شهدت المملكة المتحدة أول تغيير في الحكومة منذ 14 عاماً بعد أن حقق حزب العمال فوزاً ساحقاً في الانتخابات العامة التي أُجريت في 5 يوليو 2024، والتي شهدت أيضاً تعرض حزب المحافظين لأكبر هزيمة له على الإطلاق منذ 200 عام. وبينما تعكس هذه الانتخابات عدداً من الدلالات السياسية الهامة، تواجه الحكومة الجديدة التي يرأسها السير كير ستارمر تحديات داخلية ضخمة، سيكون الرهان على حلها محدداً حاسماً في بقاء الحكومة على المدى القصير، وفي تحديد مصير حزب العمال على المدى الطويل.
دلالات نتائج الانتخابات
وفقاً للنظام الانتخابي في المملكة المتحدة، تنقسم الدوائر الانتخابية إلى 650 دائرة؛ كل دائرة يمثلها عضو واحد، عن طريق الفوز بأكثرية الأصوات حتى لو لم يحصل على الأغلبية، وهو ما يفسِّر التفاوت بين حصة الأحزاب من نسب تصويت الناخبين وبين المقاعد الفعلية التي حصلوا عليها في البرلمان.
شكل (1): النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية في المملكة المتحدة 2024
Source: Statista, https://tinyurl.com/yvzrktyr
وبينما وُصفت هذه الانتخابات بأنها الأقل من حيث نسبة المشاركة (60%)، حيث تتجاوز عادةً نسبة المشاركة 65% منذ عام 1885، إلا أن نتائجها كشفت عن مجموعة من الدلالات السياسية الهامة، لعلَ أبرزها ما يلي:
1- عودة العمال مجدداً: بعد 14 عاماً قضاها في مقاعد المعارضة، نجح حزب العمال في العودة للسلطة مجدداً في الانتخابات الأخيرة بالمملكة المتحدة، بعد تحقيقه نجاحاً ساحقاً بحصوله على 412 مقعداً من إجمالي 650 مقعداً. أيضاً هذا النجاح الكبير لم يكن على مستوى عدد المقاعد فقط، بل أيضاً على مستوى الطبيعة النوعية للمقاعد نفسها. فقد انتزع الحزب مقعد مقاطعة فولكستون وهايث في ولاية كينت بانجلترا، والتي استولى عليها المحافظون منذ عام 1950، كما انتقلت السيطرة على مدينتي لندن وويستمنستر للمرة الأولى إلى حزب العمال.
ومع ذلك، لم ترتفع الحصة الإجمالية لحزب العمال من الأصوات إلا بأقل من نقطتين فقط، فرغم حصوله على 64% من المقاعد، لم يحصل الحزب سوى على نسبة 34% من الأصوات الفعلية، بعدما وصلت النسبة في عام 2019 إلى 32% في الوقت الذي كان فيه جيرمي كوربين يقود الحزب، والذي أُلقي اللوم على شعبيته المنخفضة حينها في خسائر حزب العمال.
2- تصويت عقابي للمحافظين: ركزت معظم التحليلات الغربية على الخسارة المروِّعة للمحافظين في الانتخابات أكثر من تركيزها على انتصار العمال، ولذلك ما يبرره؛ إذ خسر المحافظون فعلياً على ثلاثة مستويات. أولاً خسر المحافظون في هذه الانتخابات 250 مقعداً من إجمالي 362 مقعداً، أي حوالي ثلثي مقاعدهم التي حصلوا عليها في انتخابات عام 2019 والتي وصلت إلى 362 مقعداً؛ إذ حصلوا في الانتخابات الأخيرة على 121 مقعداً فقط. ثانياً خسر المحافظون أيضاً على مستوى حصة التصويت الفعلية؛ حيث انخفضت حصتهم من الأصوات من أكثر من 40% في عام 2019 إلى 24% في انتخابات عام 2024.
شكل (2): مقارنة بين نتائج الانتخابات البرلمانية في المملكة المتحدة من حيث مقاعد الأحزاب (2017 -2019 – 2024)
Source: CNN, https://tinyurl.com/my2tk9tt
وثالثاً خسر المحافظون على مستوى خسارة وزراء الحكومة مقاعدهم. ففي سابقة هي الأولى من نوعها، فقد 11 وزيراً من حكومة ريشي سوناك، المنتهية ولايتها، مقاعدهم بالبرلمان، بما في ذلك بعض الذين كانوا مرشحين محتملين ليحلوا محل سوناك عندما يتنحى عن منصب زعيم الحزب. من بين هؤلاء الوزراء: بيني موردونت، التي كان يُتوقع لها أن تكون الزعيمة المستقبلية للحزب، وكذلك وزير الدفاع جرانت شابس ووزير النقل مارك هاربر ووزير التعليم جيليان كيجان، والأكثر أهمية ليز تروس، التي تولت رئاسة الوزراء لمدة 49 يوماً فقط في خريف عام 2022، وأدت تخفيضاتها الضريبية غير الممولة إلى اضطراب الأسواق المالية وارتفاع تكاليف الاقتراض لأصحاب المنازل.
