السيد صدقي عابدين

باحث في العلوم السياسية - متخصص في الشئون الآسيوية

 

في 23 يوليو 2024، أعلن من بكين عن مصالحة بين الفصائل الفلسطينية بعد ثلاثة أيام من المفاوضات. توقيت الإعلان عن المصالحة لا يخلو من دلالات ليس فقط فيما يتعلق بالواقع الفلسطيني على الأرض، وإنما بموقف الصين من هذا الواقع. فهل كان هذا هو السبب الوحيد لكي تخرج المصالحة هذه المرة من بكين؟

إذا كانت المصالحة الفلسطينية هذه المرة مختلفة من حيث ظروف المشروع الوطني الفلسطيني برمته، وإذا كانت قد جاءت من مكان غير معتاد، فإنها قد اختلفت أيضاً من حيث التزامات راعي المصالحة الرئيسي ممثلاً في الصين، حيث جاء كلام وزير خارجيتها وانج يي واضحاً فيما يتعلق بمَن سيحكم غزة بعد الحرب.

في أي سياق يمكن فهم وتفسير النجاح الصيني في رعاية مباحثات المصالحة الفلسطينية، وما هي أبرز دلالات هذا النجاح؟، ومن ثم ما الذي ينتظر من الصين على صعيد القضية الفلسطينية بعد اتفاق المصالحة؟

المنظور الصيني للمصالحة الفلسطينية

لا يمكن فصل منظور الصين للمصالحة الفلسطينية عن مجمل رؤيتها لتاريخ القضية الفلسطينية وحاضرها وكذلك مستقبلها. والعنوان الأبرز لتلك الرؤية على مدار تاريخ القضية الفلسطينية هو التأييد الصيني للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. ومن هذه الحقوق حق تقرير المصير، وحق إقامة الدولة المستقلة على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. ومما يميز الموقف الصيني الاستناد إلى المرجعية الدولية ممثلة في قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. ومن ثم فقد أسهمت الصين بتوضيحات قانونية مهمة في القضية الخاصة بطلب فتوى من محكمة العدل الدولية من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص "ما هي الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها الطويل الأمد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 واستيطانها وضمها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعات تمييزية في هذا الشأن؟، كيف تؤثر سياسات إسرائيل وممارساتها المشار إليها على الوضع القانوني للاحتلال وما هي الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة؟". وقد شاركت الصين في المرافعات أيضاً مؤيدة انعقاد الاختصاص القانوني للمحكمة بهذا الخصوص ومتصدية بالتفنيد للحجج التي سيقت لسلب المحكمة القيام بدورها في هذه القضية.

من ثم كان من الطبيعي أن ترحب الصين بالفتوى التي أصدرتها المحكمة في 19 يوليو 2024، مطالبة بأن يتم تنفيذ ما تضمنته. كما أنها كانت قد طالبت بتنفيذ ما أصدرته محكمة العدل الدولية في الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بخصوص ممارسة الإبادة الجماعية في غزة.

وفيما يتعلق بما يحدث في غزة منذ 7 أكتوبر 2023، فقد طالبت الصين بالوقف الفوري لإطلاق النار، ومن ثم فقد عملت على ذلك كثيراً في مجلس الأمن. وفي الوقت نفسه، فإنها قد تصدت لمشاريع القرارات الأمريكية التي كانت ترى أن فيها مساس بقرارات الأمم المتحدة السابقة الخاصة بالقضية الفلسطينية.

من هذا المنطلق، فإن الصين تذهب إلى أن "المصالحة الفلسطينية الداخلية بالغة الأهمية لقضية إقامة دولة فلسطينية مستقلة"، كما أكد على ذلك نائب مندوب الصين الدائم في الأمم المتحدة في شهر أكتوبر 2022، وهو الشهر الذي كانت الفصائل الفلسطينية قد توصلت فيه إلى اتفاق في الجزائر، وهو ما رحبت به الصين، معتبرة أنه يصب "في صالح تعزيز الوحدة الفلسطينية الداخلية ودفع محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين".

