السيد صدقي عابدين

باحث في العلوم السياسية - متخصص في الشئون الآسيوية

 

تضمنت قمة حلف شمال الأطلنطي (الناتو) التي عقدت في العاصمة الأمريكية واشنطن في الفترة من 9 إلى 11 يوليو 2024 في بيانها الختامي إشارات واضحة إلى بعض الشئون الآسيوية، كما حضرها قادة من آسيا. هذا الحضور وتلك الإشارات لا يمكن فصلهما عن مجموعة من التطورات التي تحدث على الساحة الدولية، سواء أكان ذلك في القارة الأوروبية أو  الآسيوية.

ويرتبط ذلك أيضاً ببلورة مجموعة من التوجهات الاستراتيجية في السنوات الأخيرة. هذه التوجهات هناك من معها وهناك من ضدها. ومن لا يتفقون معها لديهم رؤى مغايرة. كما أن هناك صراعاً عسكرياً على الحافة الشرقية للناتو مع روسيا منذ حوالي عامين ونصف. هذا الصراع الذي ينخرط فيه الحلف عبر دعم مادي ومعنوي لأوكرانيا في مواجهة روسيا بات أحد أهم المعايير التي يقيم فيها الحلف علاقاته مع قوى آسيوية مهمة، حيث أن هناك إشادات من قبل الحلف بدول بعينها تقدم العون لأوكرانيا وتساهم في فرض العقوبات على روسيا، بينما هناك انتقادات واسعة وتهديدات لدول أخرى يتهمها الحلف بتقديم الدعم لروسيا في حربها ضد أوكرانيا سواء بشكل مباشر عبر العتاد العسكري الذي يستخدم في المعارك، أو عبر دعم القاعدة الصناعية العسكرية الروسية.

هذه التوجهات وتلك التطورات غالباً ما تُغلَّف بمفاهيم أيديولوجية قيمية ليس فقط من قبل الحلف ومناصريه في آسيا، وإنما أيضاً من جانب من يعتقدون أنهم مستهدفون من قبل الحلف في آسيا أيضاً. يحاول هذا المقال الوقوف عند أربعة سياقات أولها تاريخي، وثانيها أيديولوجي، وثالثها يتعلق بمصادر التهديد وإدراكاتها، ورابعها مرتبط بتحولات النظام الدولي.

السياق التاريخي

إذا كانت قمة الناتو في واشنطن قد توافقت مع مرور خمسة وسبعون عاماً على إنشاء الحلف، فإنه وبعيداً عن الدخول في تفاصيل كثيرة يمكن أن تقال حول ما مر به الحلف على مدار هذه السنوات سيلاحظ أن الحلف وعلى عكس ما كان سائداً لعقود بات في السنوات الأخيرة يربط بين ما يحدث في القارة الآسيوية وما يحدث في القارة الأوروبية. وباتت هناك تأكيدات على أن الأمن الأوروبي الأطلسي مرتبط بما بات يطلق عليه في أدبيات حلف الناتو بـ"الإندوباسفيك" إشارة إلى الربط بين المحيطين الهندي والهادئ.

مثل هذا الربط استدعى صياغة مصطلح شركاء الناتو في الإندوباسفيك. ويقصد بهم تحديداً كلاً من اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا ونيوزيلندا. ولقد أصبح حضور هذه الدول متواصلاً في القمم الثلاث الأخيرة. كما تكثفت زيارات مسئولي الحلف إلى تلك الدول بما في ذلك الأمين العام للحلف يانس ستولتنبرج، ومن ذلك زيارته لكل من كوريا الجنوبية واليابان نهاية شهر يناير وبداية شهر فبراير من العام 2023. وأصبحت هناك تفاهمات، واتفاقات ومن بينها ما حدث في القمة الأخيرة من توقيع على اتفاق خاص بشهادات الجدارة الجوية العسكرية بين الحلف وكوريا الجنوبية. وبموجب الاتفاق أصبح الحلف يعترف بشهادات الجدارة الجوية التي يصدرها الجانب الكوري للطائرات التي يتم تصنيعها محلياً.

