فى خطوة مُفاجِئة، أعلن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان فى 8 يوليو 2024 عن رغبته فى دعوة الرئيس السورى بشار الأسد لزيارة تركيا فى أى وقت، معرباً عن عزمه المضى قدماً فى مسار تطبيع العلاقات التركية-السورية والعمل على إعادتها إلى "ما كانت عليه فى الماضى" وفقاً لتعبيره. وأتبع هذا التصريح بتصريح آخر فى 12 يوليو الجارى، قال فيه أنه وجه وزير الخارجية هاكان فيدان لاتخاذ ما يلزم فى سبيل التسريع بعملية عودة العلاقات مع دمشق فى أقرب وقت ممكن.
فى هذا السياق، ثمة أنباء متباينة عن مكان اللقاء المرتقب حال موافقة سوريا على مقابلة الخطوة التركية بمرونة إيجابية؛ فبعض تلك الأنباء تشير إلى احتمالية أن يدعو الرئيس التركى أردوغان كلاً من الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ونظيره السورى بشار الأسد لعقد اجتماع ثلاثى فى أنقرة، بينما تواردت أنباء أخرى من دمشق تفيد باحتمالية لقاء أردوغان والأسد فى دولة ثالثة قد تكون العراق، وذلك خلال الأسابيع القادمة على اعتبار أن الأخيرة تقوم بجهود وساطة مستمرة بين البلدين لدفعهما إلى إعادة العلاقات بينهما، كما تشير بعض المصادر إلى احتمالية أن يدعو الرئيس الروسى بوتين كلاً من الرئيس التركى ونظيره السورى لاجتماع ثلاثى فى موسكو مطلع سبتمبر 2024.
ويبدو أنه من الصعب قيام الرئيس السورى بزيارة تركيا باعتبارها دولة تحتل جزءاً من الأراضى السورية، حيث تشترط دمشق لعودة العلاقات البينية ضرورة انسحاب القوات التركية من مناطق الشمال السورى كخطوة أولى يتم على أساسها البدء فى مسار استعادة العلاقات من جديد، كما أن اللقاء فى العراق -رغم دوره الفاعل فى الوساطة بين الطرفين- إلا أن تركيا لا ترغب فى إعطاء مسار عودة العلاقات مع سوريا بعداً عربياً، ومن ثم يبدو أن الخيار الأكثر قبولاً هو أن يلتقى الرئيسان التركى والسورى فى موسكو حيث يتمتع الطرفان بشبكة علاقات كبيرة من المصالح والحسابات مع روسيا.
تثير دعوة الرئيس التركى أردوغان لترقية العلاقات مع سوريا بعد قطيعة دامت 13 عاماً العديد من التساؤلات حول الدوافع والأسباب التى تكمن وراء هذه الدعوة، فضلاً عن دلالة التوقيت نفسه سواء على المستوى الإقليمى أو الداخل التركى، وانعكاسات هذا الخطوة على ملفات شائكة تتوسط العلاقات التركية-السورية وعلى رأسها ملف اللاجئين السوريين، وملف المنطقة الآمنة التى فرضتها تركيا بالقوة العسكرية فى الشمال السورى، وكذلك ملف المعارضة السورية.
غياب التفاهمات المشتركة.. ودلالة التوقيت
تبدو روسيا أقرب المحطات التى يمكن أن تستضيف اجتماع عودة العلاقات التركية-السورية؛ نظراً للعلاقات الجيدة والمتميزة التى تربطها بكل من أنقرة ودمشق من ناحية، بخلاف أن مثل هكذا لقاء من شأنه أن يعيد بوصلة الاهتمام بدور روسيا فى "خفض مستوى الصراع" فى المنطقة انطلاقاً من طبيعة الخلاف بين تركيا والنظام السورى على وقع أزمة الصراع السورى المسلح قبل 13 عاماً. وهذا فى حد ذاته يصب فى صالح ملف الأزمة السورية والدور المحورى الذى تلعبه روسيا- بوتين فى هذه الأزمة. لكن يظل هذا اللقاء المرتقب رهناً لمدى تحقيق قدر من "التفاهمات المشتركة" بين أنقرة ودمشق، وحتى اللحظة لا يبدو فى الأفق أن هذه التفاهمات قد تمت، أو أنها وصلت إلى مرحلة تدفع نحو تطبيع فعلى للعلاقات بين الدولتين، إلا أن هذا لا ينفى أن ثمة تفاعلات بقدر ما تتم بين الجانبين فى الغرف المغلقة عبر الوسطاء، وهى تفاعلات تتسم بقدر كبير من الاندفاع من قبل تركيا، وبقدر كبير من الحذر والتريث من جانب سوريا.
