صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

قام الرئيس السورى بشار الأسد فى 30 مايو 2024، بزيارة العاصمة الإيرانية طهران لتقديم واجب العزاء فى وفاة الرئيس إبراهيم رئيسى الذى لقى حتفه ومرافقوه فى حادثة تحطم طائرته بالقرب من الحدود مع أذربيجان يوم 19 مايو الفائت. الزيارة جاءت متأخرة وبعد مرور أكثر من 10 أيام على الوفاة. فعلى الرغم من قيام الرئيس السورى بتوجيه رسالة تعزية فور الإعلان عن وفاة رئيسى ومرافقيه، وإعلان الحداد فى سوريا لمدة ثلاثة أيام، إلا أنه كان من اللافت غياب الأسد عن مراسم التشييع، وهو غياب لا يتناسب مع حجم ومستوى وطبيعة علاقات التحالف الاستراتيجى بين النظام السورى وإيران التى تعد الداعم الإقليمى الأول له، والتى كانت سببا رئيسيا فى الحفاظ على بقائه منذ اندلاع الصراع المسلح بينه وبين المعارضة المسلحة قبل 13 عاما، ما أثار العديد من التساؤلات حول الأسباب التى حالت دون حضور الأسد مراسم تشييع رئيسى، وهل يرتبط هذا الغياب ببعض الخلافات بين الحليفين الإيرانى والسورى مؤخرا؟.

 ازدادت أهمية هذا التساؤل مع استمرار حالة الغياب اللافت لدمشق عن "وحدة الساحات" بين قوى محور المقاومة الإقليمى المدعوم إيرانيا فى كل من العراق ولبنان واليمن، حيث تقوم الجماعات الموالية لإيران فى هذه الدول بدور كبير فى إسناد المقاومة الفلسطينية فى تطورات ما بعد عملية طوفان الأقصى منذ 7 أكتوبر 2023، عبر استهداف القوات والقواعد الأمريكية فى المنطقة (الميليشيات العراقية الولائية)، وعبر تهديد السفن التجارية التابعة لإسرائيل والدول الأجنبية الداعمة لها فى البحر الأحمر (جماعة الحوثى فى اليمن)، وعبر دور أكثر نشاطا فى جبهة الجنوب اللبنانى حيث استهداف شمال إسرائيل من قبل حزب الله فى لبنان، وإن ظل هذا الاستهداف قابعا ضمن معادلة قواعد الاشتباك بين الطرفين، الأمر الذى فتح المجال أمام تكهنات بوجود خلافات بين إيران وسوريا مؤخرا، لاسيما فى ظل الحدث الإقليمى الأبرز وهو الحرب الإسرائيلية على غزة منذ أكتوبر 2023.

هوية سوريا ضمن "محور المقاومة"

التقى الرئيس السورى بالمرشد الأعلى على خامنئى الذى يعد أعلى سلطة سياسية / دينية فى إيران خلال تقديمه واجب العزاء فى وفاة الرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسى، حيث أكد الأسد على الدور الفعال الذى قام به الرئيس الإيرانى الراحل ووزير خارجيته فى توطيد العلاقات بين البلدين وتحقيق الاستقرار فى سوريا. فى المقابل أكد خامنئى، من خلال عدة تغريدات على "منصة إكس"، على أن "الهوية المميزة لسوريا هى هوية المقاومة"، مضيفا: "إن جبهة المقاومة ساعدت دائما على الوحدة الوطنية السورية"، الأمر الذى فسره البعض برغبة خامنئى فى توجيه رسائل "عتاب" يلوم فيها الحليف السورى الذى لم يقم بدور فعال فى إسناد المقاومة الفلسطينية فى ضوء تداعيات عملية طوفان الأقصى، حتى وإن كانت الساحة السورية ظلت مفتوحة كساحة تصفية حسابات بين الميليشيات العراقية التابعة لإيران، والتى استهدفت القواعد والقوات الأمريكية المتواجدة فى شمال شرق سوريا بالقرب من الحدود مع العراق.   

ويبدو هنا أن ثمة عدة دوافع منعت النظام السورى من المشاركة بفاعلية فى محور الإسناد الإقليمى للمقاومة الفلسطينية منذ أحداث أكتوبر 2023- وذلك بخلاف حالة التباين فى الرؤى بينه وبين حركة حماس منذ موقف الأخيرة من تأييد الثورة السورية عام 2011. تتمثل بعض هذه الدوافع فى رغبة النظام السورى عدم التورط فى أى تصعيد مع إسرائيل؛ منعا لتوسيع حالة الاستهداف العسكرى التى تقوم بها من آن لآخر لمناطق عسكرية مهمة فى دمشق، يضاف إلى ذلك أن أى دور ناشط لحزب الله اللبنانى ضد إسرائيل، يتبعه استهداف عسكرى إسرائيلى مباشر لدمشق، خاصة فى مناطق الجنوب والوسط حيث مطار دمشق الدولى؛ بهدف تقييد عملية الإمداد العسكرى التى تتم عبره بين إيران وحزب الله اللبنانى. هذا إلى جانب المكاسب التى حققها النظام على المستوى السياسى؛ نتيجة حالة الانفتاح العربى وتحديدا الخليجى تجاهه، حيث أن الحفاظ على هذه المكاسب يفرض عليه "حسابات خاصة" فى التعامل مع حماس من ناحية، ومع إيران بصورة أكبر من ناحية ثانية. 