مثل هذه الشهادة من شأنها أن تفتح المجال واسعاً أمام أسواق جديدة للطائرات العسكرية التي تصنعها كوريا الجنوبية، والتي سبق لها أن وقعت اتفاقات ثنائية مماثلة مع بعض من دول الناتو. كما أنها عقدت صفقات بتزويد بعض دول الحلف بمعدات عسكرية ومن بينها بولندا.

من الواضح أن الحلف بمثل هذا الاتفاق يشجع كوريا الجنوبية على السير قدماً في تطوير صناعاتها العسكرية، والتي تطورت كثيراً في السنوات الأخيرة، وهو ما لاقى إشادة من الأمين العام للحلف يانس ستولتنبرج. ليست كوريا الجنوبية وحدها من تشجع على تطوير صناعاتها العسكرية، وإنما هناك مشاريع تعاون في التصنيع العسكري بين اليابان وبعض من دول حلف الناتو. كما أن التخفيف المتواصل من قيود تصدير السلاح الياباني لا يلقى اعتراضاً أو احتجاجاً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من أعضاء الحلف.

مثل هذه التطورات لو وضعت في سياق تاريخي بحت عند إنشاء الحلف أو حتى بعد مرور سنوات من إنشائه لم يكن تصور حدوثها ولا حتى غيرها من التطورات الأخرى على صعيد علاقات الحلف بشركائه في الإندوباسفيك من قبيل فتح ممثليات في مقر الحلف، أو وجود تمثيل للحلف في تلك الدول أو بعضها على الأقل، ناهيك عما يحدث بين بعض أعضاء الحلف وتلك الدول بشكل أحادي أو ثنائي أو حتى جماعي. ومن ذلك الدفع قدماً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية نحو تعاون أمني ثلاثي بينها وبين كل من اليابان وكوريا الجنوبية، وهو ما انعكس في الكثير من التطورات على الأرض خاصة بعد القمة الثلاثية التي جمعت قادة الدول الثلاث في كامب ديفيد في أغسطس من العام 2023، ومن أبرزها التدريبات العسكرية الثلاثية، والتنسيق بخصوص التطورات في كوريا الشمالية، خاصة ما يتعلق ببرامجها التسليحية. كما أن كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا قد دخلتا مع استراليا في شراكة أمنية شاملة تعرف اختصاراً باسم "أوكوس"، وتتضمن تزويد استراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية. ومن المخطط أن يشهد شهر يوليو الحالي مناورات عسكرية بين اليابان وكل من ألمانيا وأسبانيا العضوان في الناتو قرب الحدود مع روسيا، وهو ما احتجت عليه الأخيرة رسمياً.

السياق الأيديولوجي

كما هو معلوم، فإن نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي قد قللت من حدة الصراع الأيديولوجي لدرجة أن البعض بات يتحدث عن نصر نهائي للرأسمالية، وما سمى في حينه بنهاية التاريخ. لكن ما حدث خلال العقود الثلاثة ونصف الماضية قد أثبت وإن بشكل تدريجي استمرار الجانب الأيديولوجي كأحد العوامل المهمة في حركة العلاقات الدولية. هذا الأمر ارتبط بتطورات كثيرة من بينها بروز مراكز ثقل خارج مراكز الثقل التقليدية في العالم، وتحديداً في الشرق الآسيوي. هذا الثقل لم يكن اقتصادياً فقط، وإنما كانت له جوانب فكرية تحمل منظورات  مغايرة للمنظور الغربي. وكان الأمر أكثر وضوحاً في حالة الصين. كما كان هناك بروز عسكري لبعض الدول التي كانت محسوبة على المعسكر الشيوعي زمن الحرب الباردة وعلى رأسها كوريا الشمالية.

