل ومعه هذه المرة نائبه الجديد جيمس ديفيد فانس المتطرف في دعمه لإسرائيل.
3- القبول بمقترح هدنة يحمل تنازلات مشتركة: قد تقود حالة التصعيد الحالية على الجبهات المختلفة في لبنان واليمن والمرشحة للانزلاق نحو مواجهة إقليمية شاملة متعددة الجبهات، إلى جانب تزايد الضغوط من جانب المعارضة الإسرائيلية وأهالي الأسرى والنازحين الإسرائيليين، إلى فرض مزيد من الضغط على الائتلاف ودفعه للقبول باتفاق تهدئة، في إطار تسوية إقليمية، لتهدئة الجبهات، ويتم خلاله إبداء الطرفين قدراً من المرونة بشأن الشروط الموضوعة، بحيث يتم مراعاة مطالب حركة حماس، التي ستكون مطالبة بإبداء المرونة لإجراء تعديلات حولها، وفي نفس الوقت يراعي التزامات الإذعان لنتنياهو تجاه الأحزاب المتطرفة في الائتلاف لضمان استقرار الائتلاف، وقد يقدم الائتلاف على الانخراط في هذه العملية دون الإقرار بأية التزامات مكتوبة تقوده لضرورة استكمال كافة مراحل الاتفاق بحيث يكتفي فقط بالمرحلة الأولى المقررة بستة أسابيع وفقاً لبنود الاتفاق المعلنة ودون أن يعكس في نفس الوقت سوء النية بعدم استكمال الاتفاق، وبالتالي من المتصور أن يتعامل الائتلاف مع هذا السيناريو في حال إذا ما أقدم عليه باعتباره سيناريو تكتيكياً لإعادة ترتيب الأوراق وتخفيف الضغط.
إجمالاً، تقود متغيرات السياق الراهن من ناحية حالة عدم اليقين التي تكتنف مواقف أطراف الأزمة، بل وامتداد هذه الحالة إلى مواقف بعض الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة، إلى أن تجعل مسارات التصعيد التي ستؤثر بدورها على سيناريوهات اليوم التالي للحرب في قطاع غزة، مفتوحة على كافة الاحتمالات، بيد أن الموقف الإسرائيلي سيكون أكثر ميلاً للجمع بين السيناريو الأول والثاني المرتبط بفرض الأمر الواقع فيما يتعلق بالشروط الاسرائيلية للقبول باتفاق تهدئة مؤقتة وليس شاملة، بحيث يكون البديل استمرار الوضع الراهن من ناحية حالة اللاسلم واللاحرب واستمرار السيناريو الاستنزافي للحركة داخل القطاع، مع تحييد جبهات المواجهة الإقليمية أو خفض تأثيرها إلى الحد المقبول وفق قواعد الاشتباك المحددة، بحيث لا تشكل عامل ضغط خارجياً على تل أبيب. وفيما يتعلق بضغوط الجبهة الداخلية، يتنامي الإدراك لدى قادة الائتلاف بقدرتهم على التحكم في مجريات الأمور فيما يتعلق بفرض الأمر الواقع على الداخل والترويج للمسار العسكري، هذا فضلاً عن الاعتماد على التدخل الأمريكي بتعزيز مظلة "الردع الممتد" لمنع جبهات المواجهة الإقليمية من الإقدام على سيناريو تصعيدي يقود إلى حرب إقليمية واسعة، وبالتالي، إدارة الرد المتوقع من جانب هذه الجبهات على عمليات الاستهداف الأخيرة يرجح أن يكون وفقاً للمناطق الرمادية للتصعيد دون الحرب الشاملة التي ستكون محكومة بمعادلة صفرية ترتفع معها تكلفة الضرر لكافة الأطراف، وهو ما قد يجعلنا أمام استحضار مشهد جولة التصعيد والمواجهة المباشرة التي شهدتها إيران واسرائيل في شهر أبريل الماضي وانتهت بضربات محدودة عملت على تثبيت الردع وليس تصعيده لمستوى الحرب الشاملة.