د. محمد السعيد إدريس

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

يشهد النظام الإقليمي العربى تحديات هائلة على كل المستويات، أقل ما يمكن أن توصف به أنها تحديات مكثفة، ربما تمتد إلى ظهور النظام إلى الوجود عام 1945 وارتباطه عضوياً بالصراع حول القضية الفلسطينية منذ نشأته. لكن النظام واجه تحديات أخرى هائلة إلى جانب التحديات التى فرضها ما أخذ يعرف بـ"الصراع العربى–الإسرائيلي"، بدأت بكارثة الغزو العراقى للكويت عام 1990 التى أدت إلى انشطار النظام العربى بين من تعاطف مع الغزو ومن تحداه وانحاز إلى خيار "تحرير الكويت" الذى تحقق في حرب قادها "تحالف دولى" بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية عام 1991، وهى الحرب التى فرضت نتيجتين شديدتي التأثير على النظام العربى من منظور "درجة التماسك السياسي للنظام الأمنى العربى"، والقضية الفلسطينية، إلى جانب تحرير الكويت. فقد توجهت الولايات المتحدة الأمريكية عقب تحرير الكويت للعمل في مسارين مميزين، إلى جانب مسار احتواء وتفكيك الدولة العراقية وعزلها عن الجسد العربي وإخراج العراق نهائياً من معادلة الصراع العربي–الإسرائيلي.

المسار الأول؛ هو عرقلة المحاولة العربية لربط الأمن الخليجي بالأمن القومي العربي عبر مشروع "إعلان دمشق"، الذى كان يقضي باعتبار القوات المصرية والسورية التى شاركت في حرب تحرير الكويت نواة لربط الأمن الخليجي بالأمن القومي العربي.

والمسار الثاني؛ هو مسار حل القضية الفلسطينية عبر "مشروع مدريد للسلام" (أكتوبر-نوفمبر 1991) الذى أشرف عليه وزير الخارجية الأمريكي حينئذٍ جيمس بيكر، وانتهى بحصر الصراع مع إسرائيل في الدول التى لها أرض محتلة فقط، وإبعاد باقى الدول العربية عن مجرى الصراع، ومنذ ذلك الحين توارى مصطلح الصراع العربي-الإسرائيلي وحل محله مصطلح الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.

هذا الواقع العربى الجديد المأزوم أضحى حقيقة عربية أدت إلى انشطار النظام العربي وتداعي قدراته وفعاليته مقارنة بقدرات القوى الإقليمية الشرق أوسطية الأخرى المتنافسة على الزعامة الإقليمية في الشرق الأوسط عقب كارثتين أخريين؛ الأولى هي انفجارات واشنطن ونيويورك (11 سبتمبر 2001) وما ترتب عليها من شن الولايات المتحدة الأمريكية لـ"الحرب ضد الإرهاب" بدأت بغزو أفغانستان ثم غزو العراق واحتلاله عامي 2002 و2003 على التوالى. والثانية هي ما سمى بـ"ثورات الربيع العربي" حسب ما أسماها الإعلام الأمريكي وانتهت بفرض سيناريو "الفوضى البناءة" وما ترتب عليها من تدمير العديد من الدول العربية من الداخل، ضمن هذا السيناريو خاصة سوريا وليبيا واليمن، ومن ثم أضحى النظام العربي مأزوماً على ثلاث مستويات: على مستوى وحدات النظام في تلك الدول التي شهدت تلك "الثورات" إضافة إلى السودان الذى فرض عليه التقسيم وما تبعه من تفجير غير مسبوق للصراع الداخلي، وعلى مستوى العلاقات بين الدول العربية بتباين مصالح تلك الدول إزاء الأزمات التي واجهت الدول المأزومة وما ترتب على ذلك من تعقيدات في العلاقات العربية-العربية، ثم على مستوى علاقة النظام العربي بكل من بيئته الإقليمية (النظام الإقليمي للشرق الأوسط) وبيئته الدولية (النظام الدولى).

وهنا بالتحديد تجدر الإشارة إلى مجموعة من الملاحظات المهمة التى تمس "فعالية النظام العربي" وحدود الفرص المتاحة أمامه لتجديد مسيرة النهوض مجدداً عبر ما يمكن اعتباره "روافع" أو "مرتكزات النهوض" من خلال تشكيل "قلب جديد فعّال للنظام العربي" عن طريق نواة تشاركية تجمع من لديه استعداد من الدول العربية لخوض معركة النهوض العربي.

الملاحظة الأولى، أن دور القوى الخارجية (خاصة الولايات المتحدة الأمريكية ثم الاتحاد الأوروبي ثم روسيا والصين) كان طاغياً في إدارة النظام العربي، ومعه النظام الإقليمي الأوسع أي النظام الشرق أوسطي الذى يضم النظام العربي ضمن مكوناته.

الملاحظة الثانية، أن دور القوى الإقليمية الشرق أوسطية: إسرائيل وإيران وتركيا كان دوراً أكثر فعالية وأقوى تغلغلاً في إدارة الأزمات والقضايا العربية من أي دولة عربية ومن النظام العربي نفسه.

الملاحظة الثالثة، أن الأزمات التى تفجرت داخل العديد من الدول العربية خاصة سوريا وليبيا واليمن والسودان وصلت حالياً إلى مرحلة "الإرهاق"، سواء إرهاق القوى المحلية الداخلية المتصارعة أو إرهاق "قوى التدخل"، وأن معظم هذه الأطراف أضحت تواقة إلى تسوية هذه الأزمات، وهنا يمكن تلمس ملامح وجود فرص للنهوض مجدداً ابتداءً من أرضية تسوية الأزمات المتفجرة داخل النظام العربي.

البيئة الإقليمية للنظام العربي

تمارس البيئة الإقليمية للنظام العربي دوراً محورياً ومركزياً في تفاعلات النظام العربي من منظور ما تفرضه من تحديات وما تتيحه من فرص. ونعني بالبيئة الإقليمية تلك الروابط التى تجمع النظام العربي بالنظام الإقليمي الشرق أوسطي، باعتبار أن النظام العربي يُعد جزءاً، بل ومكوناً أساسياً في النظام الشرق أوسطي، تماماً كما أن النظام الشرق أوسطي جزء أساسي في النظام الدولي.