وما حدث أنه بعد هذا الاتفاق المشار إليه عادت الخلافات الفلسطينية، كما أن محادثات السلام قد زادت تعثراً إلى أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه في أكتوبر 2023. لم تكتف الصين بما تقوم به في الأمم المتحدة تعاملاً مع ما يجري على أرض الواقع في الأراضي الفلسطينية عامة وفي غزة خاصة منذ 7 أكتوبر، وإنما تقدمت في 30 نوفمبر من العام نفسه بورقة موقف تضمنت خمس نقاط أساسية. وكان لافتاً أن البند الخامس المتعلق بإيجاد حل سياسي استناداً للقرارات الدولية قد ختم بتلك العبارة: "على أي ترتيب حول مستقبل قطاع غزة أن يحترم إرادة الشعب الفلسطيني وخياره المستقل، ولا يجوز أن يفرض عليه". وهذا ما تحدث عنه وزير الخارجية الصيني وانغ يي بشكل أكثر وضوحاً عند الإعلان عن المصالحة الفلسطينية في بكين عندما أكد على ضرورة سيادة مبدأ "الفلسطينيون هم من يحكمون فلسطين"، ومن ثم فإن الأمر واضح بخصوص الأوضاع في غزة بعد انتهاء الحرب: حكومة فلسطينية هي من ستحكم وهي من ستقوم بإعادة الإعمار.

وقد اعتبر وزير الخارجية الصيني تشكيل حكومة وفاق وطني مؤقتة أبرز نقاط اتفاق المصالحة، وأن أهم ما تم التوافق عليه في بكين العمل على تحقيق المصالحة والوحدة الشاملة بين الفصائل الفلسطينية الأربعة عشر، وأن التأكيد على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني أكثر النتائج جوهرية، وأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة حسب القرارات الدولية هي الدعوة الأقوى في اتفاق المصالحة.

في المنظور الصيني، فإن اتفاق المصالحة الفلسطينية فضلاً عن أنه يجلب الأمل للشعب الفلسطيني، فإنه يعد لبنة من لبنات "حل القضية الفلسطينية وإحلال السلام والاستقرار في الشرق الأوسط"، ومن ثم فإنه لابد أن يكون هناك رسوخ ودأب في التمسك بالمصالحة.

هذا التأكيد الصيني يتناقض كليةً مع الطرح الإسرائيلي، كما أنه لا يحظى بتوافق من بعض القوى الدولية التي تناصر إسرائيل. لكنه في الوقت نفسه متسق تماماً مع مجمل الموقف الصيني من القضية الفلسطينية وتطوراتها ومآلاتها. وبالنسبة للأخيرة، فإن بكين ترى أنها يجب أن تلتزم بضوابط القرارات الدولية.

لماذا جاءت المصالحة الفلسطينية من بكين هذه المرة؟

ربما يقال إن الظرف الخانق الذي تعيشه القضية الفلسطينية هو ما دفع الفصائل الفلسطينية إلى المسارعة بالتوصل إلى اتفاق المصالحة في بكين. وقد يكون هذا صحيحاً، لكنه لا يكفي وحده تفسيراً لكون المصالحة قد حدثت هذه المرة في بكين. فهذه الرغبة والاستعداد من قبل الفصائل الفلسطينية الأربعة عشر التي اتفقت في بكين سهّلت على صانع القرار الصيني القيام بجهوده على صعيد إتمام المصالحة. وهذه الجهود لا شك ليست وليدة اليوم، حيث أن الخارجية الصينية أعلنت في 30 أبريل 2024 عن وجود مفاوضات في بكين بين حركتي فتح وحماس، ووصفت تلك المفاوضات بالمعمقة والصريحة. ليس هذا فحسب، بل إنهما قد أحرزتا ما وصف بالتقدم الإيجابي، ومن ثم فقد تم الاتفاق على "مواصلة الحوار، والسعي لتحقيق الوحدة الفلسطينية في وقت مبكر" على حد وصف المتحدث باسم الخارجية الصينية لين جيان، وهو نفسه الذي عاد للحديث عن المصالحة الفلسطينية قبل الإعلان عن الاتفاق بشأنها بأيام واصفاً موقف بلاده بالداعم الدائم للفصائل الفلسطينية من أجل تحقيق المصالحة والتضامن عبر الحوار، ومن ثم استعداد الصين لتوفير منصات وفرص لهذا الحوار، مع التأكيد على أن جهود الصين تسير في نفس اتجاه باقي الأطراف المعنية بمسألة المصالحة، وأنها تنسق معهم حتى يتم تحقيق تلك المصالحة.

