على خلاف موقفها المبدئي المتحفظ الذي جاء تالياً على تنفيذ عملية "طوفان الأقصى" وما تبعها من حرب إسرائيلية على قطاع غزة، بدايةً من 7 أكتوبر 2023، وجّهت إيران تهديدات مسبقة ومباشرة إلى إسرائيل من العواقب المحتملة التي يمكن أن تنجم عن إقدامها على شن حرب شاملة ضد حزب الله اللبناني.
فقد قدّم القائم بأعمال وزير الخارجية الإيراني علي باقري كني، في 12 يونيو 2024، ما أسماه بـ"نصيحة" إلى تل أبيب من "عدم السقوط في البئر اللبنانية". لكن التهديد الأهم تضمنه منشور للبعثة الإيرانية في الأمم المتحدة على موقع "إكس"، في 29 من الشهر نفسه، والذي جاء فيه أنه "إذا شرعت إسرائيل في عدوان شامل على لبنان فسوف تندلع حرب إبادة"، مضيفاً أنه "في مثل هذه الحالة، كل الخيارات مطروحة، بما في ذلك المشاركة الكاملة لمحور المقاومة".
دلالات رئيسية
هذا التباين في الموقف الإيراني تجاه الحرب التي وقعت بالفعل في غزة والحرب الشاملة التي يحتمل أن تقع في لبنان يطرح دلالات رئيسية ثلاث: تتمثل الأولى، في أن هناك فارقاً لا يمكن تجاهله في موقع حزب الله وحركة حماس في الاستراتيجية الإيرانية، ليس فقط لاعتبارات مذهبية، رغم أهمية ذلك من دون شك، وإنما أيضاً لأسباب تخص الحسابات السياسية البراجماتية لإيران.
إذ أن المهام التي يقوم بها الحزب، وفقاً لهذه الاستراتيجية، تفوق، إلى حد كبير، تلك التي تتولاها حماس. وطبقاً لذلك، فإن الحزب يعد تنظيماً عابراً للحدود يتحرك وينشط في دول مختلفة أينما تقتضي مصالح إيران ومصالحه ذلك. في حين أن حماس تمثل- نظرياً- تنظيماً محلياً فلسطينياً هدفه المعلن هو تحرير فلسطين.
ويبدو هذا الفارق واضحاً في تعامل الحزب والحركة مع الأزمات الإقليمية المختلفة، لاسيما الأزمة السورية. ففي حين أنه كان للحزب دور رئيسي في الصراع المسلح الذي تصاعدت حدته في سوريا بدايةً من مارس 2011، إلى جانب القوات النظامية السورية، نأت الحركة بنفسها عن الانخراط في هذا الصراع إلى جانب النظام السوري، على نحو كان له دور رئيسي ليس فقط في إعادة تحديد اتجاهات علاقاتها مع الأخير، الذي وضع هذا الموقف ضمن حساباته إزاء الحرب في غزة بعد عملية "طوفان الأقصى"، وإنما أيضاً في دفع إيران نفسها إلى وضع متغير جديد في حساباتها تجاه العلاقات مع حماس، وهو متغير الحسابات الخاصة للأخيرة، التي ترتبط بعلاقات مع أطراف عديدة من الدول والفواعل من غير الدول مثل قطر وتركيا وجماعة الإخوان المسلمين.
ذلك لا يعني بالطبع أن مصير حماس لا يهم إيران. بالعكس، فإن الأخيرة تبدي اهتماماً خاصاً باستمرار الحركة ضمن ما يسمى بـ"محور المقاومة الإقليمي"، خاصة أن ذلك يخدم إدارتها للصراع مع إسرائيل، الذي تحول، كأحد ارتدادات الحرب في غزة، إلى صراع مباشر ومفتوح، حتى وإن كان مضبوطاً ومرتبطاً بحسابات إيرانية وإسرائيلية وأمريكية. فضلاً عن أن استمرار دعمها لحماس، والفصائل الفلسطينية الأخرى، يخدم رؤيتها القائمة على نفى "تطييف" دعمها للمليشيات المسلحة في المنطقة.
وتنصرف الثانية، إلى أن إيران فوجئت، على الأرجح، بعملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حماس، لكنها كانت على علم مسبق بعمليات "وحدة الساحات" التي أطلقها حزب الله، وهذا أيضاً فارق لا يمكن تجاهله. في الأولى، بدا ذلك، في رؤية طهران، محاولة من جانب حماس لإدارة صراعها مع إسرائيل وفقاً لحساباتها الخاصة وبصرف النظر عن حسابات حلفائها. وفي الثانية، جرى ذلك طبقاً لتنسيق واضح بين طهران والحزب وازن بين دوافع دعم حماس في مواجهة إسرائيل طبقاً لما يسمى بـ"وحدة الساحات"، وبين اعتبارات براجماتية تخص حسابات طهران مع تل أبيب وواشنطن في آن واحد.
