شكلت أول قمة كورية-أفريقية عقدت في أوائل يونيو 2024 علامة فارقة تاريخية، حيث اجتمع رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول وزعماء من 48 دولة أفريقية لتعميق التعاون التجاري والاقتصادي. ولم يمهد هذا الحدث التاريخي الطريق لتعزيز العلاقات الاقتصادية فحسب، بل أطلق أيضًا "حوار المعادن الحرجة" الذي يهدف إلى التنمية المستدامة للموارد المعدنية الغنية في أفريقيا.
وقد أعلن الرئيس يون التزام كوريا الجنوبية بزيادة المساعدات التنموية لأفريقيا، وتعهد بمبلغ 10 مليارات دولار على مدى السنوات الست المقبلة. ويؤكد هذا الدعم المالي الكبير اهتمام كوريا الجنوبية بالثروة المعدنية الهائلة في أفريقيا وإمكاناتها كسوق تصدير مزدهر. وذكر يون في كلمته الختامية للقمة أن "حوار المعادن المهم الذي أطلقته كوريا الجنوبية وأفريقيا سيكون مثالاً لسلسلة توريد مستقرة من خلال التعاون متبادل المنفعة والمساهمة في التنمية المستدامة للموارد المعدنية في جميع أنحاء العالم".
بالإضافة إلى ذلك، وعد يون بمبلغ 14 مليار دولار لتمويل الصادرات لتعزيز التجارة والاستثمار من قبل الشركات الكورية الجنوبية في أفريقيا. وتتوافق هذه الخطوة الإستراتيجية مع مكانة كوريا الجنوبية كمشتري رئيسي للطاقة وموطن لكبار منتجي أشباه الموصلات ومجموعة هيونداي موتور المعترف بها عالميًا، والتي تتقدم في مجال الكهرباء.
حزام الأرز الكوري
إذا كانت الصين تستثمر في مشروعها العملاق الخاص بمبادرة الطريق والحزام كما تستخدم روسيا أذرعها الأمنية لتعزيز وجودها في أفريقيا، فإن كوريا الجنوبية تركز على حزام من نوع آخر يتعلق بالأمن الغذائي. وتهدف مبادرة حزام الأرز الكوري، التي تقودها كوريا الجنوبية، إلى تعزيز إنتاج الأرز في البلدان الأفريقية من خلال إدخال أصناف الأرز عالية الإنتاجية، وتوفير البذور، وتقديم التدريب، ودعم أنظمة الري.
ومن خلال الشراكات مع ثماني دول أفريقية، بما في ذلك الكاميرون، وغامبيا، وغانا، وغينيا (بيساو)، وكينيا، والسنغال، وأوغندا، تستثمر كوريا الجنوبية في بناء القدرات الزراعية وتعزيز زراعة الأرز وتوزيعه. ومن خلال استثمار أولي قدره 80 مليون دولار، أظهر المشروع بالفعل نتائج واعدة، حيث ساهم في إنتاج 2040 طنًا من الأرز منذ بدايته.
وتعمل كينيا وأوغندا كمواقع تجريبية، ومن المتوقع أن تنتجا في المتوسط 2300 طن من الأرز على مدى السنوات الثلاث المقبلة. وتعكس هذه المبادرة التزام كوريا الجنوبية بالاستفادة من خبراتها ومواردها لدعم التنمية الزراعية في أفريقيا، في مسعى لتقديم نموذجها التنموي في تحقيق الاكتفاء الذاتي والازدهار إلى الدول الشريكة.
وعلى الرغم من تركيزها على إنتاج الأرز، هدفت القمة الكورية-الأفريقية إلى استكشاف شراكات متنوعة بين كوريا الجنوبية والدول الأفريقية، وتسليط الضوء على الطبيعة المتعددة الأوجه للتعاون بينهما خارج نطاق الزراعة.
نتائج القمة الكورية-الأفريقية
تبنى الزعماء الأفارقة مبادرة كوريا الجنوبية "Tech4Africa"، والتي تهدف إلى تعزيز التعليم والتدريب للشباب في أفريقيا. وشدد رئيس الاتحاد الأفريقي والرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني على رغبة الدول الأفريقية في التعلم من الخبرة الكورية في تنمية الموارد البشرية والتصنيع والتحول الرقمي. وبحضور 25 رئيس دولة وحكومة أفريقية، اقترح الرئيس يون "النمو المشترك" باعتباره حجر الزاوية في التعاون الكوري الأفريقي.
