يتساءل كثيرون ممن يتابعون الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تجرى في 5 نوفمبر 2024، عن مدي تأثير محاولة اغتيال الرئيس السابق دونالد ترامب على نتائج الانتخابات الرئاسية بعد وقوع الحادثة يوم السبت 13 يوليو الجاري، أثناء خطابه أمام حشد من مؤيديه في مدينة بطلر بولاية بنسلفانيا.[1] ووفقاً لاستطلاع رأي قامت به وكالة أنباء "رويترز"، فإن حادث إطلاق النار لن يحسم السباق الرئاسي لصالح ترامب. فلا يزال 43٪ من الناخبين يؤيدونه، بينما 41٪ منهم يؤيدون الرئيس الحالي جو بايدن. وكطبيعة كل حدثٍ سياسي، ستخلق محاولة اغتياله بعض الفرص وبعض الإشكاليات، ولكن يستبعد أن ترجح الحادثة كافته أمام بايدن. وينطبق الشيء نفسه على بايدن، فقطعاً سيحقق بعض المكاسب ولو طفيفة من محاولة اغتيال ترامب دون أن يبدل ذلك من واقع المنافسة المحتدمة والمتقاربة بين الاثنين. [2]
ولكن الحادث يرمز بشكل لا لبس فيه إلى الأزمة التي يمر بها النظام السياسي في الولايات المتحدة، وهي حالة الاستقطاب الحاد بين الحزبيين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري[3]، وهي أزمة من شأنها على المدى البعيد زيادة فرص العنف السياسي وتعطيل السياسات العامة للحزبين داخل أركان الدولة. فالتوافق السياسي بين الحزبين ضروري في نظام الحكم الأمريكي الذي أُسس على الفصل بين كل السلطات، وتفكيك القوة السياسية على أكثر من مستوى (الحكومة الفيدرالية والولايات) وبين أكثر من مؤسسة (البيت الأبيض والكونجرس والمحكمة الدستورية)، ومن ثم يفرض هذا الواقع المؤسسي المُفكك على الحزبين حتمية المشاركة والاتفاق فيما بينهم في صنع قرارات الدولة كي يتثنى تنفيذها دون عرقلة مؤسسية.[4]
المشهد الانتخابي وتفكك القوة السياسية
رغم رمزية الحادث، إلا أنه يجب وضعه أولاً في سياق الموسم الانتخابي ككل، والذي يحدث كل أربعة أعوام في الولايات المتحدة حسب الدستور الأمريكي. فالناخبون سيختارون، بجانب المرشح الرئاسي، أعضاءً جدد لكل مقاعد مجلس النواب البالغ عددهم 435 مقعداً عن كل الولايات الأمريكية، والذي يمتلك فيه الحزب الجمهوري حالياً أغلبية بسيطة. كما سيختار الأمريكيون 33 عضواً لمجلس الشيوخ من إجمالي 100 مقعد، ويمتلك فيه الحزب الديمقراطي أغلبية بسيطة أيضاً.[5] أضف إلى ذلك أن الناخبين سيصوتون لاختيار 5793 عضواً في 99 مجلس تشريعي من مجالس الولايات، ويتحكم الحزب الجمهوري في 55٪ من إجمالي تلك المقاعد، بينما يتحكم الحزب الديموقراطي في 44٪ منها.[6] وبجانب المقاعد السابقة، سيختار الناخبون أيضاً 164 مسئول تنفيذي في ولايات مختلفة، من بينهم 11 حاكم ولاية. ويمثل الجمهوريون في تلك الوظائف التنفيذية 86 مسئول، بينما يمثل الديمقراطيين 51 مسئول.[7] ومن ثم، ستبقى محاولة اغتيال ترامب محدودة الأثر المباشر على مجمل المشهد الانتخابي القادم، لأن طبيعة النظام السياسي الأمريكي المُجزَّأ لا تسمح لحدث واحد أو قضية واحدة أو طائفة واحدة بأن تستحوذ على النظام السياسي بكامله.