بالتالى يصبح الهدف من اللقاء المرتقب بين الرئيسين التركى والسورى هو "وضع خارطة تفاهمات" تؤطر لكيفية البدء فى حل المشاكل العالقة بين الجانبين، حتى وإن جاء اسمها تحت مسمى تطبيع العلاقات؛ لأن إرث الخلافات البينية كبير ومتعدد القضايا، لاسيما فى ظل استمرار التواجد العسكرى التركى فى الشمال السورى، وفرضه مناطق كاملة أصبحت خاضعة لسيطرته والسماح فيها بتواجد عناصر من المعارضة المسلحة للنظام السورى التى لازالت تحظى بدعم عسكرى تركى كبير.
وتأتى أهمية هذا الخطوة بالنظر إلى أن المحادثات الثنائية-لتقريب وجهات النظر–بشأن تلك القضايا ستتم برعاية وزراء خارجية البلدين بعدما تمت لقاءات كثيرة قام بها مسئولون سياسيون وأمنيون.
أيضاً، يشير "التوقيت" الذى تم فيه الاعلان من الجانب التركى عن الرغبة فى تطبيع العلاقات مع النظام السورى إلى دلالة مهمة وهى أن أنقرة وكذلك موسكو ترغبان–انطلاقاً من مصالحهما فى سوريا– في استباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية التى ستبدأ فى نوفمبر 2024، بوضع معادلة جديدة للتفاعلات فى سوريا أمام الإدارة الأمريكية الجديدة. بما قد يدفعها إلى الانسحاب العسكرى من سوريا. هذه الرؤية الروسية لإصلاح العلاقات بين الجانبين السورى والتركى تعبر عن محاولة روسيا التأكيد على حضورها الدائم فى الشأن السورى، حتى مع انشغالها فى الحرب ضد أوكرانيا، وللتأكيد كذلك على أن التقارب التركى-السورى سيتيح الفرصة أمام أنقرة لإعطاء مهمة حماية حدود تركيا الجنوبية، من خطر الإدارة الذاتية السورية الكردية، للنظام السورى نفسه بما يعنيه ذلك من وضع الحليف المحلى للولايات المتحدة–قوات سوريا الديقراطية الكردية–بين السندان التركى والمطرقة السورية.
دوافع الموقف التركى
تشير اندفاعة أنقرة نحو تطبيع العلاقات مع دمشق، انطلاقاً من تصريحات الرئيس التركى رجب طيب أردوغان خلال شهر يوليو الجارى، إلى وجود دوافع لتأطير الخلافات والقضايا ذات وجهات النظر المتعارضة وهى:
1- قضية اللاجئين السوريين: ترغب تركيا فى العودة الآمنة والطوعية لما يقرب من 3 مليون سورى موجودين على أراضيها كلاجئين؛ نظراً لما يفرضه هذا الوجود من ضغوط كبيرة على مستوى الاقتصاد التركى الذى تعرض لأزمة اقتصادية طاحنة أدت إلى انخفاض قيمة العملة المحلية (الليرة)، وارتفاع قياسى فى مستوى التضخم، وتراجع التصنيف الائتمانى، وذلك قبل ارتفاعه مرة أخرى منتصف يوليو 2024 الجارى من قبل بعض وكالات التصنيفات الائتمانية، وذلك للمرة الأولى منذ عشرة سنوات. فضلاً عن التأثيرات التى فرضها وجود اللاجئين على المستوى الاجتماعى والتفاعل مع طبقات المجتمع التركى المختلفة، الذى بات ينظر إلى قضية اللاجئين السوريين باعتبارها سبباً مباشراً فى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التى تمر بها تركيا خلال السنوات الماضية، مما ينذر بتهديدات مباشرة لحالة الأمن والسلم الاجتماعى، لاسيما بعد الأحداث التى شهدتها بعض المناطق التى يسكنها السوريون فى تركيا (أحداث العنف الأخيرة فى مدينة قيصرى). وبالتالى، فإن تطبيعاً للعلاقات مع النظام السورى من شأنه التمهيد على الأرض لإعادة اللاجئين السوريين طوعاً إلى داخل الأراضى السورية سواء لمناطقهم، أو لبعض المناطق فى المنطقة الآمنة التى أقامتها تركيا بالقوة العسكرية فى الشمال السورى وهى مناطق عملياتها الثلاثة درع الفرات ونبع السلام وغصن الزيتون.
2- قضية الأكراد السوريين والمنطقة الآمنة: ترغب تركيا صراحة فى تقويض منطقة الإدارة الذاتية الكردية فى الشمال السورى-حزب وحدات الشعب الكردى السورى وذراعه العسكرية قوات سوريا الديمقراطية" قسد"-نظراً لارتباطها بعلاقات وثيقة مع حزب العمال الكردستانى التركى المعارض. ومن أهم أسباب حرص تركيا على إقامة المنطقة الآمنة (ترويجاً لنقل اللاجئين لها) أو العازلة (لحماية حدودها الجنوبية بعزل قوات سوريا الديمقراطية) بعمق 30 كيلومتر داخل الأراضى السورية، تقويض تمدد الإدارة الذاتية للأكراد السوريين المدعومين من قبل الولايات المتحدة بما يحقق لتركيا البعد الأمنى، لاسيما بعد أن بدأت تلك الإدارة فى الإعداد لانتخابات المجالس المحلية. وبالتالى، ترغب أنقرة فى تأطير حل لهذه الإشكالية عبر النظام السورى استباقاً للانتخابات الأمريكية المقبلة.
وتشير عدة مصادر إلى رغبة أنقرة فى أن تتولى قوات النظام السورى مهمة تأمين المناطق الشمالية فى بعض المناطق التى يتواجد فيها نفوذ تركى فى الشمال الشرقى، عدا تلك التى تخضع للمعارضة المدعومة من قبلها مثل مناطق الشمال الغربى (إدلب وبعض المناطق فى حلب). والتوصل بشأن بعض المناطق الصعبة أمنياً لاتفاقات مع النظام برعاية روسية؛ وبناءً على هذا التصور ترغب تركيا فى دخول النظام السورى المناطق الشمالية بدعم منها لمواجهة قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية؛ أى أن خطوة تركيا النوعية تجاه تحسين العلاقات مع النظام السورى هدفها "تأطير" عملية إعادة دمج مناطق الشمال السورى مع الحكومة المركزية فى دمشق بموافقتها للمرة الأولى منذ 13 عاماً.
هذا الهدف التركى يضع الأكراد السوريين ومناطق إدارتهم الذاتية فى مواجهة مباشرة مع النظام السورى. وثمة قراءات تقول بأن روسيا أبدت موافقة ضمنية على التصور التركى، وكذلك إيران على اعتبار أن تلك الخطوة تعيد للنظام هيبته بدخوله تلك المناطق للمرة الأولى منذ 13 عاماً وبدعم من القوات التركية المتواجدة هناك، وهو ما يعنى أن تركيا ليست بصدد الانسحاب "الكامل" من الأراضى السورية فى المديين القصير والمتوسط بأى حال من الأحوال؛ لأن الانسحاب الكامل أو الآنى والمفاجئ من شأنه إفساح المجال للتوسع الأمريكى وخلط مناطق النفوذ بين القوى المنخرطة فى شمال سوريا من ناحية، وإفساح المجال كذلك لقوات المعارضة المسلحة وكذلك هيئة تحرير الشام فى إدلب (وتدعمهما تركيا) لدخول حرب مباشرة مع قوات النظام ومع الأكراد من ناحية ثانية، لاسيما بعد أن شهدت تلك المناطق مظاهرات ضد الحليف التركى نتيجة تقاربه مع النظام السورى. وبالتالى، فإن تركيا لن تتجه للانسحاب من الشمال السورى فى المدى القريب، لكنها على المدى الطويل قد تفكر فى الأمر حال التوصل لتسوية ما مع النظام السورى، وأنها قد تقدم لدمشق بديل عن هذا الانسحاب الكامل يتمثل فى تأطير "جدول زمنى للانسحاب مع تقديم ضمانات للالتزام بهذا الجدول" على أن تكون هذه الضمانات متبادلة.