3- تراجع سيطرة الثنائية الحزبية: على مدار المائة عام الماضية، وعلى الرغم من تعدد الأحزاب السياسية، تنافس حزبا العمال والمحافظين دوماً على الأغلبية العظمى من الأصوات. على سبيل المثال، في عام 1951، حصل الحزبان الرئيسيان على ما يقرب من 97 % من الأصوات مجتمعين. ومع ذلك، شهدت السنوات اللاحقة تراجعاً في هذه السيطرة تدريجياً، وقد كانت الانتخابات الأخيرة بمثابة أدنى مستوى من سيطرة الحزبان على الحياة السياسية؛ إذ لم يتمكنا، مجتمعان، إلا بالكاد من حشد 60% من أصوات الناخبين، بينما توزعت بقية الأصوات على الأحزاب الأخرى المتنافسة.
وبرغم أن كير ستارمر سيحكم المملكة المتحدة بأغلبية مريحة خلال سنوات حكمه، إلا إنه ليس متوقعاً أن تكون المعارضة منزوعة الخطورة، خاصةً مع تغير خريطتها السياسية. إذ سيكون هناك 71 عضواً من الديمقراطيين الليبراليين، ارتفاعاً من 15 عضواً عندما تم حل البرلمان في مايو، وأربعة أعضاء من حزب الخضر بدلاً من واحد، بالإضافة إلى أربعة أعضاء من حزب الإصلاح اليميني المناهض للهجرة في المملكة المتحدة، بما في ذلك زعيمه البارز نايجل فاراج، الذي فاز أخيراً بمقعد في البرلمان في محاولته الثامنة.
4- صعود مهم لليمين المتطرف: نجح حزب الإصلاح لرئيسه نايجل فاراج في الحصول على 4 مقاعد بالبرلمان، على الرغم من توقع استطلاعات الرأي حصوله على 13 مقعداً. لكن المدقق في النتائج التفصيلية للانتخابات يلاحظ أن حصة حزب الإصلاح من الأصوات الفعلية بلغت 14%، مما جعله ثالث أكبر حزب من حيث حصة الأصوات، متقدماً على الديمقراطيين الليبراليين. إذ جاء الإصلاح في المركز الثاني في 103 دائرة انتخابية، مقابل ثلاث دوائر فقط خلال انتخابات عام 2019، عندما قاده اتفاق مع بوريس جونسون حينها إلى تأجيل التنافس على المقاعد التي يسيطر عليها المحافظون.
اللافت أن صعود حصة الإصلاح من الأصوات الفعلية كانت خصماً مباشراً من حصة المحافظين، وهو ما يعكس دلالة هامة بأن تقدم الإصلاح في المستقبل قد تكون "مسألة وقت"، وذلك لأن أغلبية حزب العمال مبنية على أسس ضحلة للغاية، وقد تجرفها الأزمات التالية المحتملة. تعليقاً على ذلك، قال فاراج أنه "سيأتي من أجل ناخبي حزب العمال بعد ذلك"، في إشارة إلى نجاحه في كسب أصوات ناخبي المحافظين.
5- تأجيل الجدل حول استقلال اسكتلندا: منذ عام 2015، يتمتع الحزب الوطني الاسكتلندي، المؤيد لاستقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، بقبضة قوية على السلطة هناك، عندما فاز حينها بكل المقاعد الاسكتلندية تقريباً، والتي كان يسيطر عليها حزب العمال من قبل، وهو ما كان يدفع الحزب لتجديد مطالبه باستقلال اسكتلندا. لكن الانتخابات الأخيرة وضعت حداً لذلك الأمر؛ إذ خسر الحزب نحو 38 مقعداً من مقاعده التي كان يشغلها من عام 2019، بحصوله فقط على 9 مقاعد في البرلمان الجديد، بما يؤجل أي أفكار محتملة بشأن إجراء استفتاء لاستقلال اسكتلندا في أي وقت قريب. وقد اعترف جون سويني، الذي أصبح الوزير الأول لاسكتلندا، مؤخراً بأن الحزب "لم يكسب الجدال" بشأن الاستقلال، كما التقى كير ستارمر في 7 يوليو بسويني خلال زيارته لاسكتلندا لبحث سبل تحسين علاقة العمل مع الحكومة الاسكتلندية، في رسالة واضحة من الحكومة البريطانية الجديدة لتأمين استقرار المملكة الداخلي.
