تصاعدت حدة المواجهات بين حزب الله اللبنانى وإسرائيل على مدار شهر يونيو 2024، كما شهدت الاستهدافات العسكرية المتبادلة بينهما تغيراً فى نمطها من ناحية، وتغيراً فى نطاقها الجغرافى والنوعى من ناحية ثانية، بما يؤشر على حدوث "تغيير نسبى" فى قواعد الاشتباك التى حرص الطرفان على عدم تجاوزها منذ اندلاع العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة فى أعقاب عملية "طوفان الأقصى" التى قامت بها فصائل المقاومة الفلسطينية فى 7 أكتوبر 2023.
توسيع حزب الله لنطاق عملياته على النطاق الجغرافى وتغيير نمطها وكذلك التغيير فى نوعية الأسلحة المستخدمة جاء رداً على استمرار العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة للشهر التاسع على التوالى، فضلاً عن حالة الإبادة الجماعية التى يمارسها جيش الاحتلال ضد المدنيين العزل فى القطاع بصورة تخطت وتجاوزت كل الأعراف الأخلاقية وقواعد القانون الدولى، هذا إلى جانب سياسة الاغتيالات التى انتهجتها إسرائيل ضد عناصر من حزب الله اللبنانى والمليشيات سواء فى الجنوب اللبنانى أو فى سوريا والعراق، بخلاف الاستهدافات العسكرية الإسرائيلية المستمرة لمناطق الجنوب السورى؛ حيث تمركزات المليشيات المسلحة التابعة لإيران، ولمناطق الوسط وتحديداً مطار دمشق باعتباره أحد أهم خطوط الإمداد العسكرى لحزب الله التى تأتيه من إيران عبر الحدود العراقية-السورية.
تطورات المشهد المتصاعد بين حزب الله والجيش الإسرائيلى نحو مواجهة عسكرية تنهى قواعد الاشتباك القديمة؛ لا تنفصل بأى حال عن باقى تفاعلات "محور المقاومة الإقليمى" المدعوم إيرانيا، سواء المليشيات العراقية الولائية، أو جماعة أنصار الله الحوثية فى اليمن، ما يطرح تساؤلات حول "ماذا لو" اندلعت الحرب بين حزب الله اللبنانى وإسرائيل؟، وما موقف عناصر "محور المقاومة" حينها؟، فهل ستوسع الفصائل نطاق المشاركة والعمليات تنفيذاً لمضمون "وحدة الساحات"، بما قد ينذر بتحول هذه المواجهات إلى حرب إقليمية شاملة؟، أم ستعود المواجهات إلى الالتزام بقواعد الاشتباك التقليدية؟.
المليشيات العراقية
تجدر الإشارة إلى إنه وفى حالة تصاعد المواجهات بين حزب الله اللبنانى وإسرائيل وصولاً إلى حالة الحرب المباشرة، فهذا يعنى أن باقى فصائل "محور المقاومة الإقليمي" ستشارك فى إسناد حزب الله - العنصر الرئيسى فى هذا المحور - تنفيذاً لآلية "وحدة الساحات" التى تم العمل بها بين عناصر هذا المحور منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فى أكتوبر 2023. لكن ماذا عن الموقف العراقى الرسمى؟! أى موقف الحكومة العراقية التى رأت أن تفاعلات المليشيات العراقية ضمن هذا المحور منذ إسنادها للمقاومة الفلسطينية، تسببت فى إحراجها أمام تعهداتها الدولية والإقليمية مع الولايات المتحدة الأمريكية. جدير بالذكر أن ثمة تباينات بين قوى الإطار التنسيقى – الواجهة السياسية لقوى الحشد الشعبى الشيعية - التى تنبثق منها "جماعات المقاومة الإسلامية فى العراق" حول "نمط" استهدافاتها للوجود العسكرى الأمريكى فى العراق على مدار الشهور الماضية فى سياق مضمون وحدة الساحات الإقليمية، وهو الاستهداف الذى أثر بصورة ما على العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة العراقية برئاسة شياع السودانى، وعلى خططها بخصوص إنهاء مهام التحالف الدولى على الأراضى العراقية من ناحية، ومهام بعثة الأمم المتحدة المعنية بالعراق "اليونامى" من ناحية ثانية، ودفعها إلى الضغط على المليشيات لوقف عملياتها ضمن ما يمكن تسميته بالهدنة الضمنية التى فرضها السودانى على تلك المليشيات؛ بهدف الحفاظ على حالة التوازن التى ينتهجها بين متطلبات إيران وطموحات الفصائل من ناحية، وبين سياسات حكومته تجاه مسئولياتها الدولية والإقليمية من ناحية ثانية. ومن ثم فإن حرباً واسعة بين حزب الله اللبنانى وإسرائيل ستعنى اتجاه تلك الفصائل إلى المشاركة فى هذه الحرب، وهو ما ترفضه "ضمنياً" الحكومة العراقية، بل وتطلب من قوى الإطار التنسيقى الضغط عليها للالتزام بالهدنة.