فالنظام العربي يعتبر واحداً من أربع كتل سياسية مميزة تكون معاً النظام الإقليمي الشرق أوسطي. فالنظام الشرق أوسطي يتكون من الكتلة العربية وتضم 22 دولة مقسمة بين أربعة مناطق لكل منها عناصرها السياسية المميزة هي: الجزيرة العربية والمشرق العربي ووادي النيل والمغرب العربي، وحديثاً شهدت هذه المناطق تشكيل نظم فرعية خاصة أبرزها مجلس التعاون لدول الخليج العربية (السعودية والإمارات وسلطنة عمان والكويت وقطر والبحرين) واتحاد المغرب العربي (الجزائر والمغرب وليبيا وتونس وموريتانيا)، وإن كان مجلس التعاون الخليجي قد شهد طفرات ضخمة من التقدم والتمايز لأسباب كثيرة فإن الاتحاد المغاربي واجه التعثر منذ تأسيسه لأسباب كثيرة أبرزها بالطبع التنافس الجزائري-المغربي بسبب أزمة الصحراء ومنظمة "البوليساريو" وجاءت الأزمة الليبية لتفاقم من تداعي هذا الاتحاد المغاربي. وأما الكتل الثلاث الأخرى المكونة لنظام الشرق الأوسط إلى جانب الكتلة العربية (كما يمثلها النظام العربي) فهي الكتلة الإيرانية، وتضم دولة واحدة هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والكتلة التركية وتضم دولة واحدة هي الجمهورية التركية، وأخيراً الكتلة الإسرائيلية (اليهودية) وتضم دولة واحدة هي إسرائيل.

العلاقة بين الكتلة العربية كما يمثلها النظام العربي وبين الكتل الأخرى الثلاث الشرق أوسطية كانت ومازالت محكومة بوجود ثلاثة مشروعات سياسية مميزة للكتل الشرق أوسطية الثلاث تلك هي: المشروع الإسرائيلي والمشروع الإيراني والمشروع التركي مع غياب لمشروع عربي قادر على التفاعل بكفاءة وتوازن مع هذه المشروعات. كانت بعض الدول العربية تتفاعل منفردة كل على حدة مع القوى الأخرى الثلاث: إسرائيل وإيران وتركيا، وإن كانت إسرائيل، بسبب خصوصية الصراع العربي–الإسرائيلي كانت تواجه بسياسات ومشاريع سياسية عربية ضمن النظام العربي أياً كان مستوى كفاءة تلك السياسات والمشاريع.

 فمنذ تأسيس النظام العربى الرسمى الحديث عام 1945 برزت العديد من الإشكاليات النظرية والعلمية فى علاقته بالنظام الإقليمى الأوسع المسمى بـ"النظام الإقليمى  للشرق الأوسط" رغم كل ما هو مثار من خلافات حول مفهوم إقليم الشرق الأوسط وحدوده. بعض هذه الإشكاليات كان يتصل بأنماط العلاقة بين النظام، والدول المحور والقائد لكل منهما، وحدود التداخل والاستقلال. ولقد ظل النظام الإقليمى العربى يحتفظ بدرجة عالية من الاستقلالية والخصوصية فى علاقته بنظام الشرق الأوسط بعد معارك ضارية استهدفت اختراق النظام العربى ومحاولة تذويبه فى نظام الشرق الأوسط أو تفكيكه، كان أهمها معركة الأحلاف، ومعركة الحرب الباردة العربية.

كانت هناك عوامل أساسية لتماسك النظام العربى وصموده أبرزها ما وفرته مصر من قدرات لهذا النظام، ودورها القائد وبالتحديد دور الزعامة الناصرية، ودور الأيديولوجية القومية. ولكن حدثت متغيرات وتطورات كثيرة بعد حرب عام 1967 منها تراجع الدور المصرى وبروز أولوية جديدة لمصر هى تحرير الأرض المحتلة، ثم وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وتغير أنماط التحالفات بتقارب مصر ومعظم الدول العربية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتوقيع مصر وإسرائيل اتفاقية السلام، ودخول دول عربية عملية السلام عقب المشاركة فى مؤتمر مدريد للسلام عام 1991. وجاءت "حرب الخليج الثانية" أو حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقى عام 1991 لتؤدي إلى الانسحاب العربى من حلبة المنافسة على قيادة النظام الإقليمي الشرق أوسطي.

عوامل التفكك التى أصابت النظام العربى بعد تلك الحرب والتى اكتملت بالغزو الأمريكى للعراق واحتلاله، تزامنت مع بروز أدوار قوى إقليمية شرق أوسطية استطاعت أن تفرض نفسها كفواعل أساسية فى تفاعلات النظام العربى خاصة إيران وتركيا ما أدى إلى حدوث قدر من ذوبان النظام العربي فى نظام الشرق الأوسط، حيث توارت المبادرات العربية لحل المشكلات والأزمات العربية مقارنة بأدوار ومبادرات كل من إيران وتركيا، وتزايد الدور الإسرائيلى المباشر أو غير المباشر فى بعض تلك القضايا.

هذا الوضع الانقسامى للنظام العربى المقترن بافتقاد الفعالية سواء على مستوى القيام بالوظائف المنوطة به أو على مستوى مواجهة التحديات التى تواجه الأمة، ازداد كارثية على ضوء بروز خريطة صراعات وتحالفات إقليمية جديدة فى ظل استقطاب حاد لقلب النظام الشرق أوسطى وتركزه فى ثلاثة قوى إقليمية أساسية هى إسرائيل وإيران وتركيا وتحول العرب إلى مجرد طرف فى تفاعلات هذا النظام، بدليل عدم خروج "القمة العربية الاستثنائية" التى عقدت فى مدينة سرت الليبية في 9 أكتوبر 2010 برؤية مشتركة لتطوير جامعة الدول العربية وتحويلها إلى اتحاد عربى، أو إقرار مشروع الأمين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى الخاص ببلورة إطار تفاعلى عصرى مع دول الجوار الإقليمى تحت اسم "رابطة الجوار الإقليمى".

إن جوهر التفاعلات الإقليمية، وكما عبرت عنها خريطة توزيع القوة بين الفواعل الأساسية للنظام، كشف عن أن هذا النظام أخذ يتجه إلى قيادة ثلاثية متصارعة؛ حيث تسعى إسرائيل إلى أن تفرض نفسها كقوة إقليمية مسيطرة، بينما ترفض إيران ذلك وتقوم بدور القوة المناوئة والساعية إلى فرض نفسها كقوة إقليمية بديلة، فى حين أن تركيا وإن كانت تبدو أنها راضية بدور المُوازِن الإقليمى Regional Balancer فإنها أيضاً حريصة على أن تكون قوة منافسة وإن كانت تعطى الأولوية لعناصر القوة الناعمة دون الخشنة عكس القوتين الإيرانية والإسرائيلية اللتين تعطيان أولوية، وبدرجات متفاوتة بالطبع، للقوة الخشنة دون تجاهل لأهمية ومكانة القوة الناعمة، وخاصة الأجهزة الاستخباراتية والدعائية.