يشار أيضا إلى أن الاجتماع الذى عقده خامنئى فى طهران – على هامش مراسم تشييع جنازة رئيسى - مع مجموعة من وفود "فصائل المقاومة"، من العراق وفلسطين ولبنان واليمن، وبحضور القائد العام للحرس الثورى حسين سلامى، وقائد فيلق القدس إسماعيل قاآنى، وحضور رئيس المكتب السياسى لحركة حماس إسماعيل هنية، وإن كان الهدف منه التأكيد على أن إيران بعد رئيسى ستظل على النهج نفسه فى دعم محور المقاومة الإقليمى، إلا أنه حمل رسالة ضمنية بصورة أو بأخرى تشى بغياب سوريا عن المحور؛ وفى تفسير ذلك أن الأسد لو كان مشاركا فى مراسم التشييع كان من المحتم أن يكون حاضرا لمثل هكذا اجتماع، لكن يبدو أن الأسد أراد – بغيابه عن مراسم التشييع - تفويت فرصة المشاركة فى أى اجتماعات من هذا القبيل، لاسيما وأن هذا الاجتماع ناقش آخر الأوضاع السياسية والاجتماعية والعسكرية فى غزة على وقع تطورات عملية طوفان الأقصى ودور جبهة المقاومة فى دعم المقاومة الفلسطينية، وهى أمور تشهد جميعها "تباينا نسبيا" فى وجهات النظر بين إيران وسوريا، وبالتالى فإن أى حضور سورى رسمى فى مثل هذه الاجتماعات يعنى "التزام" دمشق ولو ضمنيا بمخرجاتها، وهو ما لا ترغب فيه دمشق.    

كما تبدو كلمة خامنئى على "منصة إكس" بأن المقاومة هى هوية سوريا "التى يجب الحفاظ عليها"، وكأنها إعادة التذكرة من جانب الحليف الإيرانى للنظام السورى بأن "الاستقرار النسبى" الذى تشهده سوريا بعد 13 عاما من الصراع المسلح يرجع الفضل فيه لإيران ولقوى المقاومة من جماعات وميليشيات ولائية (عراقية وغيرها) من ناحية، ولمستشارى ومقاتلى الحرس الثورى الإيرانى الذى يمثله فيلق القدس العامل فى الأراضى السورية من ناحية ثانية. وبالتالى فإن عدم مشاركة دمشق فى فعاليات هذا المحور إسنادا للمقاومة الفلسطينية، وإن كان يمكن قبول مبرراتها من جانب طهران، فإنه من غير المقبول أن "يتأخر" النظام السورى عن تقديم واجب العزاء فى وفاة رأس السلطة السياسية لدى الحليف الاستراتيجى الأول لهذا النظام، لاسيما وأن إبراهيم رئيسى زار دمشق فى 3 مايو 2023، فى محاولة لكسر عزلة النظام السورى التى فرضت عليه دوليا، وهى الزيارة الأولى من نوعها التى يقوم بها رئيس إيرانى لسوريا منذ عام 2011، ما يشير إلى وجود حالة من الفتور فى العلاقات الإيرانية السورية. وفى هذا السياق يأتى الربط بين الضربات العسكرية الإسرائيلية المستمرة من حين لآخر على سوريا وبين وجود المستشارين العسكريين الإيرانيين التابعين للحرس الثورى، ما يفسر العدوان الإسرائيلى على مبنى تابع للقنصلية الإيرانية فى دمشق مطلع شهر إبريل 2024، فضلا عن موجة الاستهدافات الإسرائيلية التى طالت عددا من قوافل الأسلحة المتجه من دمشق للبنان، وكذلك التى طالت عددا من خبراء ومستشارى الحرس الثورى وحزب الله اللبنانى فى سوريا دون أن يكون هناك رد فعل أمنى سورى تجاه ما يحدث، وهو ما أغضب طهران وترجمته على أنه نوع من "النأى بالنفس" من قبل النظام السورى بعيدا عن تفاعلات إيران الإقليمية وفى مقدمتها دعم دور محور المقاومة. 

