يستضيف لبنان 12 مخيماً للاجئين الفلسطينيين موزعين من شماله لجنوبه بمحازاة حدوده الغربية المطلة على البحر المتوسط. وقد عاش لبنان وعاش سكان المخيمات الفلسطينية تاريخاً طويلاً من الصراعات والظروف القاسية، ولا زالت هذه المخيمات تمثل نقطة ضعف وبؤرة توتر "خفية" قابلة للانفجار مع أي توترات أمنية جديدة قد يشهدها لبنان.
وتتجدد المخاوف الأمنية مع التصعيد العسكري بين إسرائيل وحزب الله، والذي قد يتحول إلى حرب شاملة، عقب عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، واستمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة على مدار ما يربو على تسعة أشهر حتى كتابة هذه السطور.
بعض المؤشرات تكشف أنه ربما تندلع حرب – بقواعد جديدة تتجاوز قواعد الاشتباك التقليدية – بين إسرائيل وحزب الله. وهنا، فإن أسئلة عديدة مرتبطة بواقع المخيمات الفلسطينية في لبنان تطرح نفسها ومفادها: ما هو الدور "المختلف" الذي قد يمارسه مسلحو هذه المخيمات في هذه الحرب المتوقعة إن نشبت؟، وما هو الأثر المترتب على وضع المخيمات "الهش" في الأصل في حالة حدوث ذلك؟
المخيمات الفلسطينية: الانتقال من النزوح إلى التسليح مروراً بالتهميش
دخل اللاجئون الفلسطينيون لبنان في حركة النزوح الكبرى لمواطني فلسطين التاريخية في أحداث النكبة في 1948. منذ ذلك التاريخ فر الجزء الأكبر من الفلسطينيين في نزوح داخلي كبير إلى الضفة وغزة، واتجه عدد كبير أيضاً إلى الأردن، التي سرعان ما أعطت غالبيتهم الجنسية وأصبحوا مواطنين أردنيين. لكن أعداداً أقل هربت إلى سوريا ولبنان ليبقوا إلى الآن على وضعهم "المؤقت" نازحين في مخيمات انتظاراً لـ"العودة".
وفقاً لسجلات الأونروا (مارس 2023)، بلغ العدد الإجمالي للاجئين الفلسطينيين المسجلين لديها داخل مخيمات لبنان 489,292 شخصاً. وبالإضافة إلى ذلك، تظهر سجلات الأونروا أن هناك ما مجموعه 31,400 لاجئ فلسطيني من سوريا يقيمون في لبنان. ومع الأخذ في الاعتبار أن التسجيل لدى الأونروا هو أمر طوعي؛ ولا يتم الإبلاغ عن حالات الوفاة والهجرة في كثير من الأحيان، فهذا يعني أن الأرقام الفعلية تقل كثيراً عن الأعداد المسجلة. وتشير التقديرات الواقعية إلى أن عدد لاجئي فلسطين المقيمين حالياً في لبنان لا يزيد عن 250,000 لاجئ، موزعين على 12 مخيماً.
76 عاماً مرت على وجود اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، حيث ولد جيل وراء جيل داخل هذه المخيمات، لم يكن له فرصة جيدة في العيش في بيئة صحية، حيث لم يسمح لهم إلا في فترات محدودة بإنشاء بعض المباني البسيطة، مع عدم وجود شبكات صرف صحي مناسبة وشبكات كهرباء مهترئة، إلى جانب منظومة تعليمية متدهورة جداً، بالتوازي مع غياب الأمن، لأن الشرطة اللبنانية لا تتدخل في الشئون الداخلية في المخيمات، ومن ثم مع مرور الوقت نشأت فكرة "المخيم الحصن"، بمعنى أن كل مخيم نشأت بداخله مجموعات تقوم بدور الحماية والأمن، مما يجعل الصورة أقرب إلى حياة المجتمعات البدائية.
كل ذلك كان ينمو تدريجياً بجوار عاملين مهمين هما:
1-تطور مسار العمل الفلسطيني المسلح أو بمعنى أدق "المقاومة": ظل الفلسطينيون النازحون داخلياً أو اللاجئون في دول الجوار: لبنان والأردن وسوريا، لعقود مرتبطين بفكرة المقاومة واستخدام العمل المسلح لتحقيق حلم العودة. وهذا مسار ملئ بالأحداث والانعطافات بداية بهزيمة 1967 ونشأة منظمة التحرير الفلسطينية، مروراً بالحرب الأهلية في لبنان لمدة 15 عاماً (1975-1990)، وخروج منظمة التحرير من لبنان ومن قبل ذلك اشتباكات منظمة التحرير مع قوات الأمن الأردني في "أيلول الأسود"، ثم تحول منظمة التحرير إلى طريق مفاوضات السلام خلال التسعينيات ثم فشل مسار السلام وصعود نجم منظمة حماس. كل هذه الأحداث كان لها انعكاساتها داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان.