وتعبر خريطة توازن القوى الإقليمية عن حالة اشتباك بين هذه المشروعات الإقليمية الثلاث وهى: المشروع الصهيونى–الإسرائيلى، والمشروع الإيرانى–الإسلامى، والمشروع التركى الذى مازال محكوماً بتفاعلات شديدة الخصوصية بين ما هو "أتاتوركى" وما هو "عثمانى جديد" دون استقرار على صيغة لمشروع واضح ومحدد المعالم يحقق لتركيا طموحاتها فى الاندماج بالاتحاد الأوروبى من ناحية ويحقق لها أيضاً نوازعها الشرقية بأبعادها الحضارية والتاريخية من ناحية أخرى.

التفاعل بين هذه المشروعات الثلاثة يؤثر بقوة على الأمن القومى العربى ويزيد الخيارات العربية تعقيداً، وبالذات بالنسبة للعلاقة مع إيران التى تثير انقساماً واضحاً فى الإدراك السياسى العربى، بعضه ناتج من خصوصيات المشروع الإيرانى وبعضه الآخر ناتج من تفاعلات هذا المشروع الإيرانى مع كل من المشروعين الإسرائيلى والتركى، حيث يظهر التنافس قوياً بين إيران وإسرائيل على كسب تركيا ضمن الصراع الأهم بينهما على فرض السيطرة والهيمنة الإقليمية.

هذا التنافس الإسرائيلى-الإيرانى على كسب تركيا كحليف فى مواجهة الآخر ضمن صراعات الهيمنة الإقليمية لم يكن على حساب جهود كل منهما لكسب النفوذ فى الإقليم على حساب الآخر خاصة الصراع على الملف النووى الإيرانى أولاً، والصراع ثانياً حول ملفات إقليمية كبرى ثلاث هى: الملف الفلسطينى والملف العراقى والملف اللبنانى، كما أن هذا التنافس الإسرائيلى–الإيرانى على كسب تركيا كحليف مُوازِن لم يمنع تركيا من التحرك باستقلالية لتحقيق مصالحها القومية من منطلق المشروع السياسى الذى يقوده حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان.

هذا المسعى التركى المحكوم باستراتيجية "العمق الاستراتيجى" فرض على تركيا أن تكون حريصة على إدارة علاقات متوازنة مع كل من إسرائيل وإيران، وأن تحافظ على دورها كوسيط فى معظم الأزمات والصراعات، مع تأكيدات مشددة أولها عدم طغيان دورها الشرق أوسطى أو "المشرقى" على مصالحها مع الاتحاد الأوروبى والتزاماتها فى حلف شمال الأطلسى (الناتو)، وثانيها نفى أى تطلع لطرح "عثمانية جديدة" فى محاولة لعدم الربط بين الدور التركى الجديد، والإرث السلبى للعثمانية التاريخية السابقة وبالذات الدور التسلطى المهيمن المتدثر بعباءة الخلافة الإسلامية.

مجمل التفاعلات بين هذه القوى الإقليمية الشرق أوسطية الثلاث ومشروعاتها السياسية من صراع إلى تنافس إلى تعاون صعوداً وهبوطاً تشكل البيئة الإقليمية للنظام العربي، وهذه البيئة الإقليمية على مشارف التعرض لتحولات مهمة يمكن أن تؤثر سلبياً على كفاءة واقتدار مشروعاتها السياسية في ظل ما تواجهه من تحديات مستحدثة سواء كانت المشروع الإسرائيلي- الصهيوني بعد التداعيات الداخلية الإسرائيلية والدولية لعملية "طوفان الأقصى" وحرب الإبادة الجماعية التى شنتها ومازالت تشنها حكومة اليمين الإسرائيلي برئاسة بنيامين نتنياهو، والمشروع الإيراني بعد "اختبار المصداقية" الصعب الذى تعرضت له إيران أيضاً ضمن تداعيات "طوفان الأقصى" وحرص إيران على "النأي بالنفس" عن الدخول مباشرة في حرب إقليمية ضد إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذى طرح علامات استفهام حول الأولويات الحقيقية للمشروع السياسي – الإقليمي الإيراني، إضافة إلى التحديات الداخلية المستحدثة بعد حادثة سقوط طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان شمال البلاد، وخاصة طرح سؤال "الخلافة السياسية"، حيث كان إبراهيم رئيسي ينظر إليه باعتباره "الوريث المنتظر" للولي الفقيه أو المرشد الأعلى على خامنئي. وفي الوقت ذاته، يواجه المشروع السياسي الإقليمي التركي تحديات البقاء في ظل تداعي مكانة حزب العدالة والتنمية على نحو ما حدث في الانتخابات البلدية الأخيرة التى حققت السيطرة لأكبر أحزاب المعارضة السياسية (حزب الشعب الجمهوري) وتعثر أردوغان في مواجهة متطلبات دعم المقاومة في غزة، كما يريد الشعب التركي والحفاظ على خصوصية العلاقة مع إسرائيل في الوقت ذاته، الأمر الذى نال كثيراً من مصداقية المشروع التركي الإقليمي، ونال من وزن تركيا كقوة طامحة للزعامة الإقليمية.

ببساطة شديدة، يمكن القول إن المشروعات الإقليمية الثلاث: الإسرائيلي والإيراني والتركي أضحت "مشروعات مأزومة" من منظور التحليل المستقبلي على النحو التالى:

1- لم يعد في مقدور إسرائيل أن تزعم استمرارية تطلعها للهيمنة وللزعامة الإقليمية، بعد كل التداعيات والتحولات الناتجة عن "طوفان الأقصى" داخلياً على المستوى الإسرائيلي وإقليمياً على المستوى الشرق أوسطي، أو المستوى الدولي على نحو ما يحدث داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي من ضغوط وتحديات تهدد المستقبل الانتخابي للرئيس جو بايدن وعلى مستوى الحركة الطلابية في كبرى الجامعات الأمريكية وعلى نحو ما يحدث على المستويين الرسمي والشعبي الأوروبي والعالمي.

مجمل مرتكزات "القوة" داخل إسرائيل وفي مقدمتها الجيش وتداعي تماسكه، وتفجر الصراعات السياسية على أعلى مستوياتها، وعجزها عن أن تدافع عن نفسها منفردة أمام ضربات المقاومة، واعتمادها المفرط على الدعم الأمريكي والتمويل العسكري الأمريكي وانكشافها كقوة "عاجزة" شديدة التبعية للولايات المتحدة، كلها تطورات تؤكد أن المشروع الإقليمي الإسرائيلي فقد جدارته وجاذبيته السابقة، حتى لو كانت هذه الجاذبية مصطنعة ودعائية، وأن إسرائيل تتحول فعلياً إلى "دولة منبوذة".

