تمكنت إسرائيل، في 8 يونيو الجاري (2024)، عبر عملية مفاجئة شنها الجيش وجهاز "الشاباك"، من تحرير 4 من الرهائن الإسرائيليين الذين تحتجزهم حركتا حماس والجهاد الفلسطينيتان منذ هجوم 7 أكتوبر الماضي، بعد أن قتلت أكثر من 200 فلسطيني في واحدة من أكثر العمليات دموية خلال هذه الحرب. وجاءت ردود الفعل على تلك العملية من الجانبين بشكل لا يخالف التوقعات المنطقية، حيث قللت حركة حماس من قيمتها وتأثيراتها السياسية والعسكرية المحتملة مستقبلاً، فيما عبّرت التصريحات الرسمية والتغطيات الإعلامية الإسرائيلية للحدث عن تفاؤل حذِر بإمكانية أن تؤدي نتائج العملية إلى حلحلة قضية الرهائن بالوسائل الدبلوماسية أو العسكرية.
وبعيداً عن ردود الفعل على الحدث من الجانبين، ينبغي دراسة البعد الموضوعي في تحليل عملية النصيرات وما سترتّبه من تداعيات على مسار الحرب من الزاوية العسكرية البحتة من جهة، وعلى مسار عملية التفاوض الجارية من أجل وضع نهاية للصراع هناك من الجهة الأخرى.
ووفقاً للبيانات الإسرائيلية، فإن ما تبقى لدى حماس من رهائن يبلغ 116 رهينة، حيث كانت حماس والجهاد قد تمكنتا من أسر 250 مدنياً وعسكرياً من الإسرائيليين بعد هجوم 7 أكتوبر، وتم الإفراج عن 105 منهم في عملية تبادل للأسرى والسجناء في نوفمبر الماضي، وبعدها تمكن الجيش الإسرائيلي من تحرير ثلاثة رهائن آخرين، كما أطلقت حماس أربعة ممن يحملون جنسية مزدوجة إسرائيلية–أجنبية، وقتلت القوات الإسرائيلية ثلاثة آخرين بطريق الخطأ أثناء محاولة تحريرهم، بالإضافة إلى استعادة 19 جثة لرهائن قتلوا بسبب الغارات الإسرائيلية على القطاع، وتعتقد الاستخبارات الإسرائيلية أن هناك 41 جثة أخرى ما تزال بحوزة حماس.
ملاحظات على الرواية الإسرائيلية وتداعياتها
ذكر البيان الرسمي الإسرائيلي أن عناصر من وحدة مكافحة الإرهاب "يمام" التابعة للشرطة، إلى جانب عملاء في جهاز الأمن العام (الشاباك)، قاموا في وقت متزامن بمداهمة مبنيين تابعين لحماس في قلب مخيم النصيرات للاجئين في وسط غزة. وقال الجيش أنه خلال العملية تم تنفيذ غارات جوية مكثفة في المنطقة ضد مواقع لحماس لدعم قوة الاقتحام. وقال الناطق باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هجاري: إن التخطيط لعملية الإنقاذ كان قيد الإعداد "لعدة أسابيع" في ظل معلومات استخباراتية عالية الجودة، وتخطيط عملياتي معقد. وأوضحت إذاعة جيش الاحتلال أن "قدرات تكنولوجية فريدة" تم تخصيصها لهذه العملية. ويمكن عبر تصريحات المسئولين الذين عقّبوا على هذه العملية استخلاص الملاحظات التالية:
1- استغلال العملية في محاولة لاستعادة الثقة المفقودة في الجيش وأجهزة الاستخبارات بعد هجوم 7 أكتوبر، وبعد الفشل في تحقيق أهداف الحرب المعلنة بعد أكثر من 9 أشهر من شنها. ولذلك جاء البيان الرسمي مركزاً على الدور الذي لعبه جهاز "الشاباك"، ووحدة مقاومة الإرهاب في جهاز الشرطة، والوحدات الخاصة في الجيش، في توفير المعلومات الاستخباراتية وتنفيذ العملية الناجحة، مقارنة بالفشل الذي منيت به تلك الجهات نفسها في عمليات سابقة استهدفت تحرير الرهائن.
2- تجاهل البيان الرسمي الإسرائيلي للتقارير الصحفية الأمريكية التي تحدثت عن مشاركة أمريكية بمعلومات استخباراتية مهدت لتنفيذ العملية، حيث كشف الصحفي باراك رافيد، وهو كاتب لموقع "واللا" العبري، وموقع "أكسيوس" الأمريكي، أن مسئولاً كبيراً في الإدارة الأمريكية أكد له مساعدة "خلية الرهائن الأمريكية" الموجودة في إسرائيل في تنفيذ العملية، في إطار محاولة لنسبة النجاح في العملية بالكامل إلى إسرائيل وحدها.
3- كشفت العملية عن بعض المعلومات الخاصة بخلية الرهائن الأمريكية والتي كانت مجهولة حتى ذلك الوقت، بينما ذكر تقرير لشبكة "CNN" أنه في أعقاب هجوم حماس في 7 أكتوبر، عرضت الولايات المتحدة الأمريكية على إسرائيل التخطيط للعمليات الخاصة والدعم الاستخباراتي كجزء من الجهود المبذولة لإنقاذ الرهائن الذين احتجزتهم حماس.
4- أتت تصريحات المسئولين الإسرائيليين عن نجاح العملية دون مبالغات حول تأثيرها المحتمل، حيث صرح رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بأن "الحكومة الإسرائيلية تتوقع أن تقوم حماس بإطلاق سراحهم جميعاً، ولكن إذا لم يفعلوا ذلك، فإن إسرائيل ستفعل كل ما يلزم لإعادتهم جميعاً إلى ديارهم"، وهو تهديد مبطن لحماس بأن هذه العملية لن تكون الأخيرة، وأنه من الأفضل لها (أي حماس) أن تتجاوب مع الشروط الإسرائيلية لتبادل الرهائن والسجناء عبر المفاوضات بدلاً من انتظار عمليات أخرى تتسبب في فقدانها لأهم الأوراق التي تملكها حالياً في صراعها مع إسرائيل.
5- عكست ردود الفعل على العملية من جانب الرأي العام الإسرائيلي حالة من التشتت بين إعلان الابتهاج بنجاح العملية، وبين الخوف من أن تؤدي إلى مزيد من التشدد من جانب حماس في أي مفاوضات مقبلة لتبادل الرهائن والسجناء، وهو ما قد يعني تعرض ما تبقى من الرهائن الإسرائيليين لخطر الموت أثناء الغارات الإسرائيلية على مواقع الحركة، أو خلال تنفيذ عمليات مماثلة، خاصة وأن التقارير الإسرائيلية الرسمية أكدت مقتل ما لا يقل عن 60 رهينة أثناء الحرب المتواصلة منذ 7 أكتوبر الماضي.
6- أسفرت العملية عن نتيجة سياسية هامة، حيث أعلن بيني جانتس الوزير في حكومة الطوارئ التي تدير الحرب، عن تأجيل تنفيذ تهديده بالانسحاب من الحكومة والذي حل موعده في نفس يوم تنفيذ عملية تحرير الرهائن، وهو ما يعني أن الأزمة السياسية التي كان من المنتظر تفجرها عقب انسحاب جانتس قد تأجلت لأمد غير محدد، رغم تصريحات المقربين منه بأنه ما يزال يتمسك بالاستقالة إذا لم يقدم نتنياهو خطة واضحة عن اليوم التالي للحرب في غزة.
ملاحظات على رواية حماس وتداعياتها
مما لا شك فيه، شكّل نجاح العملية العسكرية الإسرائيلية في تحرير أربعة رهائن إحراجاً لحركة حماس، ولذلك كان من المنطقي أن تقلل من قيمة العملية وتأثيراتها المحتملة على مسار الحرب مع إسرائيل من جهة، وأن تحاول إنكار إخفاقها في الحفاظ على الرهائن من جهة أخرى بإلقاء المسئولية عن الإخفاق على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية مع التركيز على إثارة المشاعر بسبب الأعداد الكبيرة من الفلسطينيين الذين قتلوا أثناء تنفيذ إسرائيل للعملية (حسب بيانات حماس استشهد 210 شخصاً). ويمكن إيضاح توجهات حماس وروايتها عن العملية في النقاط التالية:
1- في معرض تقليل الحركة من الدلالات العسكرية للعملية، وما إذا كانت تشكل تحولاً في مسار الحرب وفي قدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها، قال البيان الرسمي لحماس أن تلك العملية لم تتحقق إلا بعد أكثر من 8 أشهر من عدوانٍ استخدمت فيه كافة الوسائل العسكرية والأمنية والتكنولوجية، وارتكبت خلاله كل الجرائم من مجازر وإبادة وحصار وتجويع.