هذا البروز فرض على مدار سنوات جدالاً واسعاً بين هذه الدول والقوة القائدة في الناتو ممثلة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي استمرت لسنوات تتحدث عن ممارسات الحزب الشيوعي الصيني المغايرة للمنظومة الغربية. كما بات من المناظرات الكبرى بين البلدين في السنوات الأخيرة توصيفات النظام السياسي لدى كل طرف، وآليات اتخاذ القرار وحالة حقوق الإنسان، والممارسات التجارية وغيرها من الأمور.

تلك الإدراكات الأمريكية أخذت بالتسلل إلى أروقة اجتماعات الناتو، ومن ثم انعكست في بياناته. وفي القمة الأخيرة بينما تم التأكيد على قيم الحرية الفردية والديمقراطية وحقوق الإنسان كقيم مشتركة تجمع أعضاء الحلف، فقد أشير صراحة في بيان القمة إلى تحدي الصين لقيم الحلف. ومن ثم فلا غرو أن تعتبر الصين ومعها كوريا الشمالية أن الحلف يتصرف بنفس عقلية الحرب الباردة. كما أن الصين وصفت تصريحات الأمين العام للحلف في مؤتمره الصحفي الختامي بعد قمة واشنطن بأنها "ممعنة في عقلية الحرب الباردة والتحيز الأيديولوجي" حيث كان الأمين العام للحلف قد تحدث عن تقارب النظم التسلطية في معرض تعليقه على المناورات التي تجريها الصين مع بيلاروسيا. وقد اعتبرت الصين أن الأمين العام للحلف لم يكتف بمهاجمة النظام الصيني، وإنما سمح لنفسه بالتدخل في شئونها الداخلية وبشكل صارخ، وأنه قد قام بتشويه سياساتها على الصعيدين الداخلي والخارجي. وفي هذا الإطار فإن بيان قمة واشنطن كان واضحاً في أنه لا يمكن لبكين أن تقوم بما تقوم به على صعيد ما اعتبره تمكيناً لأكبر حرب في أوروبا دون التأثير على مصالحها وسمعتها. ومن ثم فإن الصين تواصل مطالبتها للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الناتو بالتوقف عن نشر ما تعتبره معلومات مضللة عنها، والكف عما تعتبره تشويهاً لسمعتها.

سياق مصادر التهديد

عند حديث الحلف عن الصين في بيانه الأخير لم يكتف بكونها تمثل تحدياً لقيمه، وإنما ذهب إلى أنها تمثل كذلك تحدياً لأمنه ومصالحه بحكم ما وصفه بالسياسات القسرية الصينية وطموحاتها المعلنة. وقد ذهب بيان القمة إلى أن الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا، وسعيهما إلى ما أسماه بتقويض النظام الدولي القائم على القواعد يسبب قلقاً عميقاً للحلف. وقد اعتبر الحلف أن الصين تدعم بشكل كبير الصناعات العسكرية الروسية عبر المواد ذات الاستخدام المزدوج والمواد الخام والمعدات والمكونات التي يمكن أن تدخل جميعها في تصنيع السلاح الروسي. ومن ثم مساعدة روسيا على الاستمرار في الحرب، وزيادة ما اعتبره الحلف تهديداً روسياً للجيران ولمجمل الأمن الأوروأطلسي. ونفس الاتهام وجه لكل من كوريا الشمالية وإيران لكن من حيث تقديمهما دعماً عسكرياً مباشراً لروسيا ممثلاً في معدات عسكرية وذخائر وطائرات مسيرة، مع إضافة كونهما مصدري تهديد للنظام الدولي لمنع الانتشار النووي. وكما هو معلوم فإن الحلف منزعج جداً من التطورات الإيجابية على صعيد العلاقات الروسية-الكورية الشمالية والتي كللت بزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبيونج يانج في يونيو 2024، بعدما كان كيم جونج أون قد زار روسيا في سبتمبر 2023. ومما زاد من الانزعاج تقديم روسيا مساعدات خاصة ببرنامج إطلاق الأقمار الصناعية الكورية الشمالية، واتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي تضمنت بنداً خاصاً بتقديم المساعدة في حال تعرض أحد الطرفين لعدوان. وفي الوقت الذي وصل الحال بالرئيس الكوري الجنوبي يون سيوك ـ يول إلى مطالبة روسيا بالاختيار بين بلاده وكوريا الشمالية على خلفية التطورات المشار إليها في العلاقات بينهما، فإنه قد تعهد ورئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا بتعزيز التعاون مع حلف الناتو.

بالعودة إلى التحديات التي تفرضها الصين على الأمن الأوروأطلسي، فإن الحلف لم يقف عند علاقاتها بروسيا، وإنما اعتبر أن تصرفات صينية من قبيل الأنشطة الإلكترونية الهجينة التي وصفها بـ"الخبيثة"  بمثابة تحديات نظامية للأمن الأوروأطلسي مضيفاً إليها ما تقوم به الصين على صعيد الفضاء الخارجي، وتطوير ترسانتها النووية، وقلة الشفافية، وما أسماه تكتيكات قسرية صينية تهدف إلى تقسيم التحالف.

في المقابل، فإن كلاً من الصين وكوريا الشمالية قد اتفقتا أيضاً على انتقاد ورفض بيان قمة واشنطن، وذهبتا إلى أن الحلف هو الذي يمثل تهديداً للآخرين، ويحرض على المواجهة. وفي التفاصيل، فإن كوريا الشمالية وانطلاقاً من قناعاتها التامة بصحة الرواية الروسية منذ البداية اعتبرت أن الحلف هو من يهدد روسيا وليس العكس. وهي تذهب كذلك إلى أن الحلف هو من يريد إطالة أمد الحرب. وتقريباً هذا نفس المنظور الصيني مع اختلاف في درجة حدة الصياغات. وإن كانت الصين في بعض الأحيان تتحدث بلهجة حادة جداً كما حدث عندما وصفت وزارة الدفاع الصينية الحلف بأنه "آلة حرب متحركة تسبب الفوضى أينما حلت" في  يناير من العام 2024 في سياق تعليق الوزارة على المناورات الأضخم التي يجريها الحلف منذ نهاية الحرب الباردة.

الاتفاق الصيني الكوري الشمالي انسحب أيضاً على ما تشهده علاقات الحلف مع شركائه في الإندوباسفيك. وهنا يلاحظ أن كلاً من بيونج يانج وبكين لا تستخدمان نفس المصطلح الذي يستخدمه الناتو، وإنما تصران على استخدام مصطلح آسيا والمحيط الهادئ. انطلاقاً من ذلك، فقد اعتبرت كوريا الشمالية أن ما يتم بين الحلف وبعض دول المنطقة هو بمثابة "تواطؤ" ومن ثم فإنها قد اعتبرت محاولات الحلف الربط بين الأمن في الأوروأطلسي والأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ مجرد ادعاء، معتبرة أن الولايات المتحدة الأمريكية والناتو "يشكلان أخطر تهديد للسلام والأمن العالميين" بعدما أصبحا أداة للمواجهة.

من جانبها، أكدت الصين على ضرورة أن يتوقف الحلف عن استخدامها كمبرر لما اعتبرته تدخلاً في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وتعطيل ما أسمته بـ"الديناميكيات الإقليمية". كما شككت الصين فيما يقوله الحلف حول طابعه الدفاعي الإقليمي، معتبرة أنه يعمل على إثارة المواجهات، ويمارس التنمر على الصعيد العالمي، متجاوزاً حدوده. ليس هذا فحسب بل إن الصين قد ذهبت إلى أن "ما يسمى أمن الناتو مبني في أغلب الأحيان على انعدام أمن الآخرين، وما يفعله يعرض العالم والمناطق لمخاطر أمنية عالية". ولم تكتف الصين بذلك وإنما اعتبرت أن نظرة الحلف إليها كعدو متوهم ستجلب على الحلف نتائج عكسية.