2- يواجه المشروع الإيراني حزمة غير مسبوقة من التحديات حالياً أبرزها فشله في إثبات مصداقية انحيازه لاعتباراته الأيديولوجية وكونه "قيادة إقليمية للمواجهة مع إسرائيل". فالحرص الإيراني الشديد على تجنب التورط في حرب إقليمية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل دفاعاً عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة الذى كان يتعرض لأبشع عملية إبادة جماعية وإصرار على التهجير القسري خارج البلاد، نال كثيراً من مصداقية المشروع الإيراني أمام أولوية اعتبارات "المصلحة الوطنية"، سواء كانت هذه المصلحة هي المحافظة على المشروع النووي الإيراني الذى أوشك على الاكتمال، وأضحت إيران قريبة جداً من أن تصبح "قوة نووية إقليمية" أو حتى "دولة حافة نووية"، أو كانت هذه المصلحة هى المحافظة على بقاء النظام وثباته.

في الوقت ذاته، من المرجح أن تنشغل إيران، لوقت غير قصير، بجهود "إعادة ترتيب البيت" من الداخل، بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهو الرئيس مسعود بزشكيان، حيث لم يتضح بعد مدى قدرة هذا الرئيس على استعادة التماسك الوطني الداخلي حول المشروع الإقليمي الإيراني الذى أضحى مادة "للصراع الداخلي" بين المتشددين والإصلاحيين، الأكثر ميلاً للحد من اندفاعية الدور الإقليمي الإيراني وإعطاء الأولوية للبناء الداخلي.

إضافة إلى ذلك، فإن إيران ستكون أكثر انشغالاً بمشروعها النووي، وستكون في حاجة إلى "قرار وطني" على أعلى المستويات يحسم الإجابة على السؤال الصعب: هل يجب أن تتحول إيران إلى قوة نووية متجاوزة فتوى سابقة للمرشد الأعلى ترفض امتلاك السلاح النووي باعتباره "سلاح دمار شامل" نظراً لفداحة الضغوط الخارجية التى تواجه إيران، وطموحاً إلى أن يؤدي اتخاذ مثل هذا القرار إلى استعادة التماسك السياسي حول النظام إلى عهده السابق أم تكتفي بأن تصل إيران إلى "ذروة" القدرة النووية على إنتاج السلاح النووي وتتوقف عند هذا الحد وتصبح "دولة حافة نووية"، أي دولة قادرة على امتلاك السلاح النووي وقتما تريد ذلك؟.

ضمن هذا الاهتمام، تعطي إيران أولوية لنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة (5 نوفمبر 2024) واحتمال وصول الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مرة ثانية. وتبحث من الآن كيف يمكن أن تتعامل إيران مع هذا الاحتمال، وكيف سيؤثر على مشروعها السياسي الإقليمي.

مجمل هذه الاعتبارات تقول أن المشروع الإقليمي الإيراني يواجه تحديات صعبة، وأن إيران ستكون مدفوعة لمراجعته، ومن ثم مراجعة منظومة علاقاتها الإقليمية وفي مقدمتها العلاقات مع دول الجوار الإقليمي خاصة الدول العربية، وعلاقاتها مع وكلائها الإقليميين في لبنان والعراق واليمن، دون تجاهل بالطبع ما سوف تسفر عنه الحرب على غزة ومعالم "اليوم التالى" لهذه الحرب، وأين ستكون المقاومة (حركتي حماس والجهاد) ضمن المعادلات الجديدة لوقف الحرب.

3- دخل المشروع التركي اضطرارياً مرحلة "المراجعة" لخيارين أولهما: طموح تحول تركيا إلى قوة إقليمية قائدة أو منافسة على القيادة في النظام الإقليمي الشرق أوسطي، وهو الطموح الذى غذته ودفعت به ما يمكن تسميته بـ "الأردوغانية" السياسية، بكل ما يتطلبه هذا الطموح من أيديولوجية سياسية قادرة على إغراء الدول أعضاء هذا النظام ومن قدرات عسكرية واقتصادية وسياسية قادرة على التفوق على القوتين الإقليميتين المتنافستين على الزعامة الإقليمية: إسرائيل وإيران، وثانيهما العودة ثانية إلى خيار الدور التركي التقليدي السابق في معادلة الصراع الإقليمي بالشرق الأوسط أي دور "الموازن الإقليمي" الذى يتمتع بعلاقات متوازنة ومتوازية مع الكتل "القومية" الثلاث بالإقليم: العرب وإيران وإسرائيل، ويملك قدرات حل الصراعات بين هذه الكتل.

هناك ثلاث دوافع لهذه المراجعة هي:

أ- تراجع الإسناد الشعبي الداخلي لحزب العدالة والتنمية كما أظهرته الانتخابات البلدية الأخيرة (31/3/2024) التى كشفت مدى عجز الرئيس أردوغان وحزبه الحاكم في منافسة نفوذ جماهيري طاغٍ لحزب الشعب الجمهوري المعارض ومشروعه السياسي المناوئ للمشروع الأردوغاني، والداعي للعودة التركية إلى "الأتاتوركية السياسية"، الأكثر علمانية من المنظور الأيديولوجي، والأكثر ارتباطاً بالغرب الأوروبي والأمريكي، والبعيد عن "توجهات الشرق" والجوار الإسلامي التى ارتكز عليها مشروع "الأردوغانية السياسية".

اللقاء "التاريخي" و"الاضطراري" بين الرئيس أردوغان والزعيم الجديد لحزب الشعب الجمهوري زعيم المعارضة أوزغور أوزيل (2/5/2024) الأول من نوعه منذ 8 سنوات، كشف عن مدى حرص الرئيس أردوغان على "إنقاذ ما يمكن إنقاذه" من مشروعه السياسي في وقت يعاني فيه حزب العدالة والتنمية من انحسار في جماهيريته، في وقت رفع فيه مصرف تركيا المركزي توقعاته للتضخم بنهاية العام نقطتين إلى 38% بدلاً من 36%.

ب- فشل النظام التركي في اختبار "القوة الإقليمية" أمام عدوانية الحرب الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. فالحكومة التركية كانت حريصة على استمرار علاقات التعاون مع إسرائيل في وقت تتصاعد فيه الحرب ضد الشعب الفلسطيني في غزة، مما اضطرها، عقب معاقبة الشعب التركي للنظام على هذه السياسة، إلى محاولة ضبط العلاقات مع إسرائيل. فقد كشف تقرير لجنة تحقّق شكلها حزب العدالة والتنمية لتلمس أسباب خسارة الحزب الانتخابات البلدية الأخيرة أن نحو 7 ملايين ناخب من أبناء الحزب انصرفوا عن دعم الحزب في تلك الانتخابات ما أدى إلى خسارته نحو 28 مدينة وبلدية في الانتخابات منها بلديات كبرى مثل اسطنبول وأنقرة وأزمير، وفسر التقرير هذا "العزوف الجماعي" عن دعم الحزب بالعديد من الأسباب أبرزها "الموقف السلبي لرئاسة الجمهورية والحكومة من التطبيع مع إسرائيل"، ولعل هذا ما دفع الحكومة التركية إلى اتخاذ إجراءات لوقف جميع عمليات التصدير والاستيراد إلى إسرائيل، في وقت كان قد وصل فيه حجم التجارة التركية مع إسرائيل إلى 6,8 مليار دولار في عام 2023.

