شيماء منير

خبيرة متخصصة فى الصراع العربى الإسرائيلى ومدير تحرير دورية الملف المصرى - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

منذ أن بادر حزب الله في لبنان بالتدخل العسكري في اليوم التالي مباشرة لاندلاع طوفان الأقصى، وذلك في 8 أكتوبر 2023 كـ"جبهة إسناد للمقاومة" تفعيلا لاستراتيجية "وحدة الساحات" بهدف استنزاف إسرائيل وتخفيف الضغط على المقاومة في غزة، حرص على أن يكون التصعيد ضمن قواعد الاشتباك، وأن يكون تدريجياً، وبالتنسيق مع المقاومة في غزة دون الانحراف نحو عتبة حرب شاملة، حتى شهدت الأيام الأخيرة ذروة التصعيد بين الجانبين مما دفع الجيش الإسرائيلي إلى التصديق على خطط قتالية لشن هجوم عبر الحدود الشمالية لإسرائيل، وسط تقديرات استخباراتية أمريكية بأن حرباً واسعة النطاق بين إسرائيل وحزب الله باتت وشيكة، إذا لم تتوصل إسرائيل وحركة حماس إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة.

وفي إطار ذلك التصعيد والحرب المتوقعة، هناك تساؤلات تطرح نفسها، وهي في حال قررت إسرائيل شن حرب على لبنان، مع استمرار الحرب في غزة، كيف يمكن تصور خوض إسرائيل القتال على جبهتين في وقت واحد؟، خاصة مع حالة الاستنزاف لإسرائيل على جبهات متعددة (لبنان، والعراق، واليمن)، وهل لدى إسرائيل القدرة والجهوزية الكافية على ذلك؟، وهل ستكون الحرب محدودة بهدف دفع حزب الله للقبول بتسوية تعيد الأمن لشمال إسرائيل؟، أم أنها ستأخذ مسار حرب شاملة؟، وهل ستساهم تلك الحرب في ترميم الردع الإسرائيلي المنهار إثر طوفان الأقصى؟، وما هو تأثير تلك الحرب على مسار المعارك الضارية في غزة؟ 

دوافع إسرائيل من خوض حرب مع حزب الله

تأتي الحرب مع حزب الله كإحدى نتائج إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على مواصلة القتال في غزة، ورفض الحزب الدخول في تسوية منفردة لوقف التصعيد في الجبهة الشمالية لإسرائيل، تأكيداً على استراتيجية "وحدة الساحات". كما تعكس الحرب "المحتملة" تغليب خيار "حسم" المواجهة تجاه حزب الله، والرغبة في تحقيق نصر استراتيجي بهدف استعادة الردع الذي انهار إثر طوفان الأقصى، والذي تعثرت إسرائيل عن ترميمه في غزة بعد دخول حرب الإبادة شهرها التاسع.

لذلك ترى إسرائيل أن عدم الرد على تصعيد حزب الله، والخسائر التي لحقت بالجبهة الشمالية تعني المزيد من تآكل الردع الإسرائيلي، على النحو الذي يمكن أن يشجع الحزب مستقبلاً على تنفيذ هجمات أكثر فتكاً من طوفان الأقصى في شمال إسرائيل. ويتسق خيار "الحسم" مع جنوح المجتمع الإسرائيلي أكثر نحو التطرف، وسيطرة أحداث 7 أكتوبر عليه خشية من تكرارها من جبهة الشمال، مما شكل دافعاً لرفض سكان الشمال للعودة في حال أُعلن عن تسوية مع لبنان، ولم تحسم المعركة عسكرياً؛ وذلك رغم توالي التحذيرات من داخل إسرائيل من مخاطر وتداعيات خوض حرب في الشمال، وعدم جهوزية الجيش الإسرائيلي، خاصة مع استمرار القتال في غزة. فوفقًا لدراسة نشرها موقع "جلوبس" الإسرائيلي، شملت 340 من سكان الحدود الشمالية النازحين، فإن 74% من المشاركين يشترطون عودتهم بـ"حلٍّ أمني مستقر" على شاكلة عملية عسكرية تُبعد حزب الله عن الحدود اللبنانية، أو على الأقل "تُؤِّمن وجوداً عسكرياً دائماً" في المكان إلى جانب ذلك، فيما أعرب 55% عن اعتقادهم بأنّ "حرباً شاملة" فقط ستؤدي إلى تغيير الوضع. كما أن أوساط اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية تؤيد فتح مواجهة عسكرية واسعة على الجبهة اللبنانية؛ حيث يرى كل من وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريش أن الحرب مع حزب الله فرصة للاستيلاء على جنوب لبنان، الذي يعتبرونه جزءاً من "أرض الله الموعودة".