وتتعلق الثالثة، بحدود الخيارات المتاحة أمام إيران في الحالتين. ففي حالة حماس، ورغم أنها مع إيران سوف تعتبران مجرد البقاء على الأرض بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية "انتصاراً" في حد ذاته، حتى مع تفاقم الأوضاع الإنسانية في القطاع بسبب العدوان الإسرائيل الغاشم، فإن القضاء على الجزء الأكبر من قدراتها العسكرية قد لا يمثل بالضرورة مشكلة كبيرة بالنسبة لإيران، التي ربما يكون متاحاً أمامها خيارات أخرى للتعامل مع التوازنات الجديدة التي سيفرضها ذلك على الأرض. أما في حالة حزب الله، فإن الوضع مختلف. إذ أن القضاء على الجزء الأكبر من قدرات الحزب - إن حدث - سوف يمثل أزمة لا تبدو هينة بالنسبة لإيران، لأن الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع التوازنات المحتملة في هذا الصدد لن تكون متعددة، في ظل الأهمية الخاصة التي توليها طهران للحزب ودوره الإقليمي.
حسابات الحرب
هذه الدلالات توحي في مجملها بأن إيران لا تريد تطور الحرب الحالية القائمة بين إسرائيل وحزب الله إلى حرب شاملة. فالتوقيت يمثل عاملاً في غاية الأهمية بالنسبة لها. لكن عدم رغبتها في اندلاع الحرب الشاملة لن توقفها، في ظل حسابات الأطراف الأخرى، لاسيما إسرائيل، الدافعة في هذا المسار لاعتبارات داخلية وإقليمية عديدة تخص تل أبيب ورئيس الحكومة اليمينية المتطرفة بنيامين نتنياهو.
وهنا، فإن أمام إيران خيارات ثلاثة محتملة: الأول، عدم التدخل بشكل مباشر في الحرب المحتملة، انتظاراً لما سوف تسفر عنه جولاتها الأولى من معطيات أو توازنات جديدة على الأرض، وتعويلاً على القدرات العسكرية الضخمة للحزب والتي تتفوق، إلى حد كبير، على القدرات العسكرية التي كانت تمتلكها حماس.
والثاني، تكليف الوكلاء الآخرين بالتدخل عسكرياً لدعم حزب الله، بشكل ربما يكون أكبر مما حدث ويحدث خلال الحرب الإسرائيلية على غزة. وهنا، فإن ثمة مؤشرات عديدة توحي بأن إيران بالفعل تفكر في هذا الخيار، منها تهديدات البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة السابق الإشارة إليها، ومنها التحركات التي بدأت تقوم بها المليشيات الموالية في العراق واليمن. إذ أشارت الأولى إلى استعدادها لإرسال الآلاف من المنتسبين إليها للقتال إلى جانب حزب الله. في حين أعلنت الثانية عن عمليات عسكرية مشتركة مع نظيرتها العراقية ضد مواني إسرائيل. بل إن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أشار إلى هذا الخيار بالفعل عندما قال، في 19 يونيو 2024: "الكثير من الأصدقاء والأخوة في سوريا والعراق واليمن وإيران وأماكن أخرى، اتصلوا بنا لإرسال مئات الآلاف من المقاتلين إلى لبنان، لكن قلنا لكم كتّر خيركم مشكورين".
والثالث، تعزيز فرص الوصول إلى تسوية سياسية تنهي الأزمة الحالية. وهنا، لا يمكن تجاهل أن هناك اتجاهات - في إيران كما في غيرها - ترى أن الغرض من التصعيد العسكري والتهديدات المتتالية من جانب إسرائيل، والتي تتوازى مع تصريحات أمريكية داعمة لها، هو ممارسة أقصى قدر من الضغوط على حزب الله لدعم المساعي التي يبذلها المبعوث الأمريكي آموس هوكشتاين للوصول إلى تسوية تضمن انسحاب الحزب إلى شمال نهر الليطاني.
هذا الخيار قد تمليه متغيرات أخرى يتعلق أبرزها بتفضيل إيران سيناريو تأجيل الحرب حتى إشعار آخر، قد يكون أكثر ارتباطاً بمسارات التصعيد الحالي بين إيران وإسرائيل. كما أنه قد يكتسب، لاحقاً، أهمية وزخماً خاصاً في حالة ما إذا استخدم لإنضاج صفقة أكبر وأشمل بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية تتضمن ملفات وقف التصعيد على المستويين الإقليمي والنووي، وهى صفقة تعتمد احتمالاتها على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تجرى في 5 نوفمبر 2024، وسيكون لها تداعياتها على اتجاهات السياسة الأمريكية إزاء الأزمات الإقليمية المختلفة.