ج- عودة تركيا للتركيز مجدداً على الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي لدرجة القبول بمقايضة الموافقة التركية على انضمام السويد والدنمارك إلى حلف شمال الأطلسي بالحصول على مؤشرات عملية لقبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي خلال قمة حلف شمال الأطلسي في فينلينوس عاصمة ليتوانيا منذ عدة أشهر.

حرص تركيا على استعادة "التوجه الغربي" سيكون على حساب التوجه "الشرقي" نحو الجوار الإسلامي وعلى حساب أولوية المنافسة على دور زعامي في النظام الإقليمي الشرق أوسطي، ولعل في حرص تركيا على إمداد أوكرانيا بطائراتها المسيرة استرضاء للأمريكيين والأوروبيين وعلى حساب العلاقة التركية مع روسيا، ما يؤكد جدية هذا التوجه التركي.

وفق هذا التحليل، يمكن القول إن المشروعات السياسية الإقليمية المتنافسة على "الزعامة الإقليمية" في الشرق الأوسط باتت مأزومة، ودخلت ثلاثتها في أطوار المراجعة، الأمر الذى يعني أن الكتلة العربية أضحت أمام "فرصة تاريخية" وغير مسبوقة لتعود مجدداً إلى "قلب النظام".

البيئة الدولية للنظام العربي

يواجه النظام العربي بيئة دولية شديدة التعقيد تغلب فيها التفاعلات الصراعية على التفاعلات التعاونية، في حين أن التفاعلات التنافسية باتت محدودة في ظل طغيان هواجس التهديد المتبادل وغياب الثقة بين القوى الدولية الكبرى في ظل تدنِ غير مسبوق لمكانة ودور المنظمات الدولية خاصة الأمم المتحدة وبتحديد أكثر مجلس الأمن الذى أضحى عاجزاً عن اتخاذ قرارات حاسمة لضبط التوترات والصراعات التى تهدد السلم والأمن الدوليين.

فالعالم أضحى مسكوناً بهواجس عودة الحرب الباردة بين القوى العظمى في النظام الدولي، ولم يعد مستبعداً الحديث عن احتمالات التورط في استخدام أسلحة نووية في الصراعات الساخنة بين القوى العظمى بعد أن باتت هذه القوى عاجزة عن ضبط تلك الصراعات، على نحو ما يجري الترويع منه من جانب روسيا رداً على ما يتردد من تدخل عسكري مباشر لدول حلف الأطلسي (الناتو) في الحرب الأوكرانية، أو إعطاء ضوء أخضر من الولايات المتحدة وشركائها في "الناتو" لأوكرانيا باستخدام ما حصلت عليه من أسلحة متطورة لضرب العمق الروسي.

الوصول إلى هذا المستوى من "الخطر" هو تعبير صارخ عن الصراع المتفجر بين القوى العظمى للسيطرة على النظام العالمي أو فرض نظام عالمي جديد بديل أكثر ديمقراطية وتعددية. فالعالم يعيش الآن صراعاً تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها للحفاظ على السيطرة الأمريكية على النظام العالمي، في حين تسعى كل من روسيا والصين إلى إسقاط النظام الحالي إحادي القطبية الخاضع للهيمنة الأمريكية واستبداله بنظام آخر بديل متعدد الأقطاب.

فالولايات المتحدة تخوض مدعومة بقوى النظام الرأسمالى العالمى "مجموعة الدول الصناعية السبع" وبقوة التحالف الأطلسي "حلف الناتو" معركتين فى آن واحد من أجل الحفاظ على تفردها بقيادة النظام العالمى وتسخيره لخدمة أمنها ومصالحها العليا. المعركة الأولى ضد روسيا وشخص الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ليس فقط من أجل إحباط وكسر طموحه فى تغيير النظام العالمى وفرض نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب تكون روسيا شريكة فى صنعه وقيادته، بل كسر روسيا من الداخل وتحويل حرب أوكرانيا إلى هزيمة لروسيا وشخص بوتين على أمل إسقاط النظام الروسى فى محاولة انقلابية تأتى كرد فعل داخلى للهزيمة التى يجرى ترتيبها له فى أوكرانيا، ومن ثم جعل روسيا إما دولة أوروبية طيّعة للقيادة الأمريكية أو تقسيمها إلى دويلات متصارعة والدفع بها لتكون إحدى دول العالم الثالث على نحو ما كان الطموح الأمريكى عقب سقوط الاتحاد السوفيتى. أما المعركة الثانية المتلازمة والمتزامنة مع تلك المعركة الدائرة ضد روسيا انطلاقا من الأراضى الأوكرانية، فهى معركة احتواء القوة الصينية الصاعدة وتحجيمها عند حدود ما دون الخطر، لإدراكها أن الصين، وفقاً لنص استراتيجية الأمن القومى الأمريكية، وما حرص وزير الخارجية الأمريكى انتونى بلينكن على إعادة تأكيده، "هى البلد الوحيد الذى يسعى لإعادة تشكيل النظام الدولى ولديه القدرة العسكرية والتكنولوجية والدبلوماسية على تحقيق ذلك".

فالصين لم تعد توصف فقط بأنها "مصنع العالم" أو أنها الاقتصاد الثانى فيه، ومالكة "ثورة تكنولوجية" هائلة ومتسارعة، أو لقدرتها العسكرية المتصاعدة، بل أيضاً لأن "طرقات الحرير الجديدة" التى هى "المشروع الاستراتيجى للصين" لم تعد مجرد مشروع اقتصادى، بل باتت، من المنظور الأمريكى، استراتيجية صينية لإعادة تشكيل النظام العالمى.

وإذا كانت الولايات المتحدة قد اتخذت قرارها بالانخراط الفعلى فى الحرب الأوكرانية، التى لم تعد مجرد حرب روسية-أوكرانية، بل أضحت حرباً أمريكية- أوروبية ضد روسيا فى أوكرانيا، فإنها، أى الولايات المتحدة، شديدة الحرص على عدم التورط فى حرب ثانية فى الشرق الأقصى ضد الصين، والعمل بشتى الطرق على تأجيل الحرب مع الصين سواء فى تايوان أو فى إقليم المحيطين الهندى–الهادى الذى يعد أرض المعركة الحقيقى الذى تجهز له الولايات المتحدة ضد الصين، ولكن إلى حين تقرره واشنطن. تقدير زمن الحرب الأمريكية ضد الصين محكوم أولاً بالمدى الذى ستأخذه الحرب الأوكرانية والنهاية التى سوف تنتهى إليها، لكن الأهم هو إعداد مسرح الأحداث الإقليمى (جنوب وجنوب شرق آسيا) لخوض تلك المعركة بنجاح، والنجاح هنا ليس له غير معنى واحد هو إنهاء الطموح الصينى فى تعديل موازين القوى الدولية.