واتفق الزعماء على ضرورة وجود أطر مؤسسية لتسهيل توسيع التجارة والاستثمار، مع الاعتراف بسوق القارة الواسع الذي يضم 1.4 مليار نسمة، معظمهم تحت سن 25 عامًا. وأكد الإعلان المشترك على تقلب سلاسل التوريد العالمية والدور الحاسم للإمداد المستقر للموارد المعدنية للصناعات المستقبلية. وأكد الإعلان: "نحن متفقون على إطلاق الحوار الكوري الأفريقي بشأن المعادن المهمة خلال هذه القمة والذي سيكون بمثابة أساس مؤسسي مهم لتعزيز التعاون بين كوريا وأفريقيا".
كما تضمنت نتائج القمة الكورية-الأفريقية الأولى توقيع ما يقرب من 50 اتفاقية أولية ومذكرة تفاهم تهدف إلى تعزيز التعاون في مختلف القطاعات. وعلى المستوى الحكومي، تم التوقيع على 12 مذكرة تفاهم بين كوريا الجنوبية و11 دولة أفريقية، تركز على التجارة والطاقة والمعادن الحيوية. والجدير بالذكر أن كوريا الجنوبية بدأت مفاوضات بشأن اتفاقية شراكة اقتصادية مع تنزانيا وعززت العلاقات مع المغرب لدعم سلاسل التوريد والصناعات الرقمية.
وبالإضافة إلى ذلك، تم إنشاء إطار لترويج التجارة والاستثمار مع ثمانية بلدان أفريقية لتسهيل التجارة والاستثمار. وتم التوقيع على اتفاقيات بشأن المعادن المهمة مع تنزانيا ومدغشقر، مما يعكس اهتمام كوريا الجنوبية بالحصول على الموارد المعدنية في أفريقيا. وإلى جانب الاتفاقيات على المستوى الحكومي، وقعت الهيئات الحكومية والشركات الخاصة من الجانبين 16 مذكرة تفاهم و19 عقدًا، مع التركيز على التعاون في مجالات مثل المفاعلات المعيارية المتقدمة صغيرة الحجم، والطاقة المتجددة، ومشاريع البنية التحتية، والتجارة.
وشاركت شركات كبرى مثل شركة هيونداي موتور، وشركة إل جي، وشركة بوسكو القابضة في منتدى الأعمال الخاص بالقمة، مما سلط الضوء على المشاركة الكبيرة لكل من الحكومات والقطاع الخاص في تعزيز العلاقات الثنائية والتعاون الاقتصادي بين كوريا الجنوبية والدول الأفريقية
ماذا تريد كوريا الجنوبية من أفريقيا؟
إن سعي كوريا الجنوبية إلى إقامة علاقات أقوى مع أفريقيا، والذي تجلى في قمتها الأولى مع الزعماء الأفارقة، تحركه دوافع متعددة الأوجه. وفي حين تسعى كوريا الجنوبية إلى زيادة حضورها في القارة وتعزيز العلاقات الاقتصادية، فإنها تعترف بالمشهد التنافسي الذي شكله بالفعل فاعلون رئيسيون مثل الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ويسلط الكوريون – شأنهم شأن الصينيين- الضوء على موقف كوريا الجنوبية الفريد، مؤكدين على التاريخ المشترك للتخلف الاقتصادي والعبور للتنمية الناجحة، وهو ما يضع كوريا الجنوبية كشريك مثالي لنمو أفريقيا. ومع ذلك، وبعيداً عن المشاعر، تكمن المصلحة الاستراتيجية لكوريا الجنوبية في الاستفادة من الموارد المعدنية الوفيرة في أفريقيا لتغذية انتقالها إلى التكنولوجيا الأكثر مراعاة للبيئة وتعزيز العلاقات التجارية.
