بعد الجولة الأخيرة من التصويت في الانتخابات التشريعية الفرنسية والتي أجريت في 7 يوليو 2024، كشفت النتائج الرسمية أن البرلمان القادم سوف يكون مُعلَّقاً أو بمعنى أدق "رمادياً". إذ لم يحقق أي حزب الأغلبية المطلقة التي تحتاج إلى 289 مقعداً. وخلافاً لاستطلاعات الرأي التي أجريت قبل التصويت، فإن حزب التجمع الوطني- اليميني المتشدد الذي تتزعمه مارين لوبان ويرأسه جوردان بارديلا- لن يكون القوة الأكبر في مجلس النواب بالبرلمان في دورته الجديدة.
فبعد حصوله على أكبر حصة من الأصوات في الجولة الأولى، فاز بـ 143 مقعداً فقط (بما في ذلك حلفاؤه اليمينيون بقيادة إريك سيوتي). وهذا أقل بكثير من الجبهة الشعبية الجديدة- وهو تحالف يساري- التي حصلت على 182 مقعداً وحلت في المركز الأول فيما شكل مفاجأة سياسية مدوية.
فيما مُني "ائتلاف الوسط"- الذي يتزعمه الرئيس إيمانويل ماكرون- بهزيمة، لكنه حصل على 168 مقعداً. ورغم أن تحالفه لن يكون سوى ثاني أكبر كتلة في الجمعية الوطنية المؤلفة من 577 مقعداً، إلا أن ذلك يمثل نتيجة أفضل مما توقعته استطلاعات الرأي.
أما الجمهوريون المتبقون - الذين استبعدوا العمل مع الجبهة الشعبية - فقد فازوا بـ 46 مقعداً. وقد جاءت تلك النتيجة بسبب تحالف اليسار والوسط لعدم تقسيم الأصوات المناهضة لحزب التجمع الوطني، حيث استقال أكثر من 200 مرشح عن كتلة الجبهة الشعبية وائتلاف "معاً" في الدوائر الانتخابية التي فاز فيها ثلاثة مرشحين بما يكفي من الأصوات للوصول إلى جولة الإعادة النهائية في نظام الجولتين الفرنسي. وقد أدت هذه المناورة- الشائعة في الانتخابات الفرنسية- إلى تقليص فرص حزب التجمع الوطني في الحصول على الأغلبية بشكل كبير.
إعادة رسم الخريطة السياسية
وصف الرئيس ماكرون ائتلاف اليسار بأنه "متطرف"، وحذر من أن برنامجه الاقتصادي يتضمن عشرات المليارات من اليورو في الإنفاق العام، الممول جزئياً من خلال زيادة الضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة وعلى الثروات. ومع ذلك، سارع قادة الجبهة الشعبية الجديدة إلى الضغط على ماكرون لمنح التحالف الفرصة الأولى لتشكيل حكومة واقتراح رئيس للوزراء. وقال أبرز زعماء الائتلاف اليساري جان لوك ميلينشون زعيم حزب فرنسا الأبية الشعبوي المتطرف إنه "مستعد للحكم"، واستبعد تشكيل ائتلاف واسع يضم أحزاباً ذات توجهات مختلفة، وقال إن على ماكرون دعوة التحالف اليساري للحكم.
في مقابل ذلك، أبدى رئيس حزب ماكرون، ستيفان سيغورني، استعداده للعمل مع الأحزاب الرئيسية، ولكنه استبعد أي اتفاق مع حزب ميلينشون. وينص الدستور على أن ماكرون هو الذي يختار من سيقوم بتشكيل الحكومة، ولكن يجب على الشخص المختار أن يحصل على ثقة الجمعية الوطنية، التي ستنعقد في 18 يوليو لمدة 15 يوماً. وهذا يعني أن ماكرون يجب أن يسمي شخصاً يحظى بقبول أغلبية المشرعين، على نحو يطرح عدداً من السيناريوهات في هذا الصدد ويتمثل أبرزها في:
1- تشكيل حكومة أقلية من تكتل الجبهة الشعبية اليساري، على نحو يعود بفرنسا لما يسمى بفترة التعايش، أي رئيس جمهورية من حزب ورئيس حكومة من حزب آخر مختلف تماماً في التوجهات، وهو مسار ينتج في بعض الأحيان أزمات سياسية، لكن سبق اختباره في فترات حكم الرؤساء السابقين جاك شيراك وفرانسوا ميتران. لكن اللافت أن ذلك ربما لا يمثل المشكلة الوحيدة، إذ يبقى أن تتفق الأحزاب المشاركة في تحالف اليسار على اسم لرئيس الوزراء، وهو مهمة لا تبدو سهلة، خاصة أن الخلافات بين هذه الأحزاب ليست ثانوية ولا يمكن تسويتها بسهولة.