وإذا كانت الولايات المتحدة قد خاضت مواجهات أو مناوشات مع الصين على مدى العقد الماضى والسنوات الأولى من هذا العقد كانت ساحتها هى عرقلة المشروع الصينى بضم تايوان إلى الوطن الأم أى الصين الشعبية، إضافة إلى الساحة الثانية وهى كوريا الشمالية بالعمل الدءووب على جعل كوريا الشمالية "دولة مارقة منبوذة" عالمياً ومحاصرة قدراتها العسكرية المتصاعدة، فإن جديد الاستراتيجية الأمريكية فى الإعداد للحرب المنتظرة ضد الصين هو توسيع مساحة المواجهة مع الصين عبر التأسيس لشراكات استراتيجية مع دول شرق وجنوب شرق آسيا جنباً إلى جنب مع عسكرة اليابان قسرياً ودفعها لتكون شريكاً فى تحالف استراتيجى جديد فى تلك المنطقة يضم الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا واليابان وكوريا الجنوبية.

ففى زيارته الأولى إلى جنوب شرق آسيا منذ توليه منصبه التى حضر خلالها افتتاح اجتماع فى كمبوديا مع زعماء رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان) التى تضم 10 دول معاً، أكد الرئيس الأمريكى جو بايدن أن المنطقة تقع فى قلب استراتيجية إدارته لمنطقة المحيطين الهندى والهادى، وأن واشنطن ستخصص موارد، وليس مجرد إطلاق وعود، فى إطار شراكة استراتيجية شاملة جديدة. وقال فى افتتاح ذلك الاجتماع: "سنبنى منطقة للمحيطين الهندى والهادى تكون حرة ومنفتحة ومستقرة ومزدهرة ومرنة وآمنة".

وإذا كانت الولايات المتحدة قد نجحت فى توظيف حلف شمال الأطلسي (الناتو) فى حربها الدائرة ضد روسيا فى أوكرانيا، فإنها تتجه الآن إلى تأسيس حلف موازٍ جديد فى منطقتى المحيط الهندى والمحيط الهادى "حلف أوكوس" الذى يضم الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا لخوض الحرب المنتظرة ضد الصين، وفى خطوة وصفت بأنها "أكبر مسعى لمواجهة النفوذ المتنامى للصين".

وجنباً إلى جنب مع هذا الحلف، تشكل الولايات المتحدة تحالفاً عسكرياً آخر مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية، وهو المشروع الذى دخل حيز التنفيذ الفعلى بإقرار اليابان إجراء تغييرات هيكلية لاستراتيجيتها الدفاعية، وصفت بأنها "رؤية دفاعية ثورية" تمثل خروجاً عن دستور البلاد فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذى وضع قيوداً على "قوات الدفاع الذاتى" وقد كشف رئيس الوزراء اليابانى فوميو كيشيدا عن هذه الاستراتيجية التى وصفها بأنها "نقطة تحول فى سياسات الأمن القومى لليابان".

وقد أقرت الحكومة اليابانية ثلاث وثائق أمنية رئيسية هى: استراتيجية الأمن القومى الجديدة (NSS) التى تعد الأكثر أهمية بين الوثائق الثلاث، واستراتيجية الدفاع الوطنى (NDS)، وبرنامج بناء الدفاع (DBP)، ومن المقرر أن تشكل الوثائق الثلاث معاً استراتيجية البلاد الشاملة وسياستها الدفاعية وأهدافها للاستحواذ الدفاعى فى المستقبل القريب، وبموجب استراتيجية الأمن القومى الجديدة تعهدت اليابان بزيادة انفاقها الدفاعى إلى 2% من الناتج المحلى الإجمالى، وأعلن عن خطة بقيمة 320 مليار دولار هى الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، لبناء الجيش بحلول عام 2027 وتبلغ ميزانية الدفاع للعام الحالى 55 مليار دولار بزيادة قدرها 20% وهى الخطوة التى ستجعل اليابان ثالث أكبر ميزانية دفاع فى العالم بعد الولايات المتحدة والصين.

هذا التوجه العسكرى اليابانى الجديد مرتبط بقوة بمعاهدة الدفاع المشترك مع الولايات المتحدة، لذلك كان التوجه الأمريكى-اليابانى المشترك لتوسيع هذه الاتفاقية لتشمل الدفاع الفضائى على نحو ما ورد على لسان لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكى، ضمن خطوة اعتبرت أنها لمواجهة تزايد القدرات الصينية عبر الأقمار الصناعية.

هذه الاستعدادات الأمريكية لحرب لم تعد مستبعدة مع الصين باتت تستحوذ على العقل الاستراتيجى الأمريكى لبلورة توجه استراتيجى جديد لعولمة المواجهة مع الصين وروسيا فى إطار الترويج لـ"الحرب ضد الاستبداد" باعتبارها العنوان الجديد للحرب التى ستشغل العالم بعد أن أخذ مفهوم "الحرب ضد الإرهاب" يتراجع فى ظل أولوية هدف الدفاع عن التفرد الأمريكى فى السيطرة على العالم.

في الوقت ذاته، تخوض كل من روسيا والصين، كل بطريقتها، المعركة لإفشال كل هذه المساعي الأمريكية في ظل حرص شديد على تعميق الشراكة الاستراتيجية بينهما. فالزيارة التى قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للصين (15-16/5/2024) ، وهي أول زيارة له للخارج بعد تجديد انتخابه للمرة الخامسة رئيساً لروسيا، وهي أيضاً الزيارة الثانية له للصين خلال ستة أشهر، حددت أولويات التحرك الروسي–الصيني المشترك لمواجهة استحقاقات "التغيرات المتسارعة في العالم"، وأسفرت عن وضع "إطار مشترك" للتحرك السياسي.

من أبرز ما صرح به الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبينج خلال هذه الزيارة القول بأنه "في عالم اليوم لا تزال عقبة الحرب الباردة منتشرة، وتشكل الهيمنة الأحادية تهديداً مباشراً للسلام العالمي وأمن جميع البلدان". وأكد الرئيس الروسي أن البلدين يعملان معاً لـ"إنشاء نظام عالمي عادل يعتمد على القانون الدولى" وتحدث عن "ضرورة العمل على إقامة بنية أمنية موثوقة ومناسبة في منطقة آسيا والمحيط الهادي"، مؤكداً "تطابق وجهات نظر موسكو وبكين على أن إنشاء تحالفات عسكرية سياسية مغلقة في المنطقة أمر ضار، ويؤدي إلى نتائج عكسية"، وقال أن روسيا والصين تعتزمان مواصلة الجهود من أجل تحقيق التكامل بين "الاتحاد الاقتصادي الأوراسي" ومبادرة "حزام واحد طريق واحد"، وتضمن الإعلان السياسي المشترك الذى جرى التوقيع عليه إلى جانب عشرة وثائق موجهة لتعميق الشراكة والتعاون بين البلدين، تحديد أبرز الاهتمامات الصينية–الروسية المشتركة لمواجهة سياسة التفرد والهيمنة الأمريكية، على النحو التالى:

- في مواجهة سيطرة هواجس "الحرب الباردة" و"المواجهة بين الكتل على السياسة الأمريكية" اتفق الرئيسان على ضرورة تعزيز التنسيق والتعاون الثنائي في كل المجالات لمواجهة التحديات الجديدة.