 لذلك ترى إسرائيل أن المرحلة الراهنة تُعد مواتية للحسم على كافة الجبهات لاسترداد الردع، الأمر الذي يستدعي عدم توقف الحرب على غزة حتى استعادة الأسرى، وتغيير الواقع هناك على النحو الذي يضمن أمن إسرائيل، وفي الشمال أيضاً، حتى يتم ردع حزب الله، ومنع تكرار الهجوم في المستقبل. وإذا تطورت الحرب لتصبح إقليمية مع احتمال تدخل إيران، فإن بنك أهداف الحسم سيشمل تدمير البرنامج النووي أو القوة التقليدية لإيران.

وتبرر إسرائيل خيار الحرب بأنها إذا ارتضت باستنزاف حزب الله للجبهة الشمالية، في الوقت نفسه الذي تواصل فيه القتال في جبهة غزة إلى حين تحقيق أهدافها، فسوف يؤدي ذلك إلى استمرار إنهاك الجيش الإسرائيلي والاقتصاد، وما يفرضه ذلك من انعكاسات سلبية على المناعة الداخلية واهتزاز ثقة المجتمع الإسرائيلي بـالجيش وقياداته ومؤسساته، بالإضافة إلى التراجع العميق في صورة إسرائيل وقدرتها على حماية نفسها.

كيف ستكون الحرب في لبنان؟

إن انطلاق شرارة الحرب في لبنان سيكون بقرار من إسرائيل باختراق قواعد الاشتباك في القتال. ويمكن القول إن هناك ثلاثة سيناريوهات بشأن الحرب المتوقعة من حيث حدود التصعيد والأطراف المتصارعة، وهل ستكون حرباً محدودة بهدف ردع حزب الله، ودفعه لوقف القتال أم ستكون حرباً شاملة في لبنان، أم ستصل لحرب إقليمية بمشاركة إيران.

السيناريو الأول: حرب محدودة

يفترض ذلك السيناريو توجيه إسرائيل ضربات جوية مركَّزة تجاه أهداف للحزب مثل المواقع العسكرية، وتخزين الأسلحة (في إطار تكتيك جز العشب)، مع استمرار سياسة اغتيال قادة الحزب، بالإضافة إلى شن حرب برية محدودة في جنوب لبنان. تستهدف إسرائيل من ذلك المستوى من التصعيد المقتصر أطرافه على حزب الله وإسرائيل فقط تحقيق أهداف تكتيكية خاصة بإبعاد حزب الله عن الحدود، على النحو الذي يساهم في عودة الأمن لشمال إسرائيل وعودة السكان، وفي الوقت نفسه تكون كفيلة بألا تدفع المنطقة إلى حرب، خاصة وأن قوات الجيش في الشمال ليست على درجة كافية من الجاهزية للدخول في مواجهة الحزب الذي يمتلك قدرات عسكرية وقتالية تفوق قدرات حماس. إلا أن ذلك السيناريو تظل فرص تحقيقه محدودة، خاصة وأنه من غير المستبعد أن يرد الحزب بقوة، حتى لا يفقد قدرته على ردع إسرائيل، والتصدي لأي محاولة اجتياح بري. وقد رفض الحزب أي تهدئة وتحييد لجبهة جنوب لبنان عن جبهة غزة، وخروجه من وحدة الساحات دون وقف القتال في غزة. كما أن تلك العملية لن تساهم في ترميم وعودة الردع الإسرائيلي، ونتائجها غير كافية لطمأنة وعودة النازحين الإسرائيليين إلى منازلهم في الشمال، والذين تُقدر أعدادهم وفقاً لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي بـ61 ألف و76 إسرائيلياً، تم إخلاءهم بـ"حكم أوامر إخلاء إسرائيلية"، والذين لم تحدد الحكومة الإسرائيلية سقفاً زمنياً أو موعداً لعودتهم.