إذن، فقد التقت الرغبة والاستعداد الفلسطيني مع الإرادة الصينية في رعاية هذه المفاوضات بين مكونات حركة التحرير الوطني الفلسطينية على حد وصف الصين. وهذا الوصف في حد ذاته يحمل دلالات مهمة ضمن المنظور الصيني للمصالحة من ناحية، ومن ناحية ثانية مدى التقدير الفلسطيني لتلك الرؤية الصينية.

ليست الرغبة الفلسطينية، والاستعداد الصيني وحدهما من جعلا المصالحة تأتي هذه المرة من بكين، وإنما هناك عامل ثالث لا يقل أهمية والمتمثل في الحالة العامة للعلاقات العربية-الصينية، وهي حالة صحية. وقد كان للقضية الفلسطينية حضور كثيف في الاجتماعات الوزارية الأخيرة للمنتدى العربي-الصيني العاشر الذي عقد في بكين في 30 مايو 2024، حيث أنه فضلاً عن حضور القضية الفلسطينية في البيان الختامي للاجتماعات، فقد أصدر الجانبان بياناً مستقلاً عن القضية الفلسطينية. هذا البيان الشامل كان من بين ما تضمنه الحديث عن الموقف الصيني من وجهة النظر العربية، حيث تحدث البند الثالث عشر من البيان عن تثمين الدول العربية لما وصف بالموقف التاريخي للصين "في دعم القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف على المستوى الثنائي وفي المحافل الدولية"، وكذلك الرؤى والمبادرات المتوالية التي طرحتها الصين، إضافة إلى مناصرة الصين للحق والعدالة وما تقوم به من جهود بالنسبة لعملية السلام، فضلاً عما تقدمه من دعم للفلسطينيين لتحسين معيشتهم وتنمية اقتصادهم، وما تقوم به من أجل حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة. وقد كان هناك حضور عربي بارز عند الإعلان عن اتفاق المصالحة في بكين، كما لا يستبعد مشاركة عربية في بعض مراحل التفاوض. ومن ثم كان هناك ترحيب عربي عبر جامعة الدول العربية بهذا الاتفاق.

وهكذا، اجتمعت الرغبة الفلسطينية والرضا العربي مع الاستعداد الصيني. ومن ثم فلا يستبعد أن تكون هناك جولات من المفاوضات غير معلن عنها بين بعض الفصائل الفلسطينية أو كلها في الفترة ما بين الإعلان الأول عن وجود مفاوضات بين فتح وحماس في بكين إلى أن تم الإعلان عن المصالحة. فمن الواضح أنه كان هناك تكتم حول هذه المفاوضات حتى تصل إلى نتيجة وليس أدل على ذلك من إجابة لين جيان المتحدث باسم الخارجية الصينية في 16 يوليو 2024 أي قبل أسبوع من الإعلان عن التوصل إلى المصالحة عندما سئل عن المفاوضات فكانت الإجابة: "إذا كان هناك أي شيء لمشاركته فسننشره عند الاقتضاء".

هذا الاستعداد الصيني، فضلاً عن أنه منطلق من الأمور المبدئية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية إجمالاً، والمصالحة الفلسطينية تحديداً، فإنه منطلق أيضاً من تصور صيني واضح حول مسارات الدور الدولي للصين إجمالاً، وفي منطقة الشرق الأوسط تحديداً. وهنا، لا يمكن الفصل بين ما قامت به الصين من مصالحة بين كل من المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية في 10 مارس 2023، وما جرى مؤخراً على صعيد المصالحة الفلسطينية. إذ أن الرسالة واضحة على هذا الصعيد من حيث استمرار النهج الصيني الداعم للمصالحات والتسويات والاتفاقات عبر المفاوضات. هذا النهج الصيني لا يقتصر على منطقة الشرق الأوسط فقط، وإنما هو مطروح على الصعيد العالمي، وخاصة بالنسبة لقضايا مشتعلة مثل الحرب في أوكرانيا. ومما يجدر ذكره على هذا الصعيد، أنه كما أن للصين ورقة موقف بالنسبة للصراع في الأراضي الفلسطينية وكيفية التعامل معه، فإن لها ورقة موقف أيضاً من الصراع في أوكرانيا. وقد تصادف أن وزير خارجية أوكرانيا ديمترو كوليبا قد زار العاصمة بكين في نفس يوم الإعلان عن اتفاق المصالحة الفلسطينية، وقد أبدى الوزير الأوكراني استعداد بلاده للتفاوض. ولا تخفى دلالة هذه الزيارة وهذا الاستعداد فيما يتعلق بالرؤية الأوكرانية لما يمكن أن تقوم به الصين من دور على هذا الصعيد.

بالعودة إلى اتفاق المصالحة، يلاحظ أنه قد جاء بعد خمسة أيام من اتخاذ الكنيست الإسرائيلي قراراً بعدم السماح بقيام دولة فلسطينية، وقبل يوم من إلقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لخطابه في الكونجرس الأمريكي، والذي لم يأت على أي حديث حول عملية السلام. ولعل العنوان الذي تناولت فيه صحيفة "واشنطن بوست" موضوع المصالحة في بكين لا يخلو من دلالة على هذا الصعيد عندما وصفت الأمر بأنه محاولة للقيام بدور الوسيط العالمي.

الصين والقضية الفلسطينية: ماذا بعد اتفاق المصالحة؟

قد يكون السؤال الأولى بالطرح هنا هو: هل انتهى دور الصين بالنسبة لعملية المصالحة بمجرد الإعلان عن الاتفاق بشأنها؟، ومن ثم ما هي الضمانات لئلا يكون مصير هذا الاتفاق كسابقاته من اتفاقات المصالحة؟، وماذا عساها أن تفعل الصين لكي تحول دون ذلك؟. ما يدعو لطرح هذه التساؤلات أن هناك أطرافاً لا تريد لمثل هذه المصالحة والوحدة الفلسطينية أن تتواصل. وعلى رأس هذه الأطراف إسرائيل التي باتت تنكر بشكل رسمي أي حقوق وطنية فلسطينية، وتتنكر لكل الاتفاقات السابقة. وقد كان وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس واضحاً عندما اعتبر أن اتفاق المصالحة الذي جرى في بكين سيبقى حبراً على ورق، مما يعني الرفض الإسرائيلي لبنود الاتفاق، فضلاً عن الرفض المبدئي لتلك المصالحة.

على العكس من هذا الموقف، فإن وزير الخارجية الصيني يانغ يي اعتبر أن قضية التحرر الوطني الفلسطيني لن يكتب لها النجاح "إلا بالمضي قدماً إلى الأمام كتفاً بكتف"، كما أنه أعرب عن ثقته في تمكن الفصائل الفلسطينية من "توحيد الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني"، ليس هذا فحسب بل وتعظيم القوة الفلسطينية الشاملة، والنجاح في نيل فهم ودعم دولي أكبر ومتزايد. ولعل الواقع يشهد بذلك فعلا سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، وأن تنحية الخلافات والعمل بروح الفريق في ظل أرضية مشتركة من شأنه أن يقدم "أقوى ضمان للقضية الوطنية العادلة لفلسطين".