- دعم الصين لروسيا باعتبارها رئيسة مجموعة "بريكس" هذا العام، وضرورة إنجاح القمة السادسة عشرة للمجموعة التى سوف تستضيفها روسيا هذا العام وتعزيز آليات عملها.

- استعداد الطرفين الروسي والصيني لمواجهة التهديدات المختلفة على "الإنترنت" بشكل مشترك، بما في ذلك العمليات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والدعوة إلى نظام عالمي متعدد الأطراف وشفاف لإدارة "الإنترنت" مع ضمان أمن القطاعات الوطنية.

- تأكيد الصين دعم جهود الاتحاد الروسي لضمان سيادته وسلامة أراضيه، ومعارضتها التدخل في شئونه الداخلية.

- أكد الطرفان أن الدولتين مقتنعتان بأنه لا يمكن لأي دولة أن تضمن أمنها على حساب أمن الآخرين، ولذلك دعت موسكو وبكين الجهات الأخرى في السياسة الدولية إلى التوقف عن اتباع سياسة المواجهة، ومحاولات التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى.

- رفض الاستراتيجية الأمريكية لمنطقة "المحيطين الهندي والهادى" والتشديد على معارضتهما لإنشاء تحالفات عسكرية ضد دولة ثالثة في منطقة آسيا والمحيط الهادى، وأعربت الدولتان عن قلقهما بشأن العواقب السلبية لتلك الاستراتيجية الأمريكية على الاستقرار الاستراتيجي في منطقة "آسيا والمحيط الهادي" نتيجة لتنفيذ مشروع تحالف "أوكوس".

- إدانة نشر الأسلحة الصاروخية في منطقة آسيا والمحيط الهادي وأوروبا باعتبارها تشكل تهديداً مباشراً لأمن الصين وروسيا.

- تأكيد الطرفين على معارضتهما لمحاولات الهيمنة التى تقوم بها الولايات المتحدة لتغيير ميزان القوى في شمال شرق آسيا من خلال بناء القوة العسكرية.

هذا التصعيد غير المسبوق بين ما يمكن اعتباره تكتلين الأول أطلسي تقوده الولايات المتحدة والثاني صيني–روسي يحدث في ظل ظروف صعبة لكل الأطراف الرئيسية في الصراع أو الأطراف الداعمة على النحو التالى:

1- إن الولايات المتحدة، وهي تندفع لخوض "حرب باردة جديدة" مع روسيا أو الصين، ليست في أفضل أحوالها، فالمؤشرات تتوالى أمريكياً لتؤكد أن "القوة الأمريكية إلى أفول" من منظور تحليل مرتكزات القوة الأمريكية مقارنة بالقوة الصينية والتقدم الذى يحدث لصالح "مجموعة بريكس" مقارنة بالأحوال الاقتصادية للدول الصناعية السبع، ووجود احتمال لنجاح قمة "بريكس" المقبلة هذا العام في روسيا في التوصل إلى قرارات مهمة تستهدف النيل من الدولار الأمريكي.

يحدث هذا في ظل ارتفاع وتيرة الصراعات الداخلية الأمريكية كما تعكسها حملات الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة (5 نوفمبر 2024) التى تكشف عن أن الرئيس جو بايدن يواجه تدنٍ غير مسبوق في شعبيته بسبب تخلي قطاعات واسعة في الحزب الديمقراطى عن دعمه بسبب انحيازه المفرط لإسرائيل، أما المرشح المنافس عن الحزب الجمهورى دونالد ترامب فقد أكدت محكمة نيويورك إدانته (30/5/2024) في الجرائم المنسوبة إليه.

2- تعرض الكتلة الأوروبية الحليفة للولايات المتحدة، كما تعبر عنها سياسة الاتحاد الأوروبي، إلى انقسام حاد حول الحرب الأوكرانية، بين رافض لمواصلة الدعم وبين حريص عليه، كما تواجه ميلاً لوضع حدود للتبعية الأوروبية للولايات المتحدة ودعوة إلى إحياء القوة العسكرية الأوروبية المستقلة عن الولايات المتحدة على نحو ما عبر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذى كان حريصاً على أن يجعل زيارة الدولة التى قام بها الرئيس الصيني شي جينبينج لباريس (3-4/5/2024) زيارة من أجل دعم العلاقات الأوروبية مع الصين، وما يحمله هذا التوجه من أبعاد سلبية للعلاقات الأوروبية-الأمريكية، أكدته زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس لبكين (13/4/2024)، وكلها مؤشرات تؤكد أمرين؛ أولهما أن أوروبا باتت أكثر ميلاً للتحرر من التبعية للولايات المتحدة وهو ميل يرجع إلى تفاقم التخوف من حدوث تحولات سلبية في السياسة الأمريكية نحو أوروبا في حالة فوز دونالد ترامب بالرئاسة، وفقاً لتصريحاته السلبية التى أدلى بها بخصوص مستقبل العلاقات الأمريكية-الأوروبية وموقفه من الحرب الأوكرانية.

وثانيهما، أن أوروبا وهي تسعى للتحرر من الهيمنة الأمريكية ليست موحدة في سياساتها، بل إن الانقسامات تتعمق، نتيجة لصعود التيارات اليمينية إلى السلطة في العديد من الدول الأوروبية، وما تحمله هذه التيارات من اقتراب من روسيا ومن ميل للاستقلالية الوطنية على حساب الوحدة الأوروبية.

3- إن روسيا لم تستطع حسم الحرب الأوكرانية لصالحها حتى الآن رغم مرور أكثر من عامين على اندلاعها. إطالة أمد الحرب بدأ يؤثر على التماسك السياسي داخل روسيا، ولعل في حادثة "مجموعة فاجنر" وتمردها على السلطة في روسيا، ثم إقالة نائب وزير الدفاع، وبعده وزير الدفاع نفسه سيرجي شويجو الذى يعد أحد أهم أركان النظام، يكشف عن وجود تململ داخلي روسي يمكن أن يؤثر سلبياً على القرار السياسي. كما أن إطالة أمد الحرب أخذ يدفع باتجاه توسيع رقعتها ودخول حلف الأطلسي كطرف مباشر في الحرب واستخدام أسلحة قادرة على نقل المعركة إلى الأرض الروسية، بكل ما يعنيه ذلك من إرباك لروسيا.