وقد انعكس هذا الموقف بوضوح أثناء زيارة وزير الخارجية الإيرانى بالإنابة على باقرى كني لبغداد، ولقائه مع وزير الخارجية العراقى فؤاد حسين فى 13 يونيو 2024، حيث باغت الأخير نظيره الإيرانى – الذى أراد جس نبض العراقيين بشأن حرب حزب الله اللبنانى وإسرائيل- بتصريحات تعبر عن "الرفض الضمنى" من قبل الحكومة العراقية لمسألة توسيع نطاق المواجهات بين حزب الله اللبنانى وإسرائيل فى الجنوب اللبنانى، وعبّر عن هذا الرفض الضمنى بقوله: "لو اندلعت حرب هناك، ستتأثر المنطقة برمتها، وليس لبنان فقط". وحمل هذا التصريح رسالة سياسية فى اتجاهين: اتجاه يعكس موقف العراق الرسمى من الحرب المحتملة بين حزب الله وإسرائيل. واتجاه آخر يعكس رغبة وزير الحارجية العراقى المواءمة بين موقف الحكومة وموقف المليشيات الموالية لإيران تفادياً لغضبها، وإن كان المضمون الرئيسى يشير إلى أن هذا التصريح يحمل رفضاً رسمياً عراقياً واضحاً للحرب.
أما بالنسبة للمليشيات العراقية، فمن المرجح أن يكون موقفها كالتالى:
1- تفعيل غرفة العمليات العسكرية المشتركة مع حزب الله؛ جدير بالذكر أنه منذ إقرار العمل بآلية "وحدة الساحات" من قبل فصائل "محور المقاومة" منذ الحرب الإسرائيلية على غزة فى أكتوبر 2023، توجه عدد من المستشارين التابعين للفصائل العراقية فيما عُرف بـ"المقاومة الإسلامية فى العراق" إلى لبنان (مايو 2024)؛ حيث تم تشكيل "غرفة عمليات مشتركة" أمنية واستخباراتية وعسكرية مع حزب الله، وبالتالى وفى حالة اندلاع مواجهة شاملة مع إسرائيل فمن المتوقع أن ترتفع وتيرة التنسيق العملياتى المشترك.
2- مشاركة مباشرة من جانب مليشيات حزب الله العراقى، وحركة النجباء، وكتائب سيد الشهداء فى إسناد حزب الله اللبنانى، حيث تشير بعض المصادر إلى قيامهم بإبلاغ الحرس الثورى الإيرانى باستعدادهم للقتال بجانب الحزب فى لبنان؛ حيث أعلنتا رسمياً فى 22 يوليو 2024 عن "استعدادهما المشاركة إلى جانب حزب الله، فى حال موافقته، فى مواجهة أى عدوان إسرائيلى محتمل على لبنان"، لاسيما إذا استمر أمد الحرب واتسعت نطاقات المواجهة، وهو ما يخالف توجيهات رئيس الحكومة شياع السودانى الذى مارس ضغوطاً كبيرة على المليشيات لوقف عملياتها ضد الوجود الأمريكى فى العراق بالنظر إلى الدعم المطلق الذى تقدمه واشنطن لإسرائيل. أيضاً من المحتمل أن يشارك فى هذه الحرب حال اندلاعها كل من لواء "فاطميون" الأفغانى، ولواء "زينبيون" الباكستانى المتواجدين فى الأراضى السورية والتابعين لفيلق القدس الإيرانى؛ إما عبر عمليات لاستهداف مدن داخل الأراضى المحتلة أو من خلال القتال البرى، ويلاحظ هنا أن المواجهات بين حزب الله والجيش الإسرائيلى - حتى اللحظة - تعتمد على إطلاق الصواريخ والقذائف المضادة للدبابات والمسيرات والمدافع، ومن ثم فإن تحول نمط المواجهات إلى مواجهات برية يعنى أن فصائل المليشيات التابعة لإيران فى سوريا والعراق قد تقدم إسناداً قتالياً كبيراً على الأرض. إلا أن هذا الاحتمال يتوقف على طلب حزب الله اللبنانى نفسه، وتشير المصارد إلى صعوبة هذا الطرح؛ لأن حسابات حزب الله "قد" لاتسمح لنظرائه بالانتشار على الأراضى اللبنانية، وفى حالة حدوث مثل هذا الطرح فإن الجنوب اللبنانى سيكون أقرب إلى النموذج السورى .