السيناريو الثاني: حرب شاملة

في حال قررت إسرائيل الدفع نحو تطبيق هذا السيناريو بهدف تدمير بنية حزب الله العسكرية، وحسم الصراع معه، فسوف يتم تسويقه من قبل إسرائيل باعتباره الخيار الوحيد الضامن لأمن سكان الشمال لأنه يساهم في اجتثاث كلي لخطر حزب الله، واستعادة الردع الإسرائيلي بأي شكل، حتى لو تكررت مشاهد الإبادة الجماعية في لبنان. وسوف تدفع بهذا السيناريو الحكومة اليمينية المتطرفة، مع توظيف الانتخابات الأمريكية التي تمثل فرصة لنتنياهو لإشعال الحرب دون خشية من منع أمريكي جدي لها.

ومن المتوقع مشاركة "محور المقاومة" في الحرب دعماً لحزب الله، دون مشاركة إيران طالما تمكن الحزب والمحور من مهاجمة إسرائيل والدفاع عن لبنان، مع اقتصار الدور الإيراني على الدعم بالسلاح، وذلك منعاً لاستهداف إيران واستنزافها، وتفويت الفرصة على إسرائيل لدخولها مستنقع الحرب، خاصة مع أزمة هشاشة المناعة الداخلية لإيران. وعلى الرغم من أن فرص تحقيق ذلك السيناريو تعد قوية، إلا إنه سيكون له تداعياته المكلفة على الجبهة الإسرائيلية الداخلية، خاصة مع الحرب التي خاضتها إسرائيل لمدة 9 أشهر في غزة، والتي أثرت سلباً على مقومات المناعة الداخلية، وتسببت في إنهاك الجيش واستنزافه، مما سيضعف من جهوزيته، والروح المعنوية القتالية على جبهة لبنان، ومن مؤشرات ذلك موجة رفض الخدمة العسكرية في غزة بين الجنود والضباط في الاحتياط. وفي مقابل ذلك، هناك خطوط إمداد برية وجوية تؤدي إلى لبنان عبر العراق وسوريا والتي يمكن استخدامها لدعم قوات حزب الله في حالة نشوب حرب شاملة، بكل ما يلزم من أسلحة، وذخائر، ومقاومين تقدر أعدادهم بالآلاف وعلى جهوزية تامة للقدوم إلى لبنان والانخراط في القتال.

كذلك تشير التقديرات إلى أن على إسرائيل أن تواجه في حالة الغزو البري شبكة أنفاق تمتد تحت لبنان، والتي يقول بعض المحللين الإسرائيليين أنها أكثر اتساعاً من تلك التي تستخدمها حماس. كما أن فتح مواجهة مع حزب الله في الوقت ذاته الذي تتواصل فيه حرب غزة، دون عودة الأسرى سيعمق الأزمة الداخلية، خاصة مع عدم وجود توافق تام بين أركان المؤسستين السياسية والعسكرية على تنفيذ هجوم ضد الحزب في الوقت نفسه الذي ما زال الجيش متورطاً في غزة. فضلاً عن ذلك، تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن القتلى من الإسرئيليين والجنود في حال وقوع الحرب سيكونون بالمئات، والجرحى بالآلاف، فضلاً عن تحدي عدم توافر الملاجئ لعشرات الآلاف من الإسرئيليين، في حال تمكن حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية في لبنان من السيطرة على منطقة الجليل، وأسر عدد من الإسرائيليين، لتتكرر أزمة الأسرى في غزة.

ويتوازى ذلك مع توقع قصف عشرات وربما مئات المواقع الاستراتيجية والعسكرية والصناعية، وتعطل المنشآت المدنية، منها شبكة الكهرباء، ومحطات الطاقة والاتصالات، والبنية التحتية الخَلَوية، بالإضافة إلى توقف الموانئ والرحلات الجوية عن العمل، ووقف سلاسل التوريد. كما ستتأثر القدرة على إطلاق صفّارات الإنذار، التي تحذّر من إطلاق الصواريخ مع كثافة النيران ومعدلات الإطلاق اليومية؛ حيث يُقدر معدل إطلاق الصواريخ بـ6000 آلاف صاروخ يومياً، في الأيام الأولى من الحرب، إلى 2000 صاروخ، مع العلم بأن حزب الله يمتلك ما بين 150 ألف إلى 200 ألف صاروخ وقذيفة من مختلف المديات. وتقدر ترسانته بأنها أكبر بخمس مرات على الأقل من ترسانة حماس وأكثر دقة، ولديها القدرة على التغلب على أنظمة الدفاع الجوي المتطورة في إسرائيل. فضلاً عن ميزة المسافة القريبة التي ستُطلق منها الصواريخ، على عكس الصواريخ الإيرانية والمسيَّرات التي أطلقت في شهر أبريل من 1600 كيلومتر.