سياق تحولات النظام الدولي

بغض النظر عن الاتجاهات النظرية حول ما حدث للنظام الدولي منذ نهاية الحرب الباردة، فإن المؤكد الآن أن هناك تيارا يذهب إلى أن هناك نظاماً دولياً قائماً تسعى قوى إلى تغييره. على رأس هذه القوى كل من الصين وروسيا وحلفائهما. هذا المنظور كان جلياً في قمة واشنطن الأخيرة. وفي هذا السياق، يمكن إدراج معظم ما أشير إليه في بيان القمة بصورة عامة، وذلك المتعلق بالشأن الآسيوي بصفة خاصة. فالحلف يعتبر أن التهديد الأكبر لما يصفه النظام الدولي القائم على القواعد يأتي من كل من الصين وروسيا وكوريا الشمالية ومعها إيران. وهذه القوى تعتبر أن الحلف يسعى للمحافظة على نظام دولي قوامه الهيمنة وتغليب المواجهة والتصرف خارج نطاق القانون الدولي، بما في ذلك عدم احترام سيادة الدول.

وعلى ذلك، فإن ما يعتبره الحلف منظوراً عالمياً لأمنه الإقليمي يتطلب الاستمرار في توسيع عضويته من ناحية أولى، وزيادة قدراته التقليدية وغير التقليدية من ناحية ثانية، ومد شبكة علاقاته في أذرع خارج نطاقه الإقليمي من ناحية ثالثة، تعتبره أطرافاً أخرى بمثابة تخريب للبيئة الأمنية العالمية والإقليمية. كما أنها تذهب إلى وجود تناقضات كثيرة فيما يطرحه الحلف بخصوص ما يتعلق به وما يخص الآخرين على صعيد القضايا المذكورة. وعلى سبيل المثال، فإنه في الوقت الذي ينتقد فيه الحلف زيادة النفقات العسكرية لدول بعينها يزيد من إنفاقه العسكري بشكل غير مسبوق. وفي الوقت الذي يلوم على دول بعينها تطوير ترساناتها النووية يصر على فعل الشيء نفسه. وبينما ينتقد مناورات عسكرية تجريها دول بعينها يستمر في تفعيل وزيادة وتوسيع نطاق مناوراته.

إذا كان حلف الناتو قد نشأ مع بدايات ترسخ نظام القطبية الثنائية بعد الحرب العالمية الثانية، فإنه قد استمر بعد نهاية هذا النظام. وإذا كان البعض قد جادل بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد رسخت نظام القطبية الأحادية طوال العقود الثلاثة الماضية، فإن آخرين قد جادلوا بأن كل ما حدث منذ نهاية الحرب الباردة ما هو إلا فترة انتقالية في حياة النظام الدولي الذي لم يستقر بعد. وسواء اعتبرت الفترة التي تلت نهاية نظام القطبية الثنائية مرحلة قائمة بذاتها عنوانها الأحادية القطبية، أو أنها بمثابة مرحلة انتقالية، فإن الأمر المؤكد أن النظام الدولي بات في مرحلة تحول. وهذا التحول يتم الحديث عنه صراحة من قبل المطالبين بالحفاظ على ما هو قائم وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية. ومن ثم فإن كل ما تقوم به من خلال حلف الناتو وشركائها في آسيا إنما هو من أدوات التصدي لمحاولات تغيير هذا النظام من قبل روسيا والصين تحديداً. ومعلوم أن الولايات المتحدة الأمريكية تذهب إلى أنه رغم التهديد العسكري الحال الذي تفرضه روسيا في أوروبا، فإن التهديد الأكبر لما تسميه النظام الدولي القائم على القواعد يتمثل في الصين بحكم ما تمتلكه من موارد اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية ودبلوماسية. وهنا يبرز السؤال: هل سلوك الولايات المتحدة الأمريكية والناتو من شأنه المحافظة على بقاء النظام الدولي القائم أم أنه سيعجل بالتحول إلى النظام الدولي المبتغي صينياً وروسياً؟. وهل ما يقوم به حلف الناتو من ضغط متواصل على الطرفين الصيني والروسي سيدفعهما إلى الدخول في تحالف عسكري مناوئ؟.