ومن خلال التركيز على الإمكانات المعدنية في غانا وزامبيا، تهدف كوريا الجنوبية إلى الاستفادة من خبراتها في إنتاج السيارات الكهربائية والقطاعات الصناعية المتقدمة. بالإضافة إلى ذلك، ترى كوريا الجنوبية أن أفريقيا سوق مربحة للتجارة والاستثمار، مؤكدة التزامها بتعزيز النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة في القارة.
ومن خلال مبادرات مثل مساعدات التنمية الرسمية، وبرامج بناء القدرات، ونقل التكنولوجيا، وحزام الأرز، تهدف كوريا الجنوبية إلى سد فجوة التنمية وتعزيز دورها كدولة محورية عالمية. ومع ذلك، فإن نجاح هذا المسعى يتوقف على معالجة الحواجز التجارية، وتعزيز الروابط بين البشر، وتعزيز القيمة المضافة في المنتجات الأفريقية، مما يشير إلى مسار معقد، ولكنه واعد للمضي قدمًا في العلاقات الكورية-الأفريقية.
هل يتعلم الأفارقة الدرس؟
ربما لا يكون هناك فارق كبير بين قمة كوريا الجنوبية وأفريقيا وغيرها من القمم الأخرى التي تعقدها الدول الأفريقية مع القوى الكبرى مثل الصين واليابان والولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، فالكل يتسابق على أفريقيا. وتمثل أفريقيا كنزًا جيوستراتيجيًا، حيث أنها موطن 1.4 مليار نسمة ويبلغ ناتجها المحلي الإجمالي 3.1 تريليون دولار أمريكي .ولا شك أن مواردها الطبيعية الهائلة تحتل موقعًا استراتيجيًا في الاقتصاد الكوري.
ومن الواضح أن كوريا الجنوبية تحتاج إلى أفريقيا أكثر من العكس. وتساهم أفريقيا بنسبة 3% من الصادرات الكورية و1% من وارداتها. ولعل ذلك يسلط الضوء على الطبيعة غير المتكافئة للعلاقة. ومن جهة أخرى، مع تولي كوريا الجنوبية مقعدًا غير دائم في مجلس الأمن الدولي، فإن الدول الأفريقية لديها فرصة للاستفادة من هذه الشراكة للدعوة إلى إزالة العقوبات وتعزيز السلام والاستقرار في مناطق مثل جنوب السودان والسودان والجزء الشرقي من جمهورية الكونغو الديمقراطية.
ومن جهة ثالثة، إذا كانت القمة الكورية-الأفريقية تهدف إلى معالجة أهداف كوريا الجنوبية المتمثلة في أن تصبح دولة محورية عالمية، يمكنها الوصول إلى الموارد الأفريقية، والاستفادة من الفرص التجارية داخل منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، فإن هناك مخاوف من أن الدول الأفريقية قد لا تكون متسقة بشكل كامل في نهجها تجاه كوريا الجنوبية، حيث تسعى كل دولة إلى متابعة أجندتها الخاصة، مما قد يقوض قوة المساومة الجماعية.
وأخيرًا، إذا كان القول بأن الصين، بفضل قوتها المالية الهائلة، تعمل على تغيير طبيعة الدول الأفريقية بشكل أساسي، ليس بالأمر الجديد، فإن المثير للاهتمام هو أن كوريا الجنوبية، التي تتمتع بنقاط قوة كبيرة، قررت الانضمام إلى الركب من أجل الفوز بأفريقيا. ومع ذلك لا تحتاج كوريا الجنوبية إلى اتباع النموذج الصيني. وكما لوحظ خلال أعمال القمة الأولى، فإن كوريا الجنوبية تقوم بدور الجسر أو قناة الاتصال في المجتمع الدولي باعتبارها قوة متوسطة مسئولة استنادًا إلى تجربتها التنموية الخاصة.ومن المحتمل أن تركز الشراكة مع كوريا الجنوبية على جوانب التنمية الزراعية ونقل التكنولوجيا الملائمة ، وهو ما يجعل النموذج الكوري الجنوبي جاذبًا للدول الأفريقية. بيد أن السؤال يرتبط بقدرة الأفارقة على عدم تكرار أخطاء القمم مع القوى الكبرى الأخرى!