6- تأثير ملحوظ لحرب غزة في الانتخابات: من النتائج اللافتة في الانتخابات الأخيرة، فوز خمسة مستقلين مؤيدين لفلسطين بمقاعد في البرلمان مع ظهور الحرب الإسرائيلية على غزة كقضية رئيسية للناخبين في المملكة المتحدة. إذ شغل كوربين مقعده في إيسلينجتون نورث كمرشح مستقل، وشوكت آدم في ليستر ساوث، وأيوب خان في برمنغهام بيري بار، وعدنان حسين في بلاكبيرن، وإقبال محمد في ديوسبري وباتلي. وجميع هؤلاء المرشحين انتزعوا المقاعد من حزب المحافظين الذي لم يدعُ إلا مؤخراً إلى وقف إطلاق النار، داعماً باستمرار ما يسمى بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن النفس".
تحديات حكومة ستارمر
يواجه السير كير ستارمر رئيس الحكومة الجديدة إرثاً من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي خلَّفتها العديد من الأزمات العالمية والتي ألقت بظلالها على الاقتصاد البريطاني. خلال خطاب النصر الذي ألقاه خارج دوانينج ستريت، قال ستارمر أن "حكومته ستسعى جاهدة إلى (إعادة بناء) الخدمات العامة البريطانية مثل هيئة الخدمات الصحية الوطنية، وخفض فواتير الطاقة، وتأمين حدود البلاد، مع الاعتماد على الطاقة النظيفة المحلية"، لكنه في الوقت ذاته أقر بأن "تغيير بلد ما لا يشبه الضغط على مفتاح كهربائي، بل إنه عمل شاق وصبور وحازم".
وقد اتبع حزب العمال نهجاً واضحاً خلال حملته الانتخابات بتجنب إصدار أية إعلانات سياسية أو تعهدات كبرى، مكتفياً بإصدار وعود عامة لحل الأزمات العاجلة، وتشير هذه السياسة إلى محاولة حزب العمال إدارة توقعات الناخبين، على الأقل في الأمد القريب. ومع ذلك، تتطلب التحديات الخطيرة التي تواجه المملكة المتحدة سياسات واضحة وعاجلة وذات تأثير واضح من جانب حكومة ستارمر، والتي قد تمثل اختباراً حقيقياً له في أول مئة يوم، وقد تقلل – في أسوأ الظروف- العمر الافتراضي للحكومة الجديدة إذا فشلت في اتخاذ خطوات جادة نحو حلها. من أبرز هذه التحديات ما يلي:
1- تحسين أداء القطاع الصحي: تعاني الخدمة الصحية في المملكة المتحدة حالياً من عجز في الميزانية قدره 12 مليار جنيه إسترليني، ما ينعكس في تحديات عدة؛ من ارتفاع تكاليف العلاج والبنية التحتية المتداعية إلى زيادة أوقات الانتظار والنزاعات حول الأجور. وتتصدر هيئة الخدمات الصحية الوطنية بشكل روتيني استطلاعات الرأي بشأن القضايا الأكثر أهمية. وعلى الرغم من رفض حزب العمال تحديد المبلغ الذي سيلتزم به لتحسين الخدمات الصحية، قدَّر معهد الدراسات المالية أن تعهدات حزب العمال تبلغ قيمتها 1.8 مليار جنيه إسترليني، وهو أقل بكثير من المبلغ المطلوب، لمعالجة هذه الأزمة التي ستظل دوماً أولوية قصوى.