بالإضافة إلى أن فوز ترامب أو بايدن بالانتخابات الرئاسية دون أن تفوز أحزابهم بأغلبيات مريحة في الكونجرس لن يسمح لهم بتدشين سياسات عامة كبيرة وطموحة في قضايا الاقتصاد والتأمين الصحي والقضايا الاجتماعية والسياسة الخارجية. فبرنامج الرئيس لا ينفذ إلا إذا تمتع حزبه بأغلبية مريحة. كما يرجح أن تستمر حالة الخلاف على السلطات بين البيت الأبيض أياً كان ساكنه وبين بعض الولايات فيما يخص بعض القضايا المهمة، مثل خلاف إدارة الرئيس بايدن وحاكم ولاية تكساس الجمهوري جريج ابوت حول قضية التعامل مع الهجرة غير الشرعية.[8] كما حدث من قبل خلاف سابق بين إدارة ترامب وحكومات الولايات ذات الأغلبيات الديمقراطية حول قراره الرئاسي بمنع مسلمي سبع دول من الشرق الأوسط من دخول الولايات المتحدة عام 2017.
من هنا، فإن التفكك المؤسسي من خلال الفصل بين سلطات الحكومة التنفيذية والتشريعية ومن خلال الفصل بين سلطات الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات، يجعل من الصعوبة بمكان على رئيسٍ أمريكي قيادة المجتمع إلى أهدافه كليةً إلا إذا نجح في تكوين تحالفات سياسية عابرة للمؤسسات. وعادة يصعب تكوين وهندسة تلك التحالفات إلا في ظروف استثنائية. ويكون تكوينها شبه مستحيل في ظل حالات الاستقطاب الحادة التي يمر بها المجتمع الأمريكي من حين إلى آخر.[9] وبالتالي فمحاولة اغتيال ترامب لن تغير من موازين المشهد السياسي في الولايات المتحدة.
العنف السياسي في الولايات المتحدة
تجدر الإشارة إلى أن العنف السياسي في تاريخ الولايات المتحدة تلازم مع تطوراتها السياسية سواء إيجابية أو سلبية. فبالرغم من خطورته فهو لا يعد ظاهرة جديدة أو غريبة على المجتمع الأمريكي.[10] وتعود هذه الظاهرة بالأساس إلى وجود حق دستوري أصيل في وثيقة حقوق المواطن الأمريكي، تتيح له تنظيم مليشيا وحمل السلاح واستخدامه لحماية أمنه وحريته. وبالتالي تزداد فرص استخدام ذلك السلاح بشكل جماعي وفردي في ظل الأزمات السياسية الحادة. فعلى سبيل المثال، عندما احتدم الخلاف بين النخبة السياسية حول قضية العبودية حدثت الحرب الأهلية عام 1861. كما تزايد العنف الجماعي المتبادل بين الأغلبية البيضاء وبين الأقلية ذات الأصول الأفريقية في الولايات الجنوبية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وحدث ذلك بسبب تزايد مطالب السود بحقوقهم السياسية والمدنية، واعتراضهم على قوانين الفصل العنصري. غير أن محاولة اغتيال ترامب تختلف عن ذلك النوع المؤثر من العنف السياسي كونها محاولة فردية، فهي تتشابه أكثر مع محاولات اغتيال الرؤساء السابقين جيرالد فورد عام 1975 ورونالد ريجان عام 1981 بالإضافة إلى محاولة اغتيال قاضي المحكمة الدستورية العليا برت كاڤانا عام 2022 أو التهجم على منزل نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب عام 2022.
والأهم من ذلك أنه يستبعد أن تتوسع دائرة العنف السياسي بين قطاعات كبيرة من المجتمع الأمريكي من جراء هذا الاعتداء. فالغالبية الأمريكية لا تزال ترفض حتى الآن استخدام العنف كأداة لحل النزاعات والخلافات السياسية. ويتضح ذلك من تقرير يُنشر دورياً من مشروع مركز شيكاغو للأمن والتهديدات بجامعة شيكاغو الذي يتابع حالة العنف السياسي والانتخابات في الولايات المتحدة. وُيبرز ذلك التقرير أن 70.8٪ (183 مليون نسمة) من الشعب الأمريكي يرفضون استخدام العنف لإعادة ترامب إلى الرئاسة، كما يرفض 66٪ (171 مليون نسمة) من الشعب أيضاً منع ترامب من الوصول إلى الرئاسة بالقوة إذا تم انتخابه.[11]
كيف توظف الأطراف السياسية حادث الاغتيال لصالحها؟
يبقى أن محدودية أثر محاولة اغتيال ترامب على مجمل المشهد السياسي في الولايات المتحدة لا تعني عدم قدرة المرشحين وحملاتهم الانتخابية والحزبين الديمقراطي والجمهوري على توظيف الحادث لتحقيق بعض المكاسب السياسية مثل زيادة حشد الأصوات وتعديل الخطاب السياسي وتوحيد الحزب خلف مرشحه
فقد كادت المحاولة الفاشلة أن تكون جائزة كبرى يفوز بها الرئيس بايدن وحملته الانتخابية بسبب تحول الإعلام الأمريكي عنه وعن موضوع عمره ومدى جاهزيته لقيادة الولايات المتحدة لفترة رئاسية أخرى. فحادث الاغتيال وما ستسفر عنه التحقيقات سيشغل الإعلام الأمريكي مرحلياً خلال الفترة القادمة. غير أن إصابة الرئيس بايدن بفيروس كورونا مرة أخرى ستعيد تلك الأضواء إلى موضوع عمره وحالته الصحية.[12] وبينما أدان بايدن الحادث وأكد رفضه لكل أشكال العنف السياسي، إلا أن حملته الانتخابية ستستمر في تصوير عودة ترامب إلى البيت الأبيض على أنه خطر على ديمقراطية الولايات المتحدة. وستوظف الحملة خطابات ترامب لتحفيز الديمقراطيين للتماسك حول بايدن كمرشح الحزب، وتشجيع المشاركة بكثافة في عملية التصويت والتبرع لصالح حملته الانتخابية.
أما قيادات الحزب الديمقراطي فتواجه أحد الاحتمالين: الاحتمال الأول، أن يستغل الحزب صرف الإعلام الأنظار عنه ولو قليلاً من أجل ترميم انقسامات الديمقراطيين حول دعم ترشح بايدن بسبب سوء أداءه الانتخابي أمام ترامب والذي ظهر جلياً في المناظرة التلفزيونية الأخيرة التي عقدت بينهما يوم 27 يونيو الماضي.[13] والاحتمال الثاني، أن تسعى قيادات الحزب لإقناع بايدن بضرورة تخليه عن ترشيح نفسه، حيث يحتاج الحزب إلى مرشح ديمقراطي يتميز بحيوية سياسية وقدرة على جذب الديمقراطيين حوله، وبالتالي يكون ملائماً للمرحلة الحالية.[14]
أما عن الرئيس السابق ترامب، فالحادث يعطي لحملته زخماً جديداً وتماسكاً شديداً من الحزب الجمهوري خلفه، وقد ظهر ذلك بوضوح عند استقباله في مؤتمر الحزب الجمهوري العام وفعاليات اختيار المرشح الجمهوري لمنصب نائب الرئيس جي دي فانس.[15] وليس هناك شك في أن ترامب سيستغل الحادث ليؤكد على أن الدولة العميقة في الولايات المتحدة -متمثلة في الحزب الديمقراطي وحلفاءه – تستهدفه وتسعى للقضاء عليه وإزاحته بشكل مطلق من المشهد السياسي. وعلى حد زعم ترامب، فقد حاول الحزب الديمقراطي ذلك من خلال محاكمته سياسياً أثناء رئاسته للولايات المتحدة، وملاحقته قضائياً بعد خروجه من منصبه، والآن من خلال محاولة اغتياله مباشرة أثناء حملته الانتخابية.[16] كما زعم النائب الجمهوري مايك كولنز من خلال منصة "إكس" أن الرئيس جو بايدن هو من أعطى الأمر بقتل ترامب.[17] وربما تحصد حملة ترامب مزيداً من بعض أصوات المستقلين بسبب التعاطف معه بعد الحادث، وقد تنجح في جمع مزيد من أموال التبرعات الانتخابية.
ختاماً، فإنه لا يزال أمام المجتمع الأمريكي أقل من أربعة أشهر على موعد الانتخابات، وقطعاً سوف تشهد تلك الفترة أحداثاً انتخابية متلاحقة. ولكن إن بقى الوضع كما هو عليه دون تغيرات سياسية كبرى على المستويين الداخلي أو الدولي، فإن المشهد الانتخابي لن يخرج عن إطاره الحالي. وستستمر حالة الاستقطاب واحتدام المنافسة وتقاربها، مما سيجعل من الصعوبة بمكان التكهن بمن سيفوز بالانتخابات في 5 نوفمبر القادم!
[1] Lester Munson, “The Trump Assassination Attempt Has Upended the US Election Race. So What Happens Next,” The Conversation, July 14th, 2024; https://theconversation.com/the-trump-assassination-attempt-has-upended-the-us-election-race-so-what-happens-next-234658
[3] Peter Baker, “ An Assassination Attempt That Seems Likely to Tear America Further Apart,” New York Times, July 14th, 2024; https://www.nytimes.com/2024/07/14/us/politics/trump-shooting-violence-divisions.html?smid=url-share
[4] John Kingdon, America the Unusual, (Belmont: Wadsworth, 1999), pp.7-56.
[5] https://ballotpedia.org/United_States_Congress_elections,_2024
[6] https://ballotpedia.org/State_legislative_elections,_2024
[7] https://ballotpedia.org/State_executive_official_elections,_2024
[8] Priscillia Alvarez, Camila DeChalus and Alison Main, “Migrant Crisis Looms Over Governors’ Gathering at the White House,” CNN, February 25th, 2024; https://www.cnn.com/2024/02/25/politics/migrant-governors-gathering-white-house
[9] John Kingdon, America the Unusual, (Belmont: Wadsworth, 1999), pp.7-56.
[10] Julian E. Zelizer, “This Is America, Too,” Foreign Policy, July 14th, 2024; https://foreignpolicy.com/2024/07/14/trump-shooting-assassination-united-states-political-violence/
[11] Robert Pape, “Political Violence and the Election: Assessing the Threat from Left and Right,” Chicago Project on Security and Threats, July 13th, 2024; https://d3qi0qp55mx5f5.cloudfront.net/cpost/i/docs/June_2024_CPOST_Survey_Report.pdf?mtime=1720925000
[12] Michael D. Shear, “ Biden Tests Positive for Covid,” New York Times, July 17th, 2024; www.nytimes.com
[13] Ruth Igielnik, “New Polling Shows a Large and Growing Majority Want Biden to Step Aside,” New York Times, July 17, 2024; www.nytimes.com
[14] Mike Murphy, “Biden Must Know How This Should End,” New York Times, July 17th, 2024; www.nytimes.com
[15] Peter Baker, “While Republicans Put on a Show of Unity, Democrats Wrestle With Their Own Rift,” New York Times, July 17, 2024; www.nytimes.com
[16] Charles M. Blow, “ How the Attempted Assassination of Trump Could Change the Campaign,” New York Times, July 15th, 2024; https://www.nytimes.com/2024/07/09/opinion/trump-shooting-effects-tipsheet.html
[17] Nikki Mccann Ramirez, “ Republican Congressman Baselessly Accuses Biden of Ordering Trump Shooting,” Rolling Stone, July 13th, 2024; https://www.rollingstone.com/politics/politics-news/republican-mike-collins-accuses-biden-ordering-trump-shooting-1235059900/