فى السياق نفسه، فإن تصريحات خامنئى التى قال فيها: "خطط الغربيون وحلفاؤهم فى المنطقة لإسقاط النظام السياسى السورى وإخراج سوريا من معادلات المنطقة بالحرب التى شنوها على سوريا، لكنهم لم ينجحوا"، و"الآن يخططون لاستخدام أساليب أخرى بما فى ذلك الوعود التى لن يعملوا بها أبدا، ليخرجوا سوريا من المعادلات الإقليمية"، تعكس تلميحات مباشرة تعبر عن عدم استحسان طهران لمساعى عدد من دول المنطقة والقوى الغربية – عبر ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية - لدفع سوريا للابتعاد عن معادلات إيران الإقليمية بهدف كسر مسار مشروعها الإقليمى فى حلقته السورية، وأكد خامنئى أن السبيل الوحيد لمواجهة مثل هذه المحاولات هو عودة إيران وسوريا إلى "العمل على زيادة التعاون وتنظيمه". وجدير بالذكر هنا، أن إيران تمارس هيمنة كبيرة على الموارد الاقتصادية فى سوريا، بخلاف التموضع العسكرى والأمنى الكبير، فضلا عن التغلغل المجتمعى على المستويات التعليمية والاجتماعية والثقافية، ناهيك عن عمليات التغيير الديموغرافى التى تجريها فى عدة مدن سورية.

رسائل مختلفة

تشير القراءات السابق طرحها لبعض التفسيرات التى قد تقف وراء تأخر الرئيس السورى بشار الأسد عن تقديم واجب العزاء فى وفاة الرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسى، إلى وجود عدة رسائل مختلفة "ربما" أراد الأسد توصيلها للحليف الإيرانى منها:

 - إن من مصلحة النظام السورى فى ظل الوقت الراهن "الامتثال" لمقتضيات حالة الهدوء النسبى التى يعيشها مع العالم العربى بعد عودته للجامعة العربية من ناحية، وبعد عودة مسار التطبيع بينه وبين عدد من الدول العربية المهمة من ناحية ثانية، وهو ما يفرض على النظام السورى، بصورة أو بأخرى، ضرورة إجراء "حسابات" دقيقة لسياسات النظام الخارجية يتحسب فيها لقضايا التعارض بين المشروع الإيرانى الإقليمى – الذى يعد محور المقاومة جزءا من أحد آلياته- وبين مصلحة دمشق السياسية والاقتصادية مع الدول العربية، حتى وإن كان مسار التطبيع العربى مع دمشق لا يزال بطيئا ولم يأت بنتائج مرجوة حتى اللحظة.

- لفت انتباه القيادة الإيرانية الجديدة إلى وجود قدر من "التباين النسبى" فى وجهات النظر بين طهران ودمشق نابع من رغبة دمشق الجمع بين النقيضين العربى والإيرانى؛ الأمر الذى يحتاج إلى "نقاش معمق" بين دمشق وطهران خلال المرحلة المقبلة؛ حيث يرغب النظام السورى، إلى جانب استمرار الدعم الإيرانى، فى الاستفادة من العودة إلى العمق العربى للخروج من أزمته الاقتصادية، بدفع الدول العربية إلى المساهمة فى مشروعات إعادة الإعمار السورية، فضلا عن ضخ المزيد من الاستثمارات العربية فى سوريا، وهو أمر لا تستطيع طهران توفيره للحليف السورى حاليا؛ لأنها تعانى اقتصاديا جراء العقوبات الأمريكية المفروضة عليها. وهنا تجدر الإشارة إلى تلويح إيران من وقت لآخر بورقة "الديون" المستحقة لها على النظام السورى، بحيث تذكره بدورها السياسى والاقتصادى فى دعمه ماديا وماليا إلى جانب دعمه عسكريا. فى المقابل قامت السعودية بتعيين سفير لها لدى دمشق، وهو ما يعكس خطوة نوعية ومهمة تجاه تعزيز التواصل السياسى الرسمى بين الرياض ودمشق.

- الرسالة الإيجابية "ضمنيا" التى تلقاها نظام الأسد من قبل الولايات المتحدة؛ حيث تم سحب مسودة مشروع قانون لمناهضة التطبيع العربى مع النظام السورى. ما اعتبرته دمشق "موافقة أمريكية ضمنية" على استمرار مسار التقارب العربى معها برعاية أمريكية بعد فترة من الاعتراض على هذا المسار وتحذير الدول العربية منه، وإن كان سحب الإدارة الأمريكية (بعد مشاورات مع الكونجرس) قانون مناهضة التطبيع مع دمشق لا يعنى أن واشنطن بصدد إلغاء قانون العقوبات المفروض على دمشق (قانون قيصر) على أقل تقدير حتى نهاية عام 2024 الجارى.

فى النهاية، يمكن القول إن ثمة خلