منذ تأسيسها عام 1948، حاولت إسرائيل تقديم حروبها مع العرب على أنها حروب اضطرارية سواء أكانت "وقائية" أو "استباقية"، ووضعت جميعها تحت مسمى "حروب اللا خيار" No choice Wars والتي تعني تحديداً أن إسرائيل تخوضها حيث لا يكون أمامها بدائل أخرى للدفاع عن أمنها ووجودها. ويبدو مفهوماً لماذا تحرص إسرائيل على إخفاء دوافعها الحقيقية في خوض حروبها تحت مسميات وتوصيفات "أخلاقية"، حيث يضمن لها ذلك دعماً دولياً سواء أمام مؤسسات القانون الدولي خاصة الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، أو أمام الرأى العام في الدول الكبرى على وجه الخصوص.
وفي إطار الاشتباكات المتواصلة بين حزب الله اللبناني والجيش الإسرائيلي منذ اندلاع الحرب في غزة في 7 أكتوبر 2023، من المحتمل أن تتدهور تلك المواجهات إلى حرب شاملة بين الطرفين في أي لحظة، وفي حينها سيكون تعبير "حرب اللا خيار" هو ما ستستخدمه إسرائيل لتبريرها سواء داخلياً أو خارجياً.
مفهوم "حرب اللا خيار" في التاريخ الإسرائيلي
يرى الباحث والحاخام الإسرائيلي شلومو برودي في دراسة حديثة نشرت في أعقاب نشوب الحرب الحالية في غزة، أن تعبير "حرب اللا خيار" قد ظهر حتى قبل نشأة الدولة للتعبير عن فكرة أن الصهاينة ليس لديهم بديل سوى خوض الحروب التي فرضت عليهم. وكان ذلك التعريف متطابقاً، في رؤية إسرائيل، مع حالة الحرب في عام 1948 بسبب أن العرب هم من رفضوا القرار الدولي بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية.
غير أن التعريف نفسه لم يكن ينطبق على الحرب التي شنتها فرنسا وبريطانيا بمشاركة إسرائيل عام 1956 ضد مصر. ولكن رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينها ديفيد بن جوريون حاول لوى الحقائق بالادعاء بأن حصول مصر على أسلحة من أحد بلدان الكتلة الشيوعية (تشيكوسلوفاكيا) سوف يخل بميزان القوى بينها وبين إسرائيل، وبالتالى لابد من خوض الحرب لمنع ذلك. بينما برهنت الوقائع لاحقاً على أن الهدف الحقيقي لإسرائيل كان ضم سيناء إلى أراضيها، ولكنها لم تتمكن من تحقيق ذلك لأسباب عديدة (لا تتعلق بجوهر أطروحة هذا التقدير).
وكررت إسرائيل الادعاء بأنها تخوض حرب اللا خيار عام 1967 تحت مبرر أن إغلاق مصر خليج العقبة ودفع جيشها نحو سيناء هو بمثابة تهديد وجودي لها، وفيما بعد برهنت الوثائق الإسرائيلية والأمريكية على أن مصر لم تكن تنوي مهاجمة إسرائيل، وأن الأخيرة زعمت أنها تحت تهديد غير حقيقي لوجودها ولتخفي الهدف الحقيقي من الحرب وهو إجبار العرب على الاعتراف بوجودها وإقامة علاقات طبيعية معها مقابل إعادة بعض الأراضي التي احتلتها في تلك الحرب.
أما حرب أكتوبر 1973، فرغم أنها تبدو ظاهرياً وكأنها تتوافق مع مصطلح "حرب اللاخيار" كون مصر وسوريا هما من بادرتا بشنها ضد إسرائيل، إلا أن سبب الحرب الحقيقي هو تعنت إسرائيل الذي تمثل في رفضها لمبادرات السلام التي أطلقت لحل الصراع معها سلمياً، وبالتالى يمكن اعتبار حرب أكتوبر من جانب مصر وسوريا حرب لا خيار بالمعنى الحقيقي بالنسبة لكليهما في سبيل تحرير أراضيهما من الاحتلال، وليس حرب لا خيار إسرائيلية كما يدعي قادتها حتى اليوم.
وإذا كانت حروب اللا خيار بالمفهوم الإسرائيلي قد تقلصت إلى مواجهات متقطعة: مع منظمة التحرير الفلسطينية في حرب عام 1982 على الأراضي اللبنانية، وحزب الله في حرب عام 2006، ثم المواجهات الكبرى مع حركة حماس في غزة منذ عام 2008 (أربعة مواجهات آخرها الحرب التي ما تزال دائرة حتى اليوم)، فإن ادعاء إسرائيل بأن كافة هذه الحروب أو المواجهات كانت اضطرارية (بحكم أن حزب الله وحماس كانا يشنان هجمات على إسرائيل)، هو ادعاء كاذب، حيث أن هذه المواجهات نشبت بسبب تعنتها في إنهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على أساس حل الدولتين، وهو ما فتح الطريق أمام حزب الله وحماس ذوي التوجهات الأيديولوجية المنادية بالقضاء على إسرائيل وغير المهتمين واقعياً بتطبيق حل الدولتين، لاستغلال الوضع وتصوير حروبهما الأيديولوجية ضد إسرائيل على أنها معارك من أجل استعادة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
من خلال هذه المسيرة التاريخية وحتى نشوب حرب غزة الأخيرة، يمكن القول إن تعبير "حروب اللاخيار" كان أداة دعائية إسرائيلية زائفة، لتبرير سياسات تل أبيب الهادفة لمنع تطبيق حل الدولتين وإنهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، قبل أن ينقلب الوضع برمته لتصبح إسرائيل لأول مرة أمام حرب "لا خيار" حقيقية تتعلق بوجودها ذاته، ولكنها وللمرة الأولى أيضاً تخشى خوضها بسبب الحسابات المعقدة في الجبهة المشتعلة مع حزب الله حالياً.
حسابات إسرائيل في مواجهة حزب الله
مع ارتفاع حدة التصعيد بين حزب الله وإسرائيل منذ عدة أسابيع وكان آخرها في 12 يونيو 2024، بات الخوف من نشوب الحرب الشاملة بين الطرفين أقرب من أى وقت مضى. يعزز تلك المخاوف قيام بيني جانتس زعيم حزب معسكر الدولة بالانسحاب من "حكومة الطوارئ" التي كانت تدير الحرب منذ 11 أكتوبر الماضي، وهو ما يعني أن إدارة المعارك سواء مع حزب الله أو حركة حماس قد أصبحت مسئولية خالصة للائتلاف الذي يقوده بنيامين نتنياهو بمشاركة الأحزاب الحريدية وأحزاب الصهيونية الدينية، وتطالب الأحزاب الأخيرة ممثلة بوزير المالية بتسلئيل سموترتش ووزير الأمن القومي ايتمار بن غفير، بدخول الجيش إلى لبنان وتدمير حزب الله.
والمعروف أن تلك الأحزاب نفسها كانت قد نادت في وقت مبكر (11 أكتوبر الماضي) بفتح جبهة القتال مع حزب الله، وهو المطلب نفسه الذي قدمه وزير الدفاع يؤاف جالانت وعدد من قادة الجيش الإسرائيلي آنذاك، غير أن نتنياهو تحت ضغوط أمريكية وبمعاونة بيني جانتس تمكنا من إفشال محاولات توسيع جبهة الحرب لتبقى قواعد الاشتباك بين إسرائيل وبين الحزب تحت السيطرة إلى حد كبير.
إن ما يجعل الحرب مع حزب الله بالنسبة لإسرائيل حرب "لا خيار" حقيقية عدة عوامل:
1- خسارة إسرائيل للردع الذي حققته مع حزب الله منذ عام 2006 وحتى نشوب الحرب مع حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي، وهو ما يفرض عليها استعادته بمعزل عن مجريات ونتائج الحرب الجارية حالياً مع حماس في غزة.
2- رفض سكان شمال إسرائيل الذين تم نقلهم من منازلهم لمناطق بعيدة عن الحدود مع لبنان، للعودة إلى منازلهم قبل إنهاء التهديد القادم من جهة حزب الله (هناك تقديرات بأن أعدادهم تزيد عن80 ألف مواطن).
3- رغبة نتنياهو في تحقيق أقصى تماسك للائتلاف الذي يقوده بعد انسحاب بيني جانتس من حكومة الطوارئ ومطالبته بإجراء انتخابات عامة مبكرة، وهو ما يحتم عليه (أي نتنياهو) الاستجابة لمطالب حزبي الصهيونية الدينية بزعامة بتسلئيل سموترتش وايتمار بن غفير بشن حرب شاملة ضد حزب الله، في ظل تهديدهما بالانسحاب من الائتلاف وإسقاطه إذا لم يستجب لمطالبهما سواء بتدمير حزب الله، أو برفض أي صفقة لإنهاء الحرب مع حماس.
4- الضغوط التي تمارسها أجهزة الأمن والتي تريد الاستمرار في تنفيذ عمليات الاغتيال لقادة حزب الله، رغم أن مثل هذه العمليات هي السبب الأهم في قيام الأخير بتصعيد هجماته ضد إسرائيل.
5- رغم استقالة بيني جانتس من حكومة الطوارئ، إلا أنه أعلن قبل رحيله بأنه يؤيد حرباً شاملة ضد حزب الله لكي يتم إعادة سكان الشمال إلى منازلهم.
في مقابل تلك العناصر المُعضِّدة لخيار الحرب الشاملة، توجد عوامل أخرى تقلل من إمكانية لجوء إسرائيل إليه حتى هذه اللحظة وهى:
1- رفض الولايات المتحدة توسيع جبهات الحرب خشية اندلاع حرب إقليمية واسعة النطاق، حيث تضغط واشنطن على تل أبيب سواء بالتلويح بمنع صادرات السلاح إليها، أو بوعدها بأن جهودها مع بعض الدول الأوروبية يمكن أن تحقق تسوية مرضية لها عبر إقناع حزب الله بسحب قواته إلى ما وراء نهر الليطاني وفقاً للقرار الأممي 1701 الصادر عام 2006.
2- خشية إسرائيل من أن رد فعل حزب الله وربما إيران نفسها في حالة شنها حرباً شاملة على لبنان، والذي سيتمثل في إطلاق آلاف الصواريخ والقذائف والطائرات الانتحارية المسيرة على أراضيها، مما سيتسبب في خسائر جسيمة في أرواح السكان والجنود، غير إصابة المراكز الصناعية بأضرار شديدة ترتب أزمة اقتصادية عنيفة قد يمتد تأثيرها لسنوات طويلة مقبلة.
3- سيؤدي الدخول في حرب شاملة ضد حزب الله إلى إضعاف قوة العمليات العسكرية التي يشنها الجيش الإسرائيلي في غزة للقضاء على حماس، وبالتالي قد تنتهز الأخيرة الفرصة لاستعادة سيطرتها على القطاع، مما يعني عملياً التخلي عن الهدفين الكبيرين للحرب هناك وهما: استعادة الرهائن، والقضاء على حكم حماس في غزة.
4- يمكن أن يتسبب قرار خوض حرب شاملة ضد حزب الله في مزيد من الإدانات الدولية لإسرائيل، والتي باتت مهددة بصدور أحكام من الجنائية الدولية بارتكابها جرائم حرب ضد السكان المدنيين، خاصة وأن الحرب الشاملة ستؤدي إلى سقوط أعداد ضخمة من اللبنانيين، الذين تفتقر بلادهم إلى بنية أساسية مناسبة لحماية المدنيين أثناء الحروب.
خيار استدراج حزب الله للمبادرة بالحرب
في ظل العوامل الداعمة لشن إسرائيل للحرب الشاملة ضد حزب الله، والعوامل الأخرى المناهضة لذلك، يمكن استبعاد قيام إسرائيل باتخاذ مثل هذا القرار. ولكنها ستراهن على إمكانية جر حزب الله ليكون البادئ بمثل هذه الحرب، وذلك عبر الاستمرار في سياسة توجيه الضربات ضد قرى الجنوب اللبناني، وتصعيد عمليات الاغتيال ضد قادة الحزب سواء السياسيين أو العسكريين. وعندها سيكون على حزب الله إما أن يقبل بالاستمرار في توجيه ضربات انتقامية محدودة ولا تتسبب في إصابات قوية بين السكان المدنيين والجنود الإسرائيليين، وهو ما يعني خسارته لميزان الردع مع إسرائيل، وإما أن يزيد من وتيرة وعمق الضربات الانتقامية بما يمكن اعتباره بمثابة حرب شاملة من جانبه ضد إسرائيل، ترتب للأخيرة استخدام أقصى درجات القوة بحجة الدفاع عن نفسها.
وأخيراً، فإن استمرار حزب الله في المحافظة على قواعد اشتباك محدودة لن يفقده فقط ثقة اللبنانيين وحلفائه الفلسطينيين (حماس والجهاد)، بل سيضعه أمام تحدٍ أصعب إذا ما انهارت حماس في غزة بشكل مفاجئ، لتتركه أمام خيار وحيد وهو التراجع إلى شمال نهر الليطاني تجنباً لحرب شاملة قد تكلفه وجوده وتكلف لبنان دماراً أكبر من ذلك الذي تسببت فيه حرب عام 2006 والذي ما تزال تعاني منه الدولة والمجتمع اللبنانيين حتى اليوم.