2- أن يتمكن ماكرون من تشكيل حكومة تتكون من ائتلافه الحاكم والجمهوريين المنتمين ليمين الوسط وبعض أحزاب ائتلاف الجبهة الشعبية المنتمين ليسار الوسط. ومع ذلك، لا توجد مؤشرات على تفكك وشيك للجبهة الشعبية الجديدة في هذه المرحلة يتيح الانخراط في هذا المسار.
3- تشكيل حكومة تكنوقراط مع احتفاظ الرئاسة بالملفات الحيوية مثل السياسة الخارجية والدفاع، لكن لا يبدو أن أحزاب اليسار مستعدة للتخلي عن حلم الحكم وتنفيذ برنامجها وبالتالي من الصعب أن تدعم هذا المسار إلا في حالة تقديم تنازلات من جانب ماكرون تتيح الوصول إلى تفاهمات معه.
من هنا، يبدو أن الأسابيع وربما الشهور المقبلة ستشهد عدة محاولات لتشكيل حكومة تستطيع المضي قدماً وتحقيق القدر الأدنى من الاستقرار. لكن هذه المهمة لن تكون سهلة، وربما تستمر لمدة عام حتى يتمكن ماكرون من حل البرلمان مرة أخرى إذا اضطر لذلك. وحتى ذلك الحين، سيستمر رئيس الوزراء الفرنسي أتال في رئاسة حكومته لتسيير الأعمال حيث تستعد فرنسا للعديد من الأحداث البارزة خلال المرحلة القادمة، وأهمها استضافة دورة الألعاب الأوليمبية.
ما الذي يمكن أن يتغير في الداخل الفرنسي؟
لا يمكن للرئيس أن يقرر وحده المسار السياسي، كما فعل على مدار الأعوام السابقة. فهو حالياً لا يملك الأغلبية البرلمانية في الجمعية الوطنية. وهناك العديد من القضايا التي ستكون محل خلاف كبير بين القوى السياسية خلال المرحلة القادمة. وقد أعلن ميلينشون أنه إذا كان الماكرونيون يريدون الحصول على فرصة للحكم معهم، فإن البرنامج الانتخابي للجبهة الشعبية الجديدة يجب تنفيذه بالكامل.
وفي إبريل 2024، قدّر صندوق النقد الدولي أن العجز العام الفرنسي سيستقر هذا العام عند نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو انخفاض طفيف مقارنة بـ 5.5% في العام الماضي، لكنه لا يزال بعيداً عن مستوى الـ3% الذي طلبته بروكسل. وفي غضون العشرين عاماً الماضية، سجّل الدين الفرنسي نمواً من 66% إلى 112% من الناتج المحلي الإجمالي.
وهنا، فإن التدابير التي اقترحتها الجبهة الشعبية من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم المشكلة بشكل أكبر. فعلى سبيل المثال، فإن وعد تحديد سقف لأسعار السلع الأساسية، مثل الطاقة أو بعض المنتجات الغذائية، من المقدر أن يتكلف 24 مليار يورو سنوياً. وسيكون التراجع عن إصلاح معاشات التقاعد في العام الماضي أمراً مكلفاً أيضاً، والذي سيعيد سن التقاعد من 64 إلى 62 عاماً. وفي المجمل، يمكن أن تتجاوز تكلفة المقترحات 100 مليار يورو في عام 2025، أو أكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي كما قدر وزير المالية الحالي. ولتمويله ولو جزئياً على الأقل، يقترح برنامج اليسار سلسلة من الضرائب الجديدة على الثروة والأصول المالية والشركات والدخول الأعلى.