وقد اعتبر الوزير الصيني أن الثقة والتحرك التدريجي إضافة إلى التحكم في اتجاه الحركة تعد مفاتيح أساسية للمصالحة الفلسطينية. وعلى ذلك، فإنه "لا يمكن أن تتقدم عملية المصالحة بثبات وتترسخ الوحدة والتضامن بين الفصائل الفلسطينية، إلا بمواصلة بلورة توافقات وتطبيقها على أرض الواقع". يضيف الوزير الصيني شرطاً آخر لكي تنجح المصالحة الفلسطينية متمثلاً في وجود دعم دولي لتلك المصالحة. وقد أكد على استعداد بلاده للتنسيق مع الأطراف الدولية المعنية والمؤيدة للمصالحة حتى يتم تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في بكين.

ومرة أخرى، فإن كل هذا قد لا يوفر ضمانة لكي يتم تنفيذ بنود اتفاق المصالحة الفلسطينية، خاصة في ظل تضمنه من بنود تتعلق بالصراع الدائر في غزة وما بعده. والواقع أن الموقف الصيني كان قوياً في مجلس الأمن منذ البداية ليس فقط فيما يتعلق بوقف إطلاق النار وإيصال المساعدات، وإطلاق سراح الأسرى، وإنما كذلك في إطار النظرة الشاملة لما يفرضه الصراع من تداعيات إقليمية خطيرة، وكذلك ضرورة معالجة الظلم التاريخي الواقع على الفلسطينيين ونيل حقوقهم المشروعة. وفيما يتعلق بالمفاوضات التي تراوغ إسرائيل كثيراً فيها، فإن بكين عبّرت عن استياء واضح من ذلك عندما أكدت بعد ثلاثة أيام من توقيع اتفاق المصالحة ومن على منصة مجلس الأمن الدولي، أن المفاوضات بخصوص الصراع في غزة "يجب أن لا تستمر إلى ما لا نهاية"، خاصة وأن هناك كارثة إنسانية وصفتها بغير المسبوقة والمستمرة في التفاقم في ظل مقتل حوالي 40 ألف فلسطيني، وأن الحاجة ملحة للتخفيف من هذه الكارثة في أسرع وقت ممكن. كما أنها أكدت أن هناك تجاوزاً متواصلاً لما اعتبرته خطوطاً حمراء لكل من القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني في غزة. فضلاً عن أن قرار مجلس الأمن الخاص بوقف إطلاق النار رقم 2735 لم يتم احترامه من قبل إسرائيل. ولم تكتف الصين بمطالبة إسرائيل بضرورة وقف عملياتها العسكرية فوراً، وحث الولايات المتحدة على ممارسة ضغط أكبر على تل أبيب من أجل تحقيق ذلك، وإنما ذهبت إلى ضرورة قيام مجلس الأمن باتخاذ إجراءات إضافية.

ومع الإعلان عن اتفاق المصالحة، قدّمت الصين مقترحاً من ثلاث خطوات للتعامل مع الصراع الدائر. الخطوة الأولى، تتمثل في وقف شامل ودائم ومستدام وسريع لإطلاق النار في غزة، مع ضمان الوصول السلس للمساعدات والإغاثة الإنسانية. الخطوة الثانية، عمادها مبدأ "حكم فلسطين من قبل الفلسطينيين" بحيث تشكل "حكومة توافق وطني مؤقتة تمارس الإدارة الفعّالة في قطاع غزة والضفة الغربية". وهذا المسعى يجب أن يلقى دعماً دولياً. وعلى ضوء الواقع المأساوي في غزة، فإن المهمة الأكثر إلحاحاً هي بدء عملية إعادة الإعمار. كل ما تضمنته هذه الخطوة جاءت تحت عنوان "الدفع سوياً بالحوكمة ما بعد الصراع في غزة".