موقف المعارضة السورية
أبدت المعارضة السورية المسلحة المدعومة من تركيا فى مناطق عمليات النفوذ التركى الثلاثة (درع الفرات، ونبع السلام، وغصن الزيتون)، عدم الارتياح للخطوة التى قامت بها أنقرة بشأن التقارب مع النظام السورى، واعتبرتها بدء مسار جديد هدفه فى النهاية هو "تفكيك المعارضة" وإنهاء دورها فى مواجهة النظام السورى، وبدت مؤشرات هذا الاستياء مع تنظيم المعارضة مظاهرات فى مناطق النفوذ التركى منذ بداية شهر يوليو الجارى تندد بمحاولة تركيا التقارب مع النظام ووصل الأمر إلى حرق العلم التركى فى هذه المناطق.
تتزايد مخاوف المعارضة السورية من فقدان الدعم التركى حال تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، لاسيما وأن الأخيرة اشترطت لعودة العلاقات أن تنسحب القوات التركية من الشمال السورى من ناحية، وأن يتعاون الطرفان التركى والسورى فى "مكافحة المجموعات الإرهابية" من ناحية ثانية. وترى المعارضة السورية أن نظام السورى يستهدفها مباشرة بهذا الشرط بالنظر إلى تصنيفه لها بأنها مجموعات إرهابية، وأن تركيا، فى المقابل، ربما تعيد النظر فى دعمها خاصة بعد أن لوحت دمشق لأنقرة بإمكانية قبولها خيار دخول مناطق الإدارة الذاتية الكردية. وهنا يكون النظام السورى قد وضع معادلة واضحة المعالم أمام أنقرة مفادها قبول دخول النظام مناطق الإدارة الذاتية الكردية–التى تشكل هاجساً أمنياً لأنقرة-وفرض سيطرة النظام عليها، مقابل أن تقوم تركيا بتفكيك كل المعارضة المسلحة سواء الجيش السورى الحر أو هيئة تحرير الشام. وهنا تكون أنقرة قد استجابت لنمط ما من التسوية الروسية-الإيرانية التى طالما سعت موسكو وطهران لفرضها عليها باعتبارها الشريك الثالث فى صيغة آستانا لخفض التصعيد فى سوريا. وثمة آراء ترجح عدم تخلى تركيا عن المعارضة بصورة كاملة، لكنها فى الوقت نفسه قد تعيد صياغة هذه العلاقة ودورها فيها وفقاً لمسار حالة التطبيع المستقبلية مع النظام السورى ومع شركاء آستانا أيضاً.
يمكن القول، إن تطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا قد يحقق لتركيا مصالح أمنية مهمة فى الشمال السورى، ويمهد للعودة الطوعية للاجئين السوريين، ويخفف بالتالى من وطأة الأعباء الاقتصادية على أنقرة. وفى المقابل، فإن سوريا قد تستفيد كثيراً من خطوة التطبيع فى كسر حدة الحصار الاقتصادى والعقوبات المفروضة عليها، لاسيما بعد مؤشرات فتح المعابر بين المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل الموالية لتركيا فى مناطق الشمال وبين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السورى، كما أن التطبيع سيتيح فرصاً كبيرة لمشاركة الشركات التركية فى برامج إعادة الإعمار السورية.
ويبقى هنا عامل مهم قد يكون بمثابة الكابح لهذا المسار المأمول فى تطبيع العلاقات بين الجانبين التركى والسورى، وهو العامل الأمريكى ونتائج الانتخابات الأمريكية الجديدة، فالولايات المتحدة مشغولة حالياً بحديث الانتخابات، وما ستسفر عنه من نتائج، وبالتالى، فمن المتوقع أن لا تهتم كثيراً بخصوص حالة التغير فى خريطة النفوذ فى الشمال السورى التى تتواجد قواتها فى مناطق الشرق منه فى الوقت الراهن، إلا مع تولى الإدارة الجديدة السلطة فى يناير 2025 المقبل، وهو ما يمثل فرصة سانحة لكل من تركيا وروسيا وإيران لإحداث التغيير الممكن فى شمال سوريا حال موافقة النظام السورى على قبول معادلة التغيير الجديدة.