لذا، فإن الخطر الذي يواجه الحكومة الجديدة سيكون ذا شقين. فإذا استسلم رئيس الوزراء لمطالب المزيد من الإنفاق، فقد تتجه الأسواق إلى ما يسمى "لحظة تروس" - التي سميت على اسم رئيسة الوزراء البريطانية السابقة ليز تروس و"ميزانيتها المصغرة" التي تسببت في سقوطها بعد 44 يوماً فقط من توليها منصبها. أما إذا أثبت رئيس الوزراء المكلف أنه أكثر تعنتاً، فإنه يخاطر بسرعة بعزل الجزء الأكثر تشدداً في الجبهة وتعريض هذه التجربة السياسية المتمثلة في "الائتلاف الكبير" للاستنزاف السريع.
كما أن لدى بعض المكونات من تحالف اليسار رؤية تختلف جوهرياً في ملف أوكرانيا، حيث تريد حلاً سياسياً ولا ترى أن روسيا هي المعتدية بل تعتبر حلف الناتو هو المتسبب بشكل أساسي في إزعاج روسيا، وهو ما سيؤدي لبعض الإشكاليات فيما يتعلق بالسياسات التي اتخذها ماكرون لدعم أوكرانيا وكذلك دور فرنسا في حلف الناتو.
كما أن اليسار الفرنسي وحزب الخضر لديهم رؤية تقدمية ترى أن إسرائيل ترتكب مجازر في غزة ويدعون لوقف فوري لاطلاق النار، والأهم هو دعوتهم للاعتراف بدولة فلسطينية على غرار دول أوروبية أخرى، وهو أمر لم يتطرق له ائتلاف ماكرون الحاكم سابقاً، لكنه ربما لن يكون الأمر الذي يسبب خلافاً كبيراً.
ولا يمكن أيضاً تجاهل أن اليمين المتطرف وحزب التجمع الوطني سوف يشكل المعارضة الأساسية في البرلمان، ولن يكون خصماً سهلاً في خططه وبرامجه التي تتعارض كلياً مع ساسات وبرامج أحزاب الوسط واليسار، على نحو ربما لن يجعل تمرير القوانين والقرارات أمراً سهلاً.
كيف يرى الاتحاد الأوروبي نتيجة الانتخابات؟
تنفست أوروبا بشكل شبه جماعي الصعداء بعد نتائج الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية. إذ أن النتيجة الأسوأ بالنسبة للاتحاد الأوروبي كانت حصول حزب التجمع الوطني على الأغلبية، والتي كان من الممكن أن تؤدي إلى إجراء تغييرات رئيسية على المستويين الداخلي والخارجي بشكل يتعارض مع مصالح الاتحاد. ولكن على الرغم من ذلك، فإن إحدى النتائج الرئيسية التي تثير قلق الشركاء الأوروبيين بالفعل تتمثل في حالة عدم اليقين والرمادية التي سوف تتسم بها خريطة القوى السياسية في فرنسا. إذ لا يوجد فائزون واضحون، حتى لو احتل الائتلاف اليساري للجبهة الشعبية الجديدة المركز الأول على حين غرة، وحصل حزب ماكرون على المركز الثاني قبل القوميين الشعبويين المناهضين للاتحاد الأوروبي من حزب التجمع الوطني الذين جاءوا في المركز الثالث.
إذ أن البرلمان "المُعلَّق" والائتلاف اليساري المتنوع، إن لم يكن غير المستقر، من شأنه أن يؤدي إلى تراجع موقف فرنسا في أوروبا وإضعاف أوروبا ذاتها. ومن المرجح أن يعني ذلك عاماً على الأقل من الجمود السياسي في باريس والكثير من التعقيدات بالنسبة لثاني أكبر عضو في الاتحاد الأوروبي في عملية صنع القرار في بروكسل، خاصة أنه ليس لدى فرنسا تقليد حديث في تشكيل حكومات ائتلافية أو حكومات تكنوقراط.
ويهيمن حزب فرنسا الأبية المتشدد تحت قيادة زعيمه المثير للجدل ميلينشون على الجبهة الشعبية الجديدة وقد طرح بالفعل مطالب متطرفة في مواجهة ماكرون، كما يتبنى توجهات قائمة على الخروج من الاتفاقيات التجارية، والإصلاح اليساري للاتحاد الأوروبي، على نحو سوف يثير حتماً قلقاً خاصاً لدى الأخير.