وعلى صعيد المكانة الدولية لإسرائيل، وشرعيتها، فإن تلك الحرب ستتسبب في انزلاق إسرائيل نحو المزيد من العزلة الدولية، وذلك مع توقع الدمار الواسع النطاق في لبنان ووقوع الآلاف من الضحايا المدنيين، مع وجود عناصر في إسرائيل من أطراف اليمين المتطرف ترى أن العزلة عن العالم أمر إيجابي، وسيكون مفيداً في تحييد التأثيرات والضغوط الخارجية على إسرائيل، من أجل "تحقيق النصر"، واستعادة الردع بما لا يقيدها بقواعد حماية المدنيين من أجل إلحاق خسائر فادحة بلبنان و"محور المقاومة". وبالتالي ستزداد التحركات لعزل إسرائيل دولياً ونزع الشرعية عنها، تزامناً مع التحركات الخاصة بغزة، خاصة وأن الحرب الشاملة على لبنان كان بالإمكان منعها من خلال وقف دائم للنار في غزة، يليه تسوية بوقف التصعيد على الجبهة الشمالية، وهذا ما أكد عليه الحزب كثيراً بعدم رغبته في التصعيد أو الدخول في حرب، وأن موقفه مساند لجبهة غزة.

السيناريو الثالث: حرب إقليمية

يفترض ذلك السيناريو تحول إيران من جبهة إسناد بالسلاح لحزب الله، و"محور المقاومة" في حرب لبنان إلى طرف مباشر مشارك في الحرب، وذلك في حال أصبحت موازين القوى تختل لصالح إسرائيل، ويوشك حزب الله على الانهيار. وبالتالي فإن بنك أهداف الحرب الإسرائيلية سوف يتسع ليشمل أهدافاً داخل إيران؛ أي اتساع رقعة المواجهة والأطراف المشاركة في الحرب، ليخرج الصراع عن حدود فلسطين ولبنان، لتصل شرارته إلى منطقة الشرق الأوسط. ذلك السيناريو الذي يطمح نتنياهو لتحقيقه لأنه من ناحية يضمن بقاءه كـ"مدافع عن وجود إسرائيل"، ومن ناحية أخرى سيدفع نحو تشكيل تحالف إقليمي، بدعم أمريكي غربي، يكون بمثابة مظلة أمنية حامية لأمن إسرائيل، بل ووجودها، مع تطبيق سيناريو الحرب متعددة الجبهات "يوم القيامة"، يوفر لها مظلة دفاعية، كما حدث في الهجوم الإيراني ليلة 13-14 أبريل 2024 حينما قامت دول حليفة غربية بصد الهجمات ضد إسرائيل.

 وفي سبيل ذلك، سوف تحاول إسرائيل حشد بعض الدول لمواجهة الخطر النووي الإيراني الوشيك كمبرر لتفعيل تحالف في مواجهة إيران و"محور المقاومة"؛ أي أن تصبح لبنان ساحة لمواجهة إقليمية بدعم أمريكي غربي تستغله إسرائيل لتحقيق هدفين في الوقت نفسه: أولهما، ردع حزب الله، واجتثاث الخطر الذي تمثله جبهة الجنوب اللبناني. وثانيهما، القضاء على ما تسميه إسرائيل الخطر النووي الإيراني. ويبدو أن إسرائيل تأخذ في اعتبارها حدوث ذلك السيناريو، خاصة مع تهديد إيران بالتدخل لدعم حزب الله. ومن المؤشرات الدافعة لذلك، أنه تزامناً مع التصعيد في الشمال، جاء قرار إعادة تشكيل الفريق الإسرائيلي المكلف بمواجهة البرنامج النووى الإيراني، مع نشر الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية ادعاءات بأن إيران تنفذ أنشطة تتعلق بتطوير أسلحة نووية، تهدف إلى تقليص الزمن اللازم لإنتاج هذا السلاح في حال قرر ذلك المرشد الإيراني على خامنئي.