2- في إطار محاولة تبرير إخفاقها في تأمين الأسرى ومنع إسرائيل من تحريرهم، ركزت رواية حماس على التقارير الإعلامية التي كشفت عن علاقة الخلية الأمريكية بالعملية، وقامت بتضخيم دور هذه الخلية، لتثبت أن النجاح في العملية لا يجب أن يٌنسب للقدرات الإسرائيلية، وإن إخفاقها (أي حماس) في تأمين الأسرى، جاء بسبب أن المواجهة كانت مع الولايات المتحدة الأمريكية وليس مع إسرائيل، رغم أن تقرير "CNN" الذي اعتمدت عليه حماس في الحديث عن الخلية الأمريكية، كان قد أكد على أنها ليست سوى عدد من خبراء الاستخبارات، وليست قوات قتالية على الأرض، وهو ما يعني أن حماس كان يجب أن تعترف بالتقصير مرتين: الأولى، لأنها تحاول تجاهل حقيقة أن التنسيق بين الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية أمر معروف وليس سراً، سواء قبل الحرب أو أثناءها في إطار التعاون التاريخي بينهما، وهو ما لا يبرر لحماس فشلها في التحسب لتأثير هذا التعاون على مسار الحرب وعلى محاولات تحرير الرهائن التي أكدت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ بدء الأزمة على أنها قضية مركزية بالنسبة لها. والثانية، حينما لم تتحسب لتداعيات تصريحاتها العدائية ضد واشنطن بعد اتهامها صراحة إدارة بايدن بالمشاركة في المجازر الإسرائيلية التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة، حيث يمكن أن يتسبب هذا التصريح في إفقاد الفلسطينيين الأصوات المتعاطفة معهم داخل الإدارة وفي أوساط الرأى العام الأمريكي.
3- لم تتحسب حماس لخطورة إخفاء الأسرى أو بعض منهم في مواقع مدنية داخل مخيمات اللاجئين، ليس فقط بسبب سهولة وصول إسرائيل إليهم، ولكن أيضاً لكون الدعاية الإسرائيلية في الغرب تقوم على أن العمليات العسكرية الإسرائيلية لا تستهدف المدنيين، وأن حماس تتخذ من المدنيين دروعاً بشرية لإخفاء خلاياها العسكرية ومخازن أسلحتها، ويمكن لإسرائيل بعد هذه العملية التي تمت في قلب مخيم النصيرات الزعم بأنها قد برهنت على صدق دعايتها، وهو ما سيقلل من التعاطف مع الشعب الفلسطيني في غزة في أوساط الرأي العام سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو في أنحاء متفرقة من العالم.
4- بنجاح إسرائيل في تنفيذ هذه العملية، سيكون من الصعب على حماس اتخاذ القرار المناسب فيما يتعلق بخطة الرئيس بايدن لإنهاء الحرب. فمن جهة، يمكن توقع أن إسرائيل بعد نجاحها في تحرير بعض الأسرى، ستزداد تشدداً في رفض الربط بين إنهاء ملف الرهائن وبين الوقف النهائي للحرب. ومن جهة أخرى، سيتم تفسير قبول حماس لخطة بايدن دون التأكيد على وقف الإطلاق الكامل والنهائي للقتال بأنه تم تحت تأثير نجاح عملية تحرير الأسرى، وليس بسبب إبداء حماس الاستعداد لإنهاء الحرب على مراحل ثلاث كما تنص خطة بايدن. وبالتالي، يبدو أن الطريق إلى تحقيق انفراجة في تطبيق خطة بايدن بات مسدوداً على الأقل في المدى المنظور(الأسابيع القليلة القادمة).
5- في ظل إحكام إسرائيل لحصارها لمدينة رفح وقيامها بتنفيذ عمليات نوعية داخلها، من غير المعروف ما إذا كانت حركة حماس تحتفظ ببعض أو كل الرهائن في مواقع شبيهة بمخيم النصيرات هناك، أم أنها تمكنت من نقلهم إلى الأنفاق الواقعة أسفل القطاع، والتي سيصعب على إسرائيل اقتحامها لتحرير مزيد من الرهائن بالقوة. إذ أنه في حالة نجاح إسرائيل في تكرار عملية النصيرات، سيزداد وضع حماس حرجاً سواء عسكرياً أو سياسياً.
ختاماً، قد يتسبب نجاح إسرائيل في عملية النصيرات في تحولات ملموسة في الحرب الجارية مع حماس، حيث يمكن لإسرائيل أن تفاوض حماس حول مصير الأسرى من موقع أكثر قوة نسبياً سواء لأن ضغوط الرأى العام الإسرائيلي للوصول إلى اتفاق مع حماس ينهي أزمة الأسرى سوف تقل نسبياً في الفترة القادمة، خاصة مع تزايد الأمل بإمكانية تحرير رهائن آخرين بالقوة العسكرية، أو لأن تشديد الحصار وتكثيف العمليات العسكرية والخاصة في رفح قد يسفر عن حلحلة موقف حماس الذي يرتكز على رفض الوقف المؤقت لإطلاق النار، ولكن كما اتضح سابقاً سيكون من الصعب على حماس القبول بالتفسير الإسرائيلي لخطة بايدن، كما أن هذه الخطة دونها عقبات أكبر بسبب تصريحات بايدن التي تؤكد على إنهاء حكم حماس في القطاع بعد الحرب، فكيف يمكن لحماس القبول بخطة تنهي الحرب وتنهي وجودها في الوقت نفسه؟