سوريا وحسابات صعبة
كان من اللافت منذ اندلاع عمليات مساندة "محور المقاومة الإقليمى" المدعوم من قبل إيران للمقاومة الفلسطينية فى سياق العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، هو الغياب التام لدمشق – أحد أركان "محور الممانعة" – عن دعم المقاومة الفلسطينية لأسباب منها: رغبة النظام السورى في عدم التورط فى أى تصعيد مع إسرائيل؛ منعاً لتوسيع حالة الاستهداف العسكرى التى تقوم بها من آن لآخر لمناطق عسكرية مهمة فى دمشق، خاصة فى مناطق الجنوب والوسط حيث مطار دمشق الدولى؛ بهدف تقييد عملية الإمداد العسكرى التى تتم عبره بين إيران وحزب الله اللبنانى. هذا إلى جانب المكاسب التى حققها النظام على المستوى السياسى؛ نتيجة حالة الانفتاح العربى تجاهه، فالحفاظ على هذه المكاسب يُخضِع تفاعلات النظام مع حركة حماس من ناحية، ومع إيران من ناحية ثانية لحسابات محددة قد تهدد حالة الاستقرار النسبى فى العلاقات مع عدد من الدول العربية، وتهدد كذلك محاولات دمشق فك عزلتها الدولية والإقليمية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن العلاقة بين حماس والنظام السورى ليست كتلك التى تربطه بحزب الله اللبنانى الذى قدم دعماً عسكرياً كبيراً للنظام خلال صراعه مع المعارضة المسلحة، مما يفرض عليه حسابات مختلفة عن حساباته بشأن دعم حماس، الأمر الذى يطرح تساؤلات مهمة بشأن التزام دمشق موقف "الحياد" نفسه، الذى انتهجته مع حماس فى حربها الأخيرة مع إسرائيل، حال اندلاع حرب بين حليفها حزب الله اللبنانى وبين عدوها الاستراتيجى إسرائيل؟ أم أنها ستبادر إلى مساندة حزب الله فى هذه الحرب المحتملة؟
الإجابة على هذا السؤال تكمن فى بعض قراءات تستشرف مدى "احتمالية" تبنى دمشق مواقف تدعم حزب الله اللبنانى فى مواجهة إسرائيل، منها:
1- صعوبة اتخاذ النظام السورى موقفاً يقضى بفتح "جبهة الجولان" عسكرياً مع إسرائيل حال شنها حرباً على حزب الله فى لبنان. بعض القراءات تقول بأن حالة الفتور فى العلاقات الثنائية بين إيران وسوريا خلال الشهور الماضية، بالرغم من التحالف الاستراتيجى بينهما، ترجع إلى رفض دمشق ضغوطا مستمرة من قبل إيران بضرورة فتح جبهة الجولان كساحة عمل عسكرى ضد إسرائيل (من بين هذه الضغوط مطالبة إيران لدمشق بتسديد ديونها والتى تبلغ حوالى 50 مليار دولار)، وهو ما يعنى استمرار دمشق فى سياسة النأى بالنفس بعيداً عن تفاعلات "محور المقاومة" مع مسار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
2- محدودية المساندة التى ستقدمها دمشق بصورة رسمية لحزب الله حال اندلاع حرب مع إسرائيل؛ نظراً لاعتبارات حالة الإنهاك الاقتصادى والسياسى التى تعانى منها دمشق بعد انتهاء حالة الصراع المسلح مع المعارضة، فضلاً عن الحسابات التى يفرضها واقع وجود أكثر من قوى إقليمية منخرطة عسكرياً فى سوريا؛ فبعضها يرتبط بدعم إسرائيل كالولايات المتحدة الأمريكية، أو مناهضة للمشروع الأمريكى والإسرائيلي كإيران، أو لها مصالحها الأمنية فى منطقة الحدود السورية كتركيا، أو ترغب فى النأى بسوريا عن حرب إقليمية تقوض من مكتسباتها الإقليمية فيها كروسيا، فضلاً عن عامل وجود اللاجئين السوريين فى لبنان لأن الحرب الإسرائيلية على الجنوب اللبنانى تعنى عودة اللاجئين السوريين إلى سوريا، مما يزيد من الأعباء الاقتصادية والأمنية على النظام. هذا بالإضافة إلى حالة الانكشاف الأمنى السورى أمام المقاتلات الإسرائيلية، والتى ستوسع عملياتها – حال اندلاع الحرب مع حزب الله- حيث من المتوقع أن لا تقف تلك العمليات عند حد استهداف المليشيات الإيرانية (فيلق القدس) أو المدعومة من إيران كالمليشيات العراقية، بل ستتوسع لتشمل البنى التحتية فى عموم سوريا.