2- تحقيق الاستقرار الاقتصادي: إن بطء عمليات التعافي من آثار جائحة كوفيد-19، والآثار الاقتصادية المستمرة للبريكست، وارتفاع أسعار الطاقة في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، إلى جانب الإخفاقات المتتالية للحكومة المركزية في المملكة المتحدة، وتزايد مستويات الخمول الاقتصادي بين البالغين في سن العمل، كل هذه الأزمات وضعت اقتصاد المملكة المتحدة في وضع حرج للغاية. ولمواجهة الأزمة الاقتصادية، يعد حزب العمال باتباع القواعد المالية الصارمة التي وضعتها الحكومة بالفعل، أي الاقتراض فقط للاستثمار، بدلاً من استخدامه في الإنفاق اليومي. كما من المتوقع أيضاً أن تجمع الحكومة 7 مليارات جنيه إسترليني من الضرائب من خلال شن حملة قمع على التهرب الضريبي، بالإضافة إلى إنهاء الإعفاء الضريبي على ضريبة القيمة المضافة على المدارس الخاصة، في خطوة يقولون إنها ستجمع ما يقدر بنحو 1.7 مليار جنيه استرليني سيتم إعادة استثمارها في القطاع الحكومي. أما بالنسبة للطاقة، فتخطط حكومة ستارمر لتأسيس شركة جديدة مملوكة للقطاع العام بتوفير قدرة إضافية إلى جانب القطاع الخاص للمساعدة في خلق فرص عمل جديدة والاستثمار في مجال الطاقة النظيفة.
3- الحد من تدفق المهاجرين: أدان حزب العمال خطة سلفه سوناك لترحيل اللاجئين إلى رواندا، وهي الخطة التي واجهت أيضاً إدانات حقوقية عدة أدت إلى توقفها. في المقابل وعد الحزب بإطلاق قيادة جديدة لأمن الحدود للتصدي لعصابات تهريب البشر، ومنح المنظمة صلاحيات جديدة بموجب قواعد مكافحة الإرهاب لإحداث تأثير، كما تخطط حكومة ستارمر للسماح للضباط بإجراء عمليات التوقيف والتفتيش على الحدود، وإجراء تحقيقات مالية وإصدار أوامر تفتيش ومصادرة تستهدف الهجرة المنظمة.
4- مكافحة الجريمة: أظهرت أحدث تقديرات مسح الجريمة في إنجلترا وويلز (CSEW) لعام 2023 أن هناك ما يُقدَّر بنحو 8.4 مليون جريمة تم ارتكابها خلال العام، كانت أعلاها في إنجلترا وويلز تحديداً، وتنوعت الجرائم ما بين الاحتيال والجرائم الجنائية والتحرشات الجنسية وغيرها. ويرجع ذلك في بعضٍ منه إلى انخفاض تمويل الشرطة وما صاحبه من انخفاض في أعداد الضباط من عام 2010.
شكل (3): معدل الجريمة لكل 1000 نسمة في المملكة المتحدة من 2002 -2023 (وفقاً للولاية القضائية)
Source: Statista, https://tinyurl.com/b87p96yu
وقد كانت معالجة السلوك المعادي للمجتمع أحد المحاور الرئيسية لحزب العمال، حيث وعد ستارمر بتجنيد 13 ألف ضابطاً إضافياً من شرطة الأحياء وفرض عقوبات جديدة صارمة على المخالفين الذين يسببون مشاكل في منطقتهم، وتوفير ضباط دعم مجتمعي في إنجلترا وويلز على سبيل التحديد.
5- تطوير المدارس وتحسين جودة التعليم: تعهد حزب العمال لمواجهة هذا التحدي بتوظيف 6500 معلم إضافي مدرَّب، ترتكز مهمتهم الأساسية على "إعداد الأطفال للحياة والعمل والمستقبل"، على أن يتم توفير أجور هؤلاء المعلمين من خلال من خلال خطة حزب العمال لإنهاء الإعفاءات الضريبية للمدارس الخاصة.
في الختام، لا شك أن حزب العمال أمام تحدٍ مصيري بعد توليه الحكومة الجديدة؛ ليس فقط لعمق التحديات التي يجب العمل بجدية على حلها، بل أيضاً لكون نجاح الحزب في الانتخابات الأخيرة يبدو مدفوعاً - إلى حد كبير- بالرغبة في إزاحة المحافظين أكثر من حماسه لخطة العمال، ناهيك عن أعين اليمين "حزب الإصلاح" التي ستترقب كل خطوة لشن هجوم على العمال لاستقطاب قاعدة ناخبيه. ومع ذلك، قد تمثل هذه التحديات فرصاً كبيرة لحزب العمال لترسيخ وجوده في السلطة من ناحية، وتعزيز مكانته لدى الناخب البريطاني عموماً من ناحية أخرى، إذا ما نجح بالفعل في تقديم سياسات فعَّالة لإنقاذ الاقتصاد البريطاني ومعالجة مشكلاته الهيكلية بخطوات ثابتة وواضحة مبنية على رؤى متماسكة لا وعود برَّاقة تتعامل فقط مع الأعراض السطحية للأزمات.