شهدت الساحتان العراقية والسورية عددًا من المشروعات الإيرانية على مختلف الأصعدة، سياسيًا وعسكريًا وثقافيًا وديموغرافيًا واقتصاديًا، من أجل إقامة مشروع الممر البري الإقليمي، الرابط بين الحدود الغربية لإيران وسواحل شرق البحر المتوسط. خلال حرب غزة الخامسة (2023). ارتبط هذا الممر البري بموجة التصعيد الإقليمي التي شارك فيها المحور الإيراني من خلال الهجمات المتبادلة بين الميليشيات الموالية لطهران والقوات الأمريكية والإسرائيلية على امتداد دول مشروع الممر البري التي أصبحت ساحة للصدام المستمر خلال فترة حرب غزة، وكانت القوات المرابطة على امتداد هذا الممر هدفًا للضربات العسكرية.

من أجل فهم أبرز ملامح مشروع الممر البري الإقليمي الإيراني ثمة ضرورة لفهم الأسس والمفاهيم التي كانت وراء هذا المشروع الإقليمي. إذ سعت إيران لتوسيع عمقها الاستراتيجي وفقًا لنظرية “أم القرى”، التي بموجبها تحاول طهران أن تتبوأ مكانة المركز في المنطقة الجغرافية المحيطة بها، وتربط العواصم الموالية لها برباط وثيق يخدم تحقيق مصالحها.

تجدر الإشارة هنا إلى أن آليات إيران فيما يخص إقامة هذا الممر الإقليمي تشابهت في كل من سوريا والعراق، رغم اختلاف وتنوع ظروف التنفيذ في كل من البلدين، فقد تم توظيف الأدوات العسكرية والاقتصادية والثقافية معًا لتنفيذ المشروع نفسه، وتمت المراوحة بين هذه الأدوات أو حتى استخدامها معًا بشكل متزامن بحسب الظروف والأوضاع المختلفة ما بين منطقة وأخرى، وما بين وقت وآخر.

ارتبط بهذا المشروع الكبير عدة مشروعات مختلفة للنقل والمواصلات على امتداد المسارات المختارة للطريق في الدول المخطط المرور بها، وترافق ذلك غالبًا مع انتشار عسكري للميليشيات المسلحة المرتبطة بفيلق القدس، الذراع الخارجية للحرس الثوري الإيراني.

يلاحظ، من خلال متابعة السلوك الإيراني في إنشاء الممر البري الممتد إلى البحر المتوسط، أن المسارات المختلفة للطريق تتكامل ولا تتعارض؛ أي أن المقصود هو بقاء كل المسارات معًا وعدم الاكتفاء بأحدها أو اعتبار مسار ما بديلا عن الآخر. لكن الجهود المناوئة لهذا المشروع قد تجبر إيران على استبدال ممر بآخر من دون التخلي عن خطط فتح تلك الممرات جميعًا في وقت لاحق، حال سنحت الظروف بذلك، كما هو الحال في المسار الجنوبي المار بمعبر التنف الحدودي.

 مقابل هذه المشروعات والجهود الحثيثة العابرة للحدود، برزت تحولات إقليمية ودولية مؤثرة أسهمت في إبطاء وإعاقة بعض خطوات وطرق هذا المشروع الإقليمي، كان أبرزها الدور الأمريكي عبر الوجود العسكري على الأرض، والضربات الجوية في بعض الأحيان، وممارسة النفوذ السياسي للغرض نفسه، وكذلك الاستهدافات العسكرية الإسرائيلية المتكررة، والمبادرات العربية لإيجاد حوافز أمام النظام السوري للتقارب مع محيطه على حساب تقليص اعتماده على طهران. أيضًا، شكلت المنافسة الروسية عامل كبح أحيانًا لتمدد إيران في بعض المناطق.