فقد تمت تصفية مخيمات صبرا وشاتيلا في ثنايا الحرب الأهلية في لبنان، ونتج عنها مجازر كبيرة راح ضحيتها آلاف من سكان المخيمين، ثم تكرر الأمر في مخيم نهر البارد في 2007 في اشتباكات بين الجيش اللبناني والقوى المسلحة داخل المخيم انتهت بقتل عدد من سكان المخيم وهدم جزء كبير منه.
هذه صورة مصغرة لنحو 7 عقود من تاريخ طويل من انعكاس تسليح فصائل داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان، إلى جانب أن المخيمات ذاتها كانت صورة ممتدة لصراع الفصائل الفلسطينية نفسها. ومع غياب وجود الأجهزة الأمنية أو السلطة السياسية داخل المخيمات ومع تدني مستويات التعليم وانعدام فرص العمل وتقلص حلم العودة وتوافر شحنات كبيرة من الأسلحة ومندوبين للفصائل الفلسطينية المختلفة، تحولت بعض المخيمات الفلسطينية في لبنان إلى بؤرة ملتهبة تنتظر أي فرصة للاشتعال.
2-ظهور تنظيمات التطرف الديني العنيف العالمي: في خضم الفشل في إيجاد حل للقضية الفلسطينية وعودة الحقوق للشعب الفلسطيني النازح واللاجئ، كان على الجانب الآخر فاعل جديد ينمو تدريجياً وهو تنظيمات الإرهاب العالمي. فانطلاقاً من أفغانستان، تشكل تنظيم "القاعدة"، الذي نجح في استقطاب عدد من العرب، ومن بينهم الفلسطينيين.
قدم تنظيم "القاعدة" بفروعه المختلفة فرصة لما يطلق عليه "الجهاد"، تارة في أفغانستان وأخرى في العراق بعد 2003 وثالثة في سوريا بعد 2011. وهكذا، وجد بعض سكان المخيمات الفلسطينية في لبنان من الراغبين في العمل المسلح منفذاً لهم. سافر بعضهم وعاد مرة أخرى، محملاً بأفكار "تكفيرية" وقدرة أكبر على ممارسة "العنف"، وهذه المرة ليس من أجل تحرير فلسطين وتحقيق حلم الأجداد بـ"العودة"، لكن من أجل شعارات جديدة مثل "عودة الخلافة" و"تحكيم شرع الله" و"محاربة الجاهلية" وغيرها من أفكار السلفية العنيفة وتنظيمات الإرهاب المعولم: "القاعدة" و"داعش".
قبيل "طوفان الأقصى"
في هذا السياق، يمكن تصور الوضع داخل بعض المخيمات الفلسطينية في لبنان قبيل "طوفان الأقصى". تحديداً، وفي مخيم عين الحلوة، والذي يسكنه 85 ألف شخص، وقبل "طوفان الأقصى" بأسابيع قليلة، شهد المخيم صراعاً مسلحاً داخلياً عنيفاً، أدى إلى قتل العشرات ونزوح الآلاف. صراع بين الفصائل الإسلامية المتطرفة (ليست من بينها حماس) وبين منظمة فتح. واكتفت قوات الأمن اللبنانية بتطويق المخيم حتى لا يمتد الصراع إلى الخارج.
كان الصراع في مخيم عين الحلوة – المخيم الأكبر والأهم في لبنان - قد وصل إلى ذروته، حيث أصبح مركزاً رئيسياً لتنظيمات سلفية عنيفة مثل "الشباب المسلم" و"جند الشام"، الذي يستمد أفكاره من تنظيم "القاعدة" ويمتلك قدراً كبيراً من الأسلحة والسيطرة على شوارع المخيم. كما دخل التنظيم في صراع مع كافة الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها فتح وحماس، وقرر السيطرة على المخيم، ونفذ عملية اغتيال لأبي أشرف العرموشي المسئول الأمني في حركة فتح.
ويعد تنظيم "جند الشام" إلى جانب مجموعة "فتح الإسلام" و"عصبة الأنصار" و"عصبة النور"، من التنظيمات التي تنتمي إلى الفكر "القاعدي"، التي ترى أن معركتها مع الأنظمة العربية الحاكمة و"العدو البعيد" ممثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم فإنها تزعم أن مهمتها، إن استطاعت، تكمن في تنفيذ عمليات ضدها، بما يعني أنها تبتعد كثيراً عن أهداف جماعات المقاومة الفلسطينية الموجهة مباشرة نحو العدو التقليدي إسرائيل، نظراً لما سبقت الإشارة إليه من أسباب.
هنا، يثور التساؤل حول حدود التغير في هذا التوجه بعد "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023.