وعلى ضوء ذلك، من المرجح أن تكون باريس خلال المرحلة القادمة منشغلة إلى حد كبير بشئونها الداخلية. وحتى لو تم تجنب النتيجة الأسوأ، فإن ما كشفت عنه الانتخابات استنزف مصداقية ماكرون ورأسماله السياسي لدى زعماء أوروبا بسبب سياسة حافة الهاوية والخطأ الاستراتيجي المتمثل في الدعوة إلى انتخابات مبكرة في المقام الأول، وهذا من شأنه أن يضعف الصوت المهم الداعم لمواقف الاتحاد الأوروبي التقدمية والأكثر طموحاً، من الإصلاح الداخلي إلى التعاون الدفاعي، ودعم أوكرانيا، وانتهاج مسار أكثر صرامة في التعامل مع الصين.
هل ما حدث يعني نهاية اليمين المتطرف؟
هناك ما يقرب من 10 مليون ناخب صوتوا لحزب التجمع الوطني في الانتخابات، وهي كتلة مؤيدة للحزب لأسباب لن يتراجع تأثيرها وزخمها فجأة. كما أن الحزب هو ثالث أكبر كتلة في البرلمان وأكبر كتلة معارضة سيكون لها دور مؤثر. فضلاً عن أن حالة التشرذم والتخبط التي يمكن أن تحدث خلال الأعوام المقبلة سيكون المستفيد الوحيد منها هو اليمين المتطرف اذا فشل الوسط واليسار في التعاون أو في تحقيق نتائج ملموسة على الأرض. وفي تلك الحالة، سيستغل بارديلا ولوبان جميع إمكاناتهم وأخطاء الأحزاب الأخرى في الوصل لمرادهم في الانتخابات الرئاسية القادمة 2027 وهو ما كانت تعنيه لوبان عندما أشارت إلى "الفوز المُؤجَّل".
على المستوى القاري، وعلى الرغم من أن أحزاب اليمين المتطرف لا تزال بعيدة عن السيطرة، إلا أنها تتجه نحو الصعود التدريجي، ويبدو أن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الرئيس الدوري للاتحاد الأوروبي، مرشح لرئاسة هذه الأحزاب. وقد أعلن بارديلا في خطابه أن حزب التجمع الوطني سينضم إلى المجموعة البرلمانية الجديدة التي شكلها رئيس الوزراء المجري، "وطنيون من أجل أوروبا"، والتي تضم حزب ماتيو سالفيني "الرابطة"، والأحزاب اليمينية المتطرفة الأسبانية والبرتغالية والهولندية. وبالتالي يمكن أن تصبح المجموعة ثالث أكبر مجموعة في البرلمان الأوروبي، بعد حزب الشعب الأوروبي من يمين الوسط والاشتراكيين من يسار الوسط، متجاوزة كتلة تجديد أوروبا. وقد قال بارديلا في هذا السياق: "أخيراً، ابتداءً من الغد، سيلعب أعضاء البرلمان الأوروبي دورهم بشكل كامل في مجموعة كبيرة ستؤثر على توازن القوى في أوروبا، لرفض إغراق أوروبا بالمهاجرين، والنزعة البيئية العقابية ومصادرة سيادتنا".
ختاماً، يمكن القول إن نتائج الانتخابات البرلمانية الفرنسية لعام 2024 تعكس تعقيدات المشهد السياسي في فرنسا وتنوعه. فقد تأرجحت البلاد بين احتمالات تشكيل تحالفات غير تقليدية وصراعات سياسية داخلية، ما يعكس حالة من التغير والتحول في ديناميكيات السلطة. ويتعين على القادة السياسيين الآن اتخاذ خطوات حاسمة لبناء تحالفات قوية ومستقرة، سواء كانت يسارية أو وسطية، لضمان استقرار الحكومة وتعزيز قدرتها على التعامل مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد. وفي ظل هذه الظروف، ستكون الأشهر المقبلة حاسمة في تحديد مسار السياسة الفرنسية ومستقبلها. فحالة عدم الاستقرار التي بدأت قبل عامين، بعد الانتخابات التي حرمت ماكرون من أغلبيته الكبيرة، سوف تستمر في فرنسا، لكن التحديات والمخاطر ستتضاعف مقارنة بما كانت عليه قبل شهر.