4- تفاقم الاستفزاز الأمريكي للصين في تايوان ما يعني أن الصين لن تكون متفرغة لمهام "البناء" لمشروعها الاستراتيجي العالمي بالقدر الذى تأمله. فبعد فوز لاري تشينج المدعوم أمريكياً برئاسة تايوان، وهو من وصفته بكين بأنه "انفصالى خطير"، واعتبرت فوزه بالرئاسة وخطابه الذى ألقاه في حفل تنصيبه (21/5/2024) "اعترافاً باستقلال تايوان"، ردت الصين على لسان وزير خارجيتها وانج ييى بالتأكيد على أن "توحيد الصين أمر لا رجوع عنه"، مشيراً إلى أن "السلوك الانفصالي يشكل التحدي الأخطر للنظام الدولى، والتغير الأخطر للوضع القائم في تايوان".

الأمر الملفت هنا أن روسيا الحريصة على الدعم الصيني لسياستها في أوكرانيا ولاستقرارها ووحدتها الوطنية، بادرت، وبقوة، بالدخول كطرف على خط التصعيد ضد السياسة الأمريكية في تايوان وقالت الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية أن واشنطن، والبلدان التي تدور في فلكها "تواصل التصعيد في مضيق تايوان، وتقويض الاستقرار والأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وتعرقل توحيد الصين بشكل سلمي".

مجمل هذه التطورات تعني أمرين بالنسبة للنظام العربي؛ أولهما أن الصراع أضحى غالباً ومسيطراً على تفاعلات القمة في النظام الدولى، وثانيهما أن أجندة النظام الدولي باتت مفعمة ومتخمة بالتنازعات المتبادلة، وهذا كله يؤشر إلى وجود حالة انشغال غير مسبوق في أجندة النظام الدولى، مثل هذا الانشغال الذى يسيطر على تفاعلات النظام الدولى في قضايا تخص القوى الكبرى المتنازعة على الزعامة الدولية يحمل في طياته، رغم ما يتضمنه من تحديات، فرصاً للنظم الإقليمية، ومن بينها النظام العربي، للتحرك المستقل بعيداً عن دوافع التدخل الدولي في الشئون الداخلية للنظام.

هذه الفرص يدعمها حالة "انشغال" مشابهة للقوى الإقليمية الشرق أوسطية: إسرائيل وإيران وتركيا، في قضايا تخص إعادة ترميم وإصلاح مشروعاتها السياسية. هذا الانشغال الدولي والإقليمي بأجندات خاصة ومتداخلة، يفرض طرح سؤال مهم هو: هل في مقدور النظام العربي أن يستغل هذه الفرص وأن يبدأ هو الآخر في ترميم قدراته وإعادة التأسيس لمشروع عربي للنهضة والتقدم يكون في مقدوره استعادة وضع العرب ومكانتهم كقوة إقليمية قائدة في نظام الشرق الأوسط؟

التأسيس لقاعدة تشاركية للنهوض العربي مهمة تاريخية

السؤال أعلاه يكشف أبرز استخلاصات تحليل ما تموج به البيئتان الإقليمية والدولية للنظام العربي من تفاعلات في نتيجة تقول أن هذا هو أوان استعادة جهود التأسيس لمشروع عربي للنهضة يرتكز على قاعدة إعادة تفعيل النظام العربي وإكسابه قدرات النهوض دون عوائق إقليمية ودولية على نحو ما سبق أن حدث في تجارب نهضوية عربية حاولت القيام بالمهمة لكنها دفعت إلى الانتكاس بفعل ضغوط إقليمية ودولية كانت ترى في هذا النهوض العربي تهديداً لمصالحها في ما تسميه بـ "المنطقة" والمعنى هنا هو عالمنا العربي الذى هو القلب الحقيقي للنظام الإقليمي الشرق أوسطي الذى هو مهد الحضارات والديانات وامتلاك الثروات والقدرات.

وإذا كانت كل محاولات استنهاض النظام العربي السابقة لم تفلح لغياب "القيادة" القادرة على قيادة النظام وتحديد أولوياته، فإن مهمة توفير هذه "القيادة" العربية للنظام أضحت مهمة "حيوية" ليس فقط للنهوض بل وأيضاً للحيلولة دون "السقوط الكامل".

وإذا كانت تجربة النهوض العربي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي قد تعثرت بسبب ما سمى بـ"الحرب الباردة العربية"، فإن الظروف الإقليمية والدولية الراهنة، كما تم عرضها، باتت مواتية لتأسيس نواة لقيادة النظام العربي يمكن أن تضع نصب أعينها هدفاً محدداً مستقبلياً هو "الاتحاد العربي" على نحو ما فعلت تجربة الاتحاد الأوروبي، عبر "قيادة تشاركية" وليس "قيادة انفرادية"، وأن تضع جدول أعمال للنهوض العربي يبدأ بالتنسيق ثم بالتعاون ثم بالاتحاد بين القدرات الاقتصادية والعسكرية والسياسية العربية. فمنهاجية "التعاون المتبادل" هي المنهاجية الأرجح في تجارب التكامل العالمية، وفي مقدورها أن تذيب أية خلافات في الرؤى أو تباين في القدرات بين الدول العربية.

هذا التوجه محكوم بإطار زمني محدود، لأن تجاوز هذا الإطار الزمني ربما يؤدي إلى انتكاسة تجربة التكامل المأمولة، خشية حدوث تحولات جديدة، لم تعد مستبعدة في كل من البيئة الإقليمية والبيئة الدولية للنظام العربي.

فحرب الإبادة الجماعية التى تشنها إسرائيل وتمتد على أرض قطاع غزة منذ اندلاع عملية "طوفان الأقصى" التى شنتها حركة حماس في 7 أكتوبر 2023، وما طرحته القيادة الإسرائيلية من أهداف، مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية خاصة بريطانيا وفرنسا وألمانيا، تؤكد أن هناك مشروعاً جديداً للشرق الأوسط يجري فرضه على وطننا العربي، كانت بدايته ما أعلنه بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (سبتمبر 2023) من مشروع شرق أوسطي جديد تقوده إسرائيل لإعادة صياغة الترتيبات الأمنية والإقليمية في المنطقة.

هناك تصور، ربما يكون صحيحاً، يقول أن عملية "طوفان الأقصى" أسقطت هذا المشروع الجديد. وإذا كان هذا صحيحاً، فقد أضحى من الضروري البناء على هذا الاحتمال، بإعادة تأسيس جديد لنظام عربي حقيقي يقود الأمة مجدداً إلى وحدتها الجغرافية والتاريخية ضمن سياق نهضوي حضاري باتت مؤهلة للنهوض به.