التأثيرات المحتملة على جبهة غزة

 في حالة شن حرب في لبنان مع إصرار نتنياهو على عدم الانخراط في صفقة تؤدي لوقف دائم للقتال في غزة، مع تبادل الأسرى؛ خشية أن يؤدي ذلك إلى انهيار ائتلافه وبدء محاكمته، وتذرعه بأن بقاء حماس وعدم القضاء عليها يعني هزيمة لإسرائيل، فإن جبهة لبنان ستصبح جبهة قتال رئيسية لتتحول غزة إلى جبهة ثانوية، تستهدف إسرائيل من بقاءها استنزاف المقاومة، وفرض الحصار الكامل والسيطرة الأمنية على كافة معابر القطاع، دون أن تُعرِّض قواتها للاستنزاف، من أجل التفرغ الكامل لجبهة لبنان. ومن بين الترتيبات التي تضمن ذلك خطة وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، والتي تضمن تقسيم القطاع إلى 24 منطقة إدارية، وتشكيل لجنة خاصة للإشراف على التنفيذ، برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، على أن تكلف قوة فلسطينية بالمسئولية عن الأمن داخل القطاع بشكل تدريجي، وذلك بعد أن تخضع لتدريبات خاصة أمريكية. كما تم الحديث عن اعتزام الجيش دخول المرحلة الثالثة (ج) من الحرب إثر انتهاء العمليات في رفح، من خلال تخفيض الحضور الميداني للجيش، وشن حملاتٍ عسكريةً محددة اعتماداً على المسيّرات والطائرات المقاتلة لـ"اغتيال قادة حماس"، مع الاعتماد على المعلومات الاستخباراتية لتحرير الأسرى. وإلى حين وقف العمليات المحتدمة في رفح والشروع في المرحلة (ج) تواصل إسرائيل عملياتها المكثفة في القطاع من خلال الاجتياح البري للشجاعية في شمال قطاع غزة، والذي بدأ يوم 28 يونيو 2024 ومازال متواصلاً، تحت ذريعة جمع معلومات لاستعادة المحتجزين الإسرائيليين هناك، في حين يمكن اعتباره تمهيداً لتنفيذ خطة غالانت الخاصة بتقسيم القطاع إلى 24 منطقة إدارية. 

أما على صعيد تأثير الحرب المحتملة في لبنان على العمليات العسكرية لفصائل المقاومة في غزة، فإنها ستساهم في التخفيف عن المقاومة من خلال انتقال قوات كبيرة من الجيش الإسرائيلي إلى الجبهة الشمالية، كما أن القوات التي ستظل متواجدة في القطاع، ولو محدودة، سوف تكون ضمن بنك أهداف المقاومة، وسيتم استنزافها من قبل تكتيكات المقاومة المختلفة التي تعتمد إلى حد كبير على حرب العصابات. ومن ثم ستبقى جبهة غزة مشتعلة تزامناً مع جبهة جنوب لبنان، مع حرص المقاومة على رفع كُلفة كل عملية اقتحام جديدة لأي من الأحياء أو المخيمات والعمل على إعاقة حرية حركة قوات الجيش ودفع ثمن دموي. كما ستساهم في إعادة ترتيب صفوف المقاومة وأوضاعها العسكرية من أجل إلحاق أكبر خسائر في القوات الإسرائيلية، ووضع العراقيل أمام مخططات إسرائيل في القطاع، والتي تسعى لتعميق الاحتلال والسيطرة عليه تحت مُسمى ترتيبات اليوم التالي للحرب.

ختاماً، رغم أن وقف الحرب في غزة والدخول في تسوية فيما يخص الشمال سيكون، في رؤية تل أبيب، على حساب إرجاء ترميم الردع الإسرائيلي، إلا أنه يعد الخيار الأقل كُلفة بالنسبة لها، خاصة وأن نتائج الحسم العسكري في الجبهة الشمالية غير مؤكدة لصالحها، لاسيما مع القدرات التسليحية لحزب الله، ودعم "محور المقاومة" له عبر عمليات نوعية، واحتمال انضمام إيران بشكل مباشر على النحو الذي يمكن أن يأتي بنتائج عكسية على أمن إسرائيل خاصة وأنها مازالت عالقة في مستنقع غزة، ولم تستطع تحقيق نصر حاسم ضد حماس، رغم حرب الإبادة والتجويع طوال تسع شهور، لينعكس الاستزاف المتواصل لها، وتشرذم جبهتها الداخلية، على جهوزيتها القتالية في لبنان. وفي النهاية، فإن الكفة ما تزال راجحة لصالح عدم الميل إلى توسيع إسرائيل دائرة الاشتباك مع حزب الله إلى حرب شاملة في لبنان قد تأخذ بُعداً إقليمياً، وبالتالي ترجيح خيار التصعيد المحسوب مع حزب الله، على الأقل حتى تتشكل ملامح واضحة لليوم التالي للحرب في غزة، تضمن لإسرائيل خروجاً آمناً منها.