في الختام، من الواضح أن قمة الناتو الأخيرة في واشنطن قد أولت الشأن الآسيوي اهتماماً أثار غضباً لدى قوى آسيوية وبث طمأنينة لدى قوى أخرى. وهناك سياقات توضح لماذا جاء تناول الناتو للشأن الآسيوي على هذا النحو ولماذا كانت ردود الفعل الآسيوي كما ذكرت. وقد حاول المقال استخدام هذه السياقات كمفاهيم تفسيرية لما حدث في القمة الأخيرة على الصعيد الآسيوي، ويمكن أن تطرح مفاهيم تفسيرية أو سياقات أخرى لفهم هذه المضامين الآسيوية في قمة الناتو.

لكن هل سيكون الأمر على حاله عند انعقاد القمة القادمة للحلف في هولندا في العام 2025؟، وهل ستستمر لهجة الأمين العام الجديد للحلف على حالها من التشدد أم سيطالها بعض التغير؟. الأمر لا يتعلق بأحاديث الأمين العام للحلف فسواء أكان ستولتبرج المنتهية ولايته أو مارك روته القادم إلى المنصب، فإن الأمر مرتبط بثوابت وأسس للحلف ومن ثم سياسات تبنى على تلك الأسس.

 البعض يجادل بأن الأمر يمكن أن يختلف في حال فاز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة  الأمريكية في الانتخابات المقرر إجراؤها في 5 نوفمبر 2024. وهنا فإن القياس على ما حدث في الولاية السابقة للرئيس ترامب من حيث البلبلة التي حدثت بين واشنطن وحلفائها في الناتو وخارج الناتو حول مسألة مساهمتها فيما أسماه ترامب بنفقات حمايتها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ليس شرطاً أن يتكرر في حال فوزه، خاصة وأن هناك توجهاً بزيادة النفقات العسكرية. كما أن البيئة الأمنية قد اختلفت مع اندلاع الحرب في أوكرانيا. ولا يجب إغفال أن ترامب ربما كان أكثر تشدداً حيال الصين. ولا يعني هذا أنه سوف يتوقف عن طلب المزيد من الحلفاء. وربما كانت المخاوف من ذلك هي التي دفعت كوريا الجنوبية إلى الدخول في مفاوضات مبكرة من أجل التوصل إلى اتفاق جديد بخصوص نسبة مساهمتها في نفقات القوات الأمريكية المرابضة في أراضيها على الرغم من أن الاتفاق الحالي ينتهي مع نهاية العالم 2025. لكن لا ينبغي الذهاب إلى أن إدارة بايدن لا تطلب المزيد من الإنفاق من قبل كوريا الجنوبية وغيرها من الحلفاء. كما أنه حتى لو كانت هناك اتفاقات فإن الخبرة السابقة تفيد بأن ترامب يمكنه المطالبة بتعديل الاتفاقات القائمة.

الزخم الآسيوي في قمة الناتو الأخيرة أعاد طرح فرضيات وأسئلة باتت مطروحة على بساط البحث في السنوات الأخيرة في ظل هذه المسارات الموجودة على أرض الواقع ومن بينها هل سيكون هناك تحالف شبيه بالناتو في القارة الآسيوية؟، وهل هذا التحالف سيكون آسيوياً بحتاً أم أنه سيضم أعضاء رئيسيين في الناتو؟، وكيف ستكون العلاقة بين هكذا تحالف وحلف الناتو؟، وكيف ستكون ردود الفعل على مثل هذه السيناريوهات من قبل الرافضين لها؟