أما الخطوة الثالثة، فعنوانها "الدفع بنيل فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة وبدء تنفيذ حل الدولتين". إذ تذهب الصين إلى أن عدم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة هو سبب دوامة الصراع، ومن ثم فإنها تطالب بضرورة عقد مؤتمر دولي للسلام، على أن تكون المشاركة فيه أوسع، وأن يكون ذا مصداقية أكبر، وفعالية أكثر. ليس هذا فحسب بل وأن يكون هناك جدول زمني وخارطة طريق وصولاً إلى حل الدولتين.

هذه الصفات والمتطلبات التي وضعتها الصين بالنسبة للمؤتمر الدولي للسلام ليس من السهل تحقيقها، وتحتاج إلى جهود متواصلة ليس من الصين وحدها حتى يتم عقد مثل هذا المؤتمر، ومن ثم رعاية المباحثات فيه، وبعد ذلك العمل على تنفيذ مخرجاته خاصة على ضوء الخبرة السابقة التي تبخرت معها كل الاتفاقات وخرائط الطريق والجداول الزمنية.

في الختام، من الواضح أن الاهتمام الصيني بالقضية الفلسطينية متواصل، ومن الواضح أن الموقف الصيني المؤيد للحقوق الفلسطينية متواصل. كما أن الصين لا تكتفي بذلك وإنما تواصل تقديم المبادرات. وها هي ترعى اتفاقاً للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية، لكن يبقى السؤال: هل ستنجح المساعي الصينية في ظل سخونة الصراع على الأرض وتعقده وتشابك أبعاده من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية في ظل الموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل؟.

 الصين أول من يدرك أن الحل أو التسوية تحتاج إلى توافق دولي. والمشكلة أن الواقع يشي بتنافر دولي ليس فقط فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وإنما أيضاً فيما يتصل بأوكرانيا، وفي غيرها من القضايا. فالولايات المتحدة وحلفاؤها باتوا ينظرون إلى الصين على أنها مصدر تهديد، ومن ثم فإنهم يعملون على التصدي لها، وهم يرون أن تحركاتها الخارجية تهدف إلى تغيير ما يسمونه بالنظام الدولي القائم على القواعد. وفي هذا السياق، تثار قضايا من قبيل فخ الديون، والقدرة الإنتاجية المفرطة، وعدم الشفافية في الإنفاق العسكري، وتضخم القوة العسكرية بما فيها غير التقليدية، ودعم روسيا في حربها في أوكرانيا، وغير ذلك من التهم الكثير بما فيها التنمر على الجيران. وفي المقابل، تتهم الصين الولايات المتحدة بأنها تصب الزيت على النار ليس فقط في غزة وأوكرانيا وإنما كذلك في بحر الصين الجنوبي.

مثل هذه الأجواء قد لا تكون في صالح القضية الفلسطينية من حيث الوصول إلى حل عادل قريب لها، لكنها مفيدة من حيث وجود قطب دولي مثل الصين مازال يتمسك بالحق الفلسطيني رغم كل هذا الجموح الأمريكي والغربي في دعم إسرائيل في عدوانها على غزة، وإمعانها في انتهاك القانون الدولي. ولا يخفى أن الموقف الروسي متميز كذلك سواء من حيث تعامله مع الصراع الراهن أو مع طريقة حل الصراع كلية. وهنا، فمن المهم على الطرف الفلسطيني والأطراف العربية التحصن بوحدة الموقف ومن ثم التنسيق مع الأطراف المتفهمة والمتفقة، مع مواصلة الضغط على الأطراف المنحازة. وفي هذا السياق، لابد من العمل على تفعيل ما يصدر عن المؤسسات الدولية من قرارات وفتاوى وإجراءات.