الحوثيون وتفعيل آلية العمل المشترك
أما بالنسبة لجماعة أنصار الله الحوثية ودورها في استهداف السفن التابعة لإسرائيل أو الدول الداعمة لها فى منطقة باب المندب وجنوب البحر الأحمر، وكذلك النقلة النوعية باستهداف قطع عسكرية أمريكية وبريطانية؛ فمن المتوقع حال اندلاع حرب إسرائيلية على الجنوب اللبنانى حدوث ما يلى:
1- ازدياد حدة وعدد ونوعية العمليات العسكرية للحوثيين فى منطقة جنوب البحر الأحمر؛ لتشمل المزيد من القطع والسفن العسكرية.
2- ارتفاع وتيرة العمليات العسكرية المشتركة مع عناصر من المليشيات العراقية، والتى بدأت فى مايو 2024، فيما عُرف بالمرحلة الرابعة من تنسيق العمليات المشتركة، والتى تستهدف المدن الإسرائيلية، وتستهدف كذلك الموانئ الإسرائيلية فى البحر المتوسط. وجدير بالذكر أن الحوثيين والمليشيات العراقية استهدفا فى عملية مشتركة يوم 12 يونيو 2024، مدينة أسدود الإسرائيلية، وفى 13 يونيو استهدفا 4 سفن عسكرية فى ميناء حيفا الإسرائيلى، ويذكر أن كتائب حزب الله العراق سبق وأن أعلنت فى 6 يونيو 2024، عن استهدافها - بطائرات مسيرة - سفينتين فى ميناء حيفا كانتا تنقلان أسلحة وذخيرة لإسرائيل (مصادر تقول بأن التنسيق المشترك تم بواسطة المليشيات العراقية انطلاقاً من مناطق فى الجولان المحتل، والحوثيون انطلاقاً من اليمن).
ختاماً، يمكن القول إن المنطقة مقبلة على مرحلة صعبة من التفاعلات بين "محور المقاومة الإقليمى" وبين إسرائيل، لاسيما حال شن الأخيرة حرباً عسكرية واسعة ضد حزب الله اللبنانى، لأنه من المتوقع أن يزداد التعاون المشترك لعناصر هذا المحور سواء من قبل المليشيات العراقية، أو من قبل جماعة أنصار الله الحوثية، فضلاً عن عناصر مساندة من قبل الحرس الثورى الإيرانى من الممكن أن تنقل عملياتها الداعمة لحزب الله عبر الحدود السورية-اللبنانية. وهذا التعاون المشترك سيمكن حزب الله من استهداف العمق الإسرائيلى وليس مناطق الشمال فقط، وستصبح تل أبيب وحيفا وأسدود بنك أهداف للحزب الله وحلفائه. لكن وفى المقابل، فإن لبنان برمته وليس الجنوب فقط سيصبح مسرحاً لعمليات عسكرية إسرائيلية التى ستتعمد "شل" لبنان من خلال ضرب البنى التحتية به لتزيد من وطأة الأزمة الاقتصادية على المجتمع اللبنانى، وقد تتجه للتوغل البرى فى مناطق قريبة من الحدود فى مناطق الجنوب، وهنا يصبح العمل المشترك لـ"وحدة الساحات" فى اختبار صعب، وقد يزيد "محور المقاومة الإقليمى" من قدرته على الضغط على إسرائيل فتنسحب من غزة، وتوقف تهديداتها للبنان، وفى كل هذه الحالات تصبح الحرب الإقليمية الشاملة حاضرة على مسرح أحداث المنطقة بقوة.