المخيمات الفلسطينية بعد "الطوفان"
قال الناطق الرسمي باسم حماس جهاد طه أن "عملية طوفان الأقصى أعادت تصحيح بوصلة السلاح الفلسطيني في المخيمات وجدّدت مشروعيته"، وهو ما يطرح سؤالاً مفاده: هل كانت عملية "طوفان الأقصى" سبباً في تصحيح مسار التيار الفلسطيني الباحث عن المقاومة؟.
سؤال مركب يحتاج لبحث عميق. بينما بعض الإجابات السريعة تشير إلى أنه لا يمكن تجاوز أثر "الصدمة" و"البهجة" داخل المخيمات في الوقت نفسه إزاء العملية، حتى وإن كانت التداعيات الإنسانية على أهل غزة كارثية. إلا أنه يجب الاعتراف بأن الحدث قد أثر بقوة على مسار وفكر وتنظير العمل "الجهادي" – إن صح التعبير- بالنسبة للفلسطينيين النازحين واللاجئين.
فعلى جبهة القتال، وعلى أرض الواقع، سمح حزب الله لأعضاء حماس والجهاد الإسلامي من أبناء المخيمات الفلسطينية بتنفيذ عمليات تسلل إلى شمال إسرائيل وشن هجمات صاروخية عبر الحدود من أجزاء في جنوب لبنان الخاضعة لسيطرة الحزب.
إلى جانب ذلك، أعلنت قيادة حماس في لبنان عن تشكيل كتائب "طلائع طوفان الأقصى" في ديسمبر 2023 – بالتنسيق مع حزب الله - ليكون تنظيماً جاذباً لتجنيد المقاتلين من أبناء اللاجئين الفلسطينيين داخل لبنان، وهو القرار الذي أثار استياء الحكومة والأحزاب السياسية اللبنانية، وأثار مخاوف البعض من تكرار دور منظمة التحرير الفلسطينية خلال الحرب الأهلية، الأمر الذي دفع حماس إلى طمأنة اللبنانيين بأن "طلائع طوفان الأقصى لن تكون فصيلاً عسكرياً، ولكن لتوحيد المجهود الفلسطيني في الشتات اللبناني لدعم غزة".
هل ستكون "طلائع طوفان الأقصى" محوراً للعمل الفلسطيني المسلح في مخيمات لبنان؟، هل ستكون أحد أذرع حزب الله "السُنية" لحشد الشباب السُني الراغب في العمل المسلح في مواجهة إسرائيل؟، وهل لدى حزب الله خطط أخرى لتشكيل كتائب أو جماعات جاذبة للشباب السُني (من غير الفلسطينيين) الراغبين في العمل المسلح ضد إسرائيل؟
في هذا السياق، يمكن القول إنه حتى اللحظة الراهنة، فإن الجهد والطاقة والسلاح والأنفاق المتوافرة لدى المخيمات الفلسطينية في لبنان – وهي قدرات مرشحة للزيادة - سيصب جزء كبير منه في إطار فكرة المقاومة الموجهة ضد العدو الإسرائيلي انطلاقاً من لبنان تحت اسم حماس ولكن بتوجيه وتنسيق من مُحرِّك المعركة، وهو حزب الله.
وعلى هذا الأساس، من المرجح أن تصبح المخيمات الفلسطينية في جنوب لبنان هدفاً لإسرائيل كما فعلت من قبل أثناء اجتياحها لجنوب لبنان في 1982، وهي مخاوف تساور لبنان مجتمعاً وحكومة، بل ومخاوف تجوب في مخيلة سكان المخيمات الفلسطينية الذين بدأوا في بناء ملاجئ لهم خشية التعرض لضربات صاروخية إذا ما اندلعت الحرب. ومن دون شك، فإن تحول المخيمات إلى هدف للضربات الإسرائيلية يزيد من تدهور الأوضاع المعيشية فيها مما يؤثر على سلامة ساكنيها بل والوضع الأمني في المناطق اللبنانية المجاورة للمخيمات بصورة عامة.
ومن المرجح أيضاً أنه في حالة نشوب حرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله، فإن ذلك سيفرض مشهداً عسكرياً شديد التعقيد لا يقتصر فقط على حزب الله، وإنما أيضاً على الكيان الجديد الذي قد تكون بدايته معروفة لكن نهايته ما زالت غامضة، لاسيما في ظل وجود أعداد غير معلومة وغير معروفة الهوية من المقاتلين المحاربين تحت راية "المقاومة الفلسطينية" ضد شمال إسرائيل. هؤلاء المقاتلون ربما يكونوا من أبناء حماس أو من الفلسطينيين غير المنتمين إلى أي فصيل أو من التابعين للتنظيمات "القاعدية" داخل المخيمات أو ربما من خارج المخيمات.