د. معتز سلامة

رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي العربي

 

ألقت ضربة المسيرة الحوثية (يافا) في قلب العاصمة الإسرائيلية تل أبيب في 19 يوليو 2024، وما أشارت إليه من إعداد وتجهيز عملياتي ولوجستي من جانب الحوثيين، ثم الضربة الشديدة لميناء الحديدة وما رافقها أيضاً من ترتيب عملياتي ولوجستي كبير من جانب إسرائيل، الضوء على احتمالات تطور المواجهة بين "الفاعلين المتوازين مع الدولة" في العالم العربي وإسرائيل في الفترة المقبلة، وما إن كانوا سيقدمون بديلاً لتراجع الصراع العربي الرسمي مع إسرائيل، والذي استمر طيلة العقود الماضية وانتهى بإبرام اتفاقيات سلام عربية-إسرائيلية بين دول المواجهة وإسرائيل ولاحقاً ما سمي بالاتفاقيات الإبراهيمية. وذلك يطرح التساؤلات حول حجم تأثير هذه الظاهرة الجديدة وأبعادها في الإقليم وانعكاسها على النظام الرسمي وخيارات النظام العربي في التعامل مع هذه الوضعية الناشئة والخطيرة. فبعد أعوام من المواجهات المتقطعة والمتناوبة بين إسرائيل وهذه الجماعات من الفاعلين المتوازين مع الدولة العربية، تتشكل الآن علامات وخطوط لطبيعة الصراع الراهن ومحطات المواجهة المقبلة.

الفاعلون المتوازون.. وبناء الأيديولوجيا الصراعية

يقصد هنا بـ"الفاعلين المتوازين مع الدولة" الجماعات التي حققت درجة أعلى من القوة العسكرية الداخلية في الدول العربية المأزومة بوجه خاص، مكنتها من القيام بأدوار شبيهة بأدوار الدول في مناطق وأقاليم داخلية بما أهّلها لتجاوز المسمى الشائع الذي كان يطلق على "الفاعلين من غير الدول"، حيث أن هؤلاء الفاعلين المتوازين مع الدولة لا يعترفون بالدول القائمة، أو يعترفون بها لكنهم ينسلخون عنها ويسعون لبناء شرعية خاصة بهم وأيديولوجيا صراعية ومذهبية مختلفة عن أيديولوجيا الدولة الوطنية، ويصنعون ماركة تجارية تمكنهم تدريجياً من تجاوز الصيغة الوطنية الأشمل وتقديم صيغة فرعية تتحدى الدولة وتنافسها على الأرضية الاجتماعية ذاتها وتسحب البساط من تحت أقدامها.

هؤلاء الفاعلون يقومون بكل أدوار الدولة من إدارة اقتصاد وسياسة وأمن وتسليح ودور اجتماعي محلي وبناء علاقات خارجية وغير ذلك، وأخيراً أصبح لهم علاقات وامتدادات خارجية عسكرية وأمنية تحتية ببعضهم البعض في سياق إقليمي مذهبي أيديولوجي وعملياتي مشترك تحت مسمى "وحدة الساحات"، على نحو يتجاوز قواعد النظام الإقليمي الرسمي، ويتجه لبناء نظام إقليمي أساسه التنسيق والإسناد البيني، وتقديم تعريف جديد للصراع العربي-الإسرائيلي يتجاوز مفهوم الأنظمة والدول الرسمية وخبراتها مع إسرائيل. 

من الملامح المشتركة لهؤلاء الفاعلين أنهم ينشأون بالأساس في الدول العربية المأزومة التي تشهد صراعات داخلية وتتكرس فيها الولاءات الفرعية، ولذلك انتشرت هذه الظاهرة في كل من اليمن (الحوثيين)، ولبنان (حزب الله)، والعراق (الجماعات الشيعية)، وفلسطين (حماس). وقد تشهد دول عربية أخرى هذه الظاهرة على قدر تأثيرها وطنياً وإقليمياً في السنوات المقبلة، خاصة في طرحها الأيديولوجي والعملياتي فيما يتعلق بفلسطين وإسرائيل.

من الملامح الأخرى لهذه الظاهرة ارتباطها بإيران ومذهبيتها الدينية والسياسية، فأغلبها نشأ وتطور على وقع الدعم الإيراني لها في صراعاتها مع منافسيها في الداخل، ومكن الدعم الإيراني لها من بناء حواضن وطنية خاصة اتسمت بقدر من الاستقلالية ومارست أدواراً رعائية في مناطقها وأقاليمها. ورغم طرحها منذ البداية شعارات ضد إسرائيل والصهيونية والولايات المتحدة، فإن أغلبها لم ينشأ على قناعات أيديولوجية قومية فيما يتعلق بإسرائيل وإنما شعارات مذهبية، لذلك فقد ظلت لمرحلة ممتدة بعيدة عن تنفيذ أي عمليات على الأرض ضد الدولة الإسرائيلية (الحوثيون والجماعات العراقية تحديداً)، ولكن ترسخت لديها هذه القناعات وعمقتها تدريجياً على وقع الحاجة الوطنية لصناعة أيديولوجيا مذهبية في الداخل تساعد على التماسك الطائفي وتقربها من إيران، وتالياً دفعتها التطورات نحو تعميق هذه الأيديولوجيا ودارت في فلك الصراع مع إسرائيل.

كان اندفاع هؤلاء الفاعلين نحو القضية الفلسطينية بضغط أساسي، وهو الرغبة في التوحد وزرع القابلية الوطنية في الداخل، باعتبار إسرائيل عنصر توحيد يساعد على اختراق أساسي في الولاء الداخلي، على خلاف الجماعات السنية الجهادية المتطرفة التي لم تجد لاعباً "مايسترو" إقليمياً أيديولوجياً (كإيران) ينظم حركتها ويتوجه بدعاياتها وأيديولوجياتها نحو إسرائيل، لذلك بينما تشعبت اهتمامات الجماعات المذهبية السنية ووجهت صراعاتها إلى أنظمة بلدانها وتوجه بعضها للجهاد في أفغانستان والساحات الخارجية، فقد تمكنت إيران من تدعيم البعد الداخلي لهذه الجماعات وغرس أساس الوجود المذهبي لها في الداخل، وظلت ترعاهم داخلياً وأيديولوجياً حتى أصبحوا هم أنفسهم يتحركون وفقاً لـ"وحدة الساحات" والإسناد المتبادل، وعلى نحو يبدون فيه وقد اكتسبوا قدراً من حرية وذاتية الحركة.  

كان أهم جديد في تطور ظاهرة "الفاعلين المتوازين مع الدولة" هو تمكنهم من تحقيق التنسيق المتبادل والانتقال من الصراع المتناوب مع إسرائيل إلى الصراع الكلي وفق مفهوم "وحدة الساحات"، فلم تعد المواجهات الإسرائيلية مع هذه الجماعات قادرة على ممارسة التناوب بالتقريب والاستبعاد فيما بينهم، والاستفراد بكل منهم على حدة، حيث طبق هؤلاء الفاعلون الجدد منطق الإسناد المتبادل، وهو ما اتضح حتى في تسمية المسيّرة التي ضربت إسرائيل (يافا)، والتي تم تسميتها وفقاً لاعتراف عبدالملك الحوثي زعيم الحوثيين بأن "الإخوة في المقاومة الفلسطينية هم الذين اختاروا اسم يافا على الطائرة المسيرة وأن الحوثيين اعتمدوا الإسم الذي اختاره الفلسطينيون"، وهو ما برز أيضاً في الإسناد الذي قدمته المليشيات العراقية في نفس توقيت الضربة الحوثية على تل أبيب. ولذلك لم يكن الفارق بين انطلاق العمليات الإسرائيلية في غزة عقب طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 وقرار الحوثيين بالمشاركة في المواجهة مع إسرائيل سوى أيام معدودة. الأمر نفسه مع حزب الله وإسرائيل وإن تمسك الحزب بقواعد الاشتباك، لكنه طور هجماته تالياً، وكذلك الجماعات الشيعية في العراق التي عملت كجماعات إسناد مستمرة لمختلف الجماعات والفصائل ضد إسرائيل.

وإلى حد كبير، فقد تمكنت هذه الجماعات ليس فقط من العمل المشترك تطبيقاً لوحدة الساحات، وإنما أيضاً من بناء نظام إقليمي تحتي غير رسمي له قواعده وتعاملاته الخاصة، على نحو شد الانتباه الإسرائيلي إلى الاشتباك معه بأكثر من النظام العربي الرسمي، وهو أمر يشكل انخراطاً كلياً لإسرائيل في حروب من نوعية جديدة، يصعب أن تستمر فيها بوسائلها التقليدية، فضلاً عن أن شروط الانتصار في هذه الحروب ليست هي نفسها إزاء الجيوش الرسمية، ويجد النظام العربي الرسمي نفسه إزاء خصمين كلاهما يشكل تحدياً وجودياً له.

وفضلاً عن أن المواجهة الراهنة هي مواجهة بين إسرئيل والفاعلين المتوازين مع الدولة، فإنها في أغلبها تدور في الدوائر الأوسع خلف دائرة دول الجوار المباشر لإسرائيل، والتي لديها خبرات وتجارب حربية معها على مدى العقود الماضية، ذلك أنه حتى على الرغم من استمرار الاحتلال الإسرائيلي للجولان، فإنه لا دلائل على مشاركة جماعات شيعية سورية ضد إسرائيل، رغم الوجود الإيراني في سوريا.

دلالات ضربات الحوثيين وإسرائيل

وجه الحوثيون الضربة في تل أبيب بعد مضي أكثر من عشرة أشهر على عملية "طوفان الأقصى" التي قاموا على إثرها بتهديد الملاحة في البحر الأحمر وتوجيه الضربات المتكررة إلى ميناء إيلات الإسرائيلي. وعلى الرغم من تحقيق عملياتهم أهدافها، واعتراف إسرائيل مؤخراً بتوقف ميناء إيلات عن العمل بشكل كامل بسبب الأزمة المستمرة في البحر الأحمر والضربات الحوثية، فإن إقدام الحوثيين على تطوير هجماتهم إلى عمق تل أبيب، اندفع بتفاقم الأزمة الاقتصادية في الداخل اليمني على إثر قرار البنك المركزي في عدن في 30 مايو 2024، بوقف التعامل مع 6 من أكبر البنوك اليمنية العاملة في مناطق سيطرة الحوثيين.

والأرجح أن الضربة الحوثية استهدفت تعزيز قدرات الردع وحيازة قدر أكبر من المكانة الإقليمية والضغط على الحكومة اليمنية الشرعية لتقديم تنازلات، فضلاً عن تعزيز الثقة والتماسك بين عناصر الجماعة. كما استهدفت تحقيق المواجهة المباشرة مع إسرائيل، وهو ما أشار إليه عبدالملك الحوثي، بتعبيره عن سعادته بانتقال المواجهة إلى مواجهة مباشرة، وما أسماه بـ"المرحلة الخامسة من العمليات غير المحدودة بالزمن أو بالأفق"، وانفصال المواجهة الحوثية مع إسرائيل عن الحرب على غزة، في أول مرة يعبر فيها الحوثيون عن ذلك. وتشير هذه المرحلة إلى احتمال إقدام الحوثيين ليس فقط على توسيع المواجهة مع إسرائيل، وإنما أيضاً توسيعها مع دول إقليمية، تزداد نبرتهم العدائية نحوها (على حد ما برز من خطاب زعيم الجماعة وتصريحات قادتها في الفترة الأخيرة)، بالأساس السعودية والإمارات، اللتين توقفت القيادات الحوثية عن الحديث عنهم طيلة الفترة الماضية.    

ومن جانب آخر، فإن فتح الفناء الخلفي اليمني للمواجهة مع إسرائيل ينهك الأخيرة في ضربات بعيدة ويشتت طاقاتها العدائية، في عمليات -رغم دعايتها الواسعة إلا أن عائدها العسكري والأمني والسياسي محدود-، فضلاً عن طبيعة الجغرافيا والتضاريس اليمنية، فإنه ينقل معركة إسرائيل إلى جبهة عمليات يصعب الاستمرار فيها على مدى زمني أوسع، ويجلب على إسرائيل مزيداً من السخط الدولي، في ظل وضع يمثل أسوأ الأوضاع عليها بعد قرارات محكمة العدل والجنائية الدولية، وكل ذلك يعطي إيران فسحة وقت تمكنها من تطوير استراتيجيتها وإنهاك خصمها استعداداً لحقبة ترامب الجديدة إذا فاز بالرئاسة الأمريكية. وإلى حدٍ كبير، فإن الاستراتيجية الجديدة لـ"محور الممانعة" من الفاعلين المتوازين مع الدولة، تحقق الاستراتيجية الإسرائيلية والأمريكية نفسها، والتي سبق أن طرحها البلدان في ظل إدارة الرئيس ترامب السابقة ضد إيران، وهي استراتيجية "القتل بألف طعنة"، حيث يمارس الحوثيون و"محور الممانعة" الاستراتيجية نفسها الآن ضد إسرائيل.

ويعكس حرص إسرائيل على القيام بضربة ميناء الحديدة بنفسها حاجتها هي الأخرى لتحقيق أهداف مماثلة لأهداف الحوثيين، من ناحية استعادة الردع الإقليمي والحفاظ على الهيبة والمكانة. فعلى الرغم من قطع طائراتها مسافة تجاوزت الثلاثة آلاف كيلومترات ذهاباً وإياباً للقيام بهذه العملية المعقدة لوجستياً والمكلفة مالياً، فقد حرصت على شنها بنفسها وليس من خلال حلفائها، رغم أن الضربات الأمريكية والبريطانية على مواقع الحوثيين لم تتوقف، وسبقت العملية الإسرائيلية وتلتها بساعات، وهو ما يشير إلى إدراك إسرائيلي لما ألحقته الضربة الحوثية من تآكل في هيبة الدولة ونظرية الردع. فضلاً عن ذلك حاجة إسرائيل إلى تحقيق التماسك الداخلي وتعزيز الثقة في جيشها وقدراتها العسكرية التي طالتها الشكوك. والأهم أن ما قامت به إسرائيل كان يصعب على قوات التحالف القيام به، وهو ضرب ميناء الحديدية وهو ميناء مدني تمر عبره البضائع والسلع وحاجات اليمنيين الأساسية، وهو أمر لا ترتدع إسرائيل عن القيام به، بينما يصعب على قوات التحالف الإقدام عليه لاعتبارات مختلفة.

خلاصة المشهد المستقبلي

تتمثل الخطورة الأساسية للمواجهة الراهنة ليس في حدود انعكاساتها على الحوثيين وإسرائيل، وإنما في ارتداداتها المحتملة على الإقليم؛ ففي حدود المواجهة بين الطرفين تبدو السيناريوهات محدودة، وهي تميل إلى استمرار المواجهة وحوافزها للطرفين، وهي حوافز تتضاعف على الجانب الحوثي لاعتبارات كثيرة، أهمها إدراك الحوثيين عدم قدرة إسرائيل على الاستمرار بالنمط الذي تمت به عملية الحديدة، وهو نمط مكلف مالياً وإنسانياً، ومعقد لوجستياً، وقد تترتب عليه خسائر مستقبلية إذا جرى تكراره بالشكل نفسه، خاصة مع الأنباء التي أشارت إلى أعطال فنية ولوجستية واجهها سلاح الجو الإسرائيلي خلال العملية، مع ما يرجح أن يطور الحوثيون قدراتهم من أنظمة الدفاع الجوي. ويبقى الأهم إدراك الحوثيين تراجع قدرة إسرائيل على الاستمرار في المواجهة بالنمط نفسه إذا تطورت مواجهة إسرائيل مع حزب الله اللبناني، وهو الأمر المحقق لو اتجهت المواجهات العسكرية بين الحوثيين وإسرائيل إلى مستوى أعلى.

باختصار، فإن نقطة الضعف الإسرئيلية ليس فقط في التكلفة المرتفعة لمثل هذا النمط من العمليات واحتمالات الخسائر، وإنما في تحمل مواجهة على جبهات مختلفة لفترة أطول، وهو ما يدركه الحوثيون وحزب الله وحماس والجماعات العراقية، الذين يبدو أن بينهم تنسيقاً ميدانياً واضحاً ومتكاملاً وتناقلاً للخبرات والمواقع والفيديوهات الخاصة بالداخل الإسرائيلي.

في ظل ذلك، يقف النظام العربي الرسمي في مفترق طرق؛ فلو بقى على ما هو عليه فسوف تتنامى شرعية الفاعلين المتوازين مع الدولة ومعهم إيران وتزدهر دعايتهم في المنطقة، وهو ما يخلق ضغوطاً على الدولة العربية. بالمقابل، فإن معارك هؤلاء الفاعلين قد تمهد لمعادلة ردع جديدة لإسرائيل تمكن من الضغط عليها لأجل مبادرة للسلام الإقليمي وتعيد ضبط سلوكها بالتراجع عن عقيدتها العدوانية كدولة مارقة، لكنها تسحب البساط من تحت أقدام الدولة الرسمية العربية وتشكك في جدارتها. وباختصار، فإن خيارات النظام العربي رغم أنها ليست محدودة إلا أنها محفوفة بالمخاطر، فإذا اقترب من الفاعلين المتوازين من الدولة فإن ذلك يخل بشرعيته ويدفعه للاصطدام بإسرائيل، وإذا اقترب من إسرائيل فإن ذلك يخل بشرعيته أيضاً وينهي الضغط على إسرائيل وهو ليس في يده وعد إسرائيلي بالسلام!

ويبقى الوضع العربي الرسمي إزاء خيارين:

الأول، ترك المواجهة الراهنة بين إسرائيل والفاعلين المتوازين مع الدولة إلى أقصى مدى حتى منتهاها، وهذا الخيار يحقق الهدف المزدوج بإضعاف الطرفين المعاديين للوضعية الرسمية العربية، سواء عداء وطني ضد الدولة على نحو ما يفعل "الفاعلون المتوازون" بدولهم وبدول بالإقليم، أو عداء للقضية المركزية للنظام على نحو ما تفعل إسرائيل. وهي مواجهة لا تكلف النظام العربي الرسمي الكثير، حيث تدور رحاها بعيدة عنه مادياً، وإن تضرر من بعض تفاعلاتها وانعكاساتها. فهذه الجولة من المواجهة تحقق مكاسب كثيرة للدول الوطنية العربية وللقضية المركزية، وعلى الأقل تشغل الفاعلين المتوازين مع الدولة عن صراعاتهم مع دولهم ومع دول الإقليم، وعلى جانب آخر فإنها تنهك إسرائيل في مواجهات عبثية تشتت قدراتها. وفي ظل هذا الخيار من المهم أن تتأطر حوارات عربية مع الفاعلين من غير الدول عبر قنوات خاصة، وأيضاً أن تستمر مستويات من الحوار والتلاقي العربي الرسمي مع الولايات المتحدة لضبط موازين التفاعلات وتوجيهها نحو الهدف المرجو. لكن ينبغي على دول المنطقة أن ترصد تفاعلات وانعكاسات ونهايات المواجهة الراهنة بين الطرفين جيداً، حتى تضمن ضبط انعكاساتها عليها على نحو إيجابي بما يفيد الدولة العربية. لذلك من المهم للدول العربية امتلاك رؤية أو استراتيجية مجدولة زمنياً بشأن توقيت التدخل لوقف الوضعية الراهنة، التي إذا استمرت -دون ضبط وسيطرة- يمكن أن تدفع بالمنطقة إلى تحولات استراتيجية دراماتيكية.   

والثاني، السعي لأجل تسريع التوافق على صيغة سلام إقليمي بين الفلسطينيين وإسرائيل في صفقة مع النظام العربي الرسمي، وهذا أنسب خيار يمكن إقناع الولايات المتحدة والدول الغربية به في ظل تنامي إدراك هذه الحقيقة على الصعيد الدولي، مع رؤية الجميع لمخاطر الجولة الراهنة من الصراع. لكن ذلك يتطلب وعياً غير متحقق حتى الآن على الجانب الإسرائيلي، وهو ما ينبغي السعي لأجله مع الإدارة المقبلة في البيت الأبيض، مع استثمار التأييد الدولي للموقف الفلسطيني. وعلى جانب الجماعات، يمكن للدولة العربية تقديم حوافز لإعادة بناء الدولة الوطنية في صيغ من التسويات الداخلية، للدول العربية قدرة كبيرة على إنجازها، خاصة أن بعض التسويات والهدنات توقف في منتصف الطريق. ذلك هو السبيل الوحيد لعودة الفاعلين من غير الدول عن خطهم الراهن. ومن ثم تبني استراتيجية من شقين هما التحرك لأجل اتفاق تسوية بشأن القضية الفلسطينية بضغط على الواقع الدولي. وبالتوازي مع ذلك، إنجاز صفقات وطنية داخلية في دول الأزمات تقوم على إعادة بناء الدول الوطنية، مع صيغة ما لاستيعاب الفاعلين المتوازين مع الدولة في الإطار العربي الرسمي. وقد لا يتحقق هذا الخيار الثاني أو يكون قابلاً للتطبيق إلا بعد أن يأخذ الخيار الأول مداه، فيكتسب الفاعلون المتوازون مع الدولة خبرات الدول، وتتأكد إسرائيل للمرة الأخيرة بأن نهجها الحالي لا يمكن استمراره.