كرم سعيد

باحث متخصص في الشأن التركي- مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام

 

طرأت على الساحة الداخلية التركية تطورات عديدة خلال الفترة الأخيرة بدا منها أن هناك محاولة لإعادة صياغة أنماط التفاعلات التي تجري بين القوى السياسية الرئيسية، على نحو انعكس في التقارب الملحوظ بين حزب العدالة والتنمية وقوى المعارضة الرئيسية، والذي كشف عنه لقاء الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغو أوزيل على هامش الاحتفال بما يعرف في تركيا بذكرى "عملية السلام" العسكرية في شمال قبرص، في 20 يونيو 2024.

ولم يكن هذا المؤشر هو الوحيد، ففي 11 يونيو الجاري، قام أردوغان بزيارة مقر حزب الشعب الجمهوري، كما التقى بعد ذلك قيادات ورموز أحزاب المعارضة الفاعلة على الساحة التركية. وربما يعكس ذلك محاولة من جانب حزب العدالة والتنمية لتقليص حدة الاحتقان والاستقطاب السياسي في البلاد، ولا سيما بعد تراجع نتائجه في الانتخابات المحلية التي أجريت في نهاية مارس الماضي والتي تزامنت مع جهود يبذلها أردوغان لإجراء تعديلات دستورية جديدة، بالإضافة إلى تعثر محاولات الالتفاف على التراجع الحادث في مؤشرات الاقتصاد.

مؤشرات رئيسية

تكشف مؤشرات عديدة عن تغير نسبي في توجهات الحزب الحاكم في تركيا تجاه القوى السياسية المنافسة، ويتمثل أبرزها في:

1- قبول نتائج الانتخابات المحلية: خلافاً لما حدث عقب انتخابات المحليات التي أجريت في مارس 2019، عندما رفض أردوغان نتائجها، وأصر على إعادة انتخابات بلدية اسطنبول بعد خسارة مرشحه بن على يلدريم، فقد أعلن قبوله نتائج الانتخابات المحلية التي أجريت في نهاية مارس الماضي، رغم أنها أسفرت عن فوز المعارضة بالبلديات الكبرى، ومنها اسطنبول وأنقرة.

وفي هذا السياق، قال أردوغان في تصريحات له عشية انتهاء الاقتراع: "إن النتيجة تشكل نقطة تحول"، وأضاف: "نتعهد بمراجعة أداء حزبنا"، وتابع: "يحترم حزب العدالة والتنمية ما أفرزته الصناديق ويقر بالتزامه بالديمقراطية". كما تعهد بتحليل نتائج الاقتراع، وإجراء عملية نقد ذاتي لإصلاح الأخطاء داخل الحزب.

2- تقليص حدة التوتر مع الخصوم المحليين: شهدت الفترة الماضية حراكاً لافتاً بين حزب العدالة والتنمية وأحزاب المعارضة الرئيسية، وتجلى ذلك في استقبال الرئيس أردوغان، في 5 يونيو الجاري، الرئيسة السابقة لحزب الجيد المعارض ميرال أكشنار في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة، بعد أن تمكنت الأخيرة من تقليص حدة التوتر مع أردوغان، وتهنئته بالفوز في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في مايو 2023. كما التقى أردوغان، في 2 مايو الفائت، زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال، أكبر أحزاب المعارضة في تركيا، وهو اللقاء الأول من نوعه منذ 8 سنوات بين زعيمي حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري.

3- استقطاب دعم التيار الأتاتوركي: بالتوازي مع الاجتماعات الثنائية مع قادة المعارضة، عمل الرئيس أردوغان خلال الفترة الماضية على استقطاب دعم الكتلة الأتاتوركية، لتعزيز قدرته على المطالبة بإجراء استفتاء على تعديلات دستورية محتملة خلال المرحلة المقبلة، وظهر ذلك في إصداره مرسوماً رئاسياً، في 23 مايو الفائت، تضمن العفو عن عدد من الجنرالات المنتمين إلى التيار الأتاتوركي العلماني المتشدد، والمتهمين بإجبار حكومة نجم الدين أربكان الإسلامية على إصدار قوانين ضد المحجبات، مثل منعهن من العمل في المؤسسات الرسمية للدولة، فضلاً عن دور بعض هؤلاء الجنرالات في تدبير عملية الإطاحة بحكومة أربكان في عام 1997.

4- توسيع نطاق التعاون البرلماني: حرص حزب العدالة والتنمية خلال الأسابيع الماضية على توسيع مساحات التعاون مع أحزاب المعارضة التي لديها تمثيل داخل البرلمان التركي، لمناقشة القضايا الداخلية، والوصول إلى رؤية بشأن التحديات التي تواجه البلاد. وهنا، يمكن تفسير توجه نعمان قورتولموش رئيس البرلمان التركي، والنائب عن الحزب الحاكم، نحو تكثيف لقاءاته مع الكتل البرلمانية، حيث التقى، في 29 أبريل الماضي، قادة ثلاثة أحزاب معارضة "ديم الكردي والسعادة والجيد" فضلاً عن اجتماع سابق مع المجموعة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري، لمناقشة مسألة التعديلات الدستورية التي يقترحها حزب العدالة والتنمية.

ويتوقع أن يستمر التوجه الجديد للعدالة والتنمية، والذى يرتكز على دفع وتعميق العلاقات البرلمانية مع الخصوم السياسيين، ويؤكد ذلك تصريحات نعمان قورتولموش، التى قال فيها: "يجب على الأحزاب السياسية أولاً أن تتصافح بعضها مع بعض، لا يمكن تحقيق الحوار من خلال اللكمات حيث ليس من الممكن للأحزاب أن تفهم وتتفق بعضها مع بعض".

دوافع مختلفة

يمكن تفسير هذا التغير الملحوظ في أنماط التفاعلات التي تجري بين حزب العدالة والتنمية والقوى السياسية المنافسة في ضوء دوافع عديدة هى:

1- تمرير التعديلات الدستورية: مع سعى حزب العدالة والتنمية لإجراء تعديلات دستورية تزداد الحاجة إلى تحشيد مواقف المعارضة لمصلحة تمرير هذه التعديلات. وعلى الرغم من توافق كافة أحزاب المعارضة على ضرورة صياغة دستور جديد للبلاد، إلا أن ثمة خلافات وتخوفات من بعض المواد التي طرحها العدالة والتنمية، التي قد يصر على تمريرها في الدستور الجديد، ومنها إدراج مسألة حرية ارتداء الحجاب، وعدم الحق في منعه، وحماية النظام الرئاسي، فضلاً عن مقترح بتعديل نظام انتخاب رئيس الجمهورية، ليقتصر على جولة واحدة بدلاً من جولتين بالإضافة إلى إلغاء شرط الحصول على 50 في المئة+1 للفوز بالمقعد الرئاسي. ومع رفض المعارضة لهذه المقترحات، فإن حزب العدالة والتنمية يراهن على دفع التقارب وتهدئة التوتر على الساحة السياسية الداخلية، لتمرير مقترحاته في الدستور الجديد أو على الأقل جانب معتبر منها.

2- تراجع شعبية الشريك: يرتبط التقارب الحاصل بين أردوغان وقوى المعارضة، في جانب منه، بتراجع شعبية شريكه حزب الحركة القومية، بسبب تشدده في التعاطي مع الملفات الداخلية، وإصراره على التزام النهج التقليدي القائم على دعم سياسات الاستقطاب مع الخصوم.

ويشار في هذا الصدد إلى أن ثمة مخاوف وشكوكاً متصاعدة في التوقيت الحالي داخل حزب العدالة والتنمية بشأن جدوى استمرار الشراكة مع حزب الحركة القومية الذى حل في المرتبة الخامسة في الانتخابات المحلية 2024، بينما سبقه حزب الرفاه من جديد حديث النشأة والذى احتل المرتبة الثالثة، في حين جاء حزب الخير الذى خرج من عباءة الحركة القومية في المرتبة الرابعة. كما تجدر الإشارة إلى أن حزب الحركة القومية حل رابعاً في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في مايو 2023 حيث حصل على 50 مقعداً مقابل 61 مقعداً لحزب اليسار الأخضر- الجناح السياسي للأكراد، والذى جاء في المرتبة الثالثة بعد العدالة والتنمية والشعب الجمهوري.

3- النتائج البارزة للمعارضة في الانتخابات: نجحت أحزاب المعارضة منفردة في تحقيق نتائج لافتة في الانتخابات المحلية التي أجريت في مارس 2024، حيث تمكن حزب الشعب الجمهوري منفرداً من الفوز بغالبية البلديات الكبرى، فضلاً عن عدد من الولايات المحسوبة تقليدياً على حزب العدالة والتنمية. كما نجح حزب الرفاه من جديد بعد رفضه الانخراط في تحالف الشعب الذى يقوده العدالة والتنمية، في الحصول منفرداً على 6.2 في المئة من مجموع الأصوات في الانتخابات البلدية الأخيرة، حيث فاز ببلديتين في جنوب ووسط تركيا على حساب مرشحي العدالة والتنمية.

4- استمرار الأزمة الاقتصادية: لا ينفص4ل تقارب الرئيس أردوغان مع المعارضة عن استمرار الأزمة الاقتصادية، وتراجع مؤشرات الاقتصاد، والتي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، حيث بلغ معدل التضخم السنوي بنهاية مايو 2024 نحو 75.5 في المئة بالإضافة إلى وصول معدل البطالة إلى 8.5 في المئة، على نحو يعني أن أردوغان لم يتمكن حتى اللحظة من تنفيذ ما وعد به خلال حملته الرئاسية في مايو 2023، من تحويل البلاد إلى قوة صناعية، وتجاوز التحديات الاقتصادية، من خلال توفير المزيد من فرص العمل للشباب.

وعلى ضوء ذلك، وفي ظل تصاعد مخاوف أردوغان من أن تفرض الأزمة الاقتصادية الحالية تأثيرات سلبية على حضوره السياسي مع حزبه، فإن إشراك المعارضة في إدارة الأزمة الاقتصادية بات ضرورة ملحة في التوقيت الحالي، ولذلك يتوقع أن يعمل أردوغان على إسناد إدارة بعض الملفات الاقتصادية لشخصيات تنتمي إلى المعارضة، وهى مهمة صعبة، في ضوء إدراك الأخيرة أن أردوغان يسعى إلى إشراكها في تحمل المسئولية عن ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية.

ختاماً، يمكن القول إن أردوغان سيسعى إلى توظيف التقارب الحاصل في التوقيت الحالي مع المعارضة في الداخل التركي لضمان تحقيق أهدافه، على نحو يزيد من احتمالات إقدامه على مزيد من الخطوات التي يسعى من خلالها إلى تقليص مساحة الخلافات مع الأخيرة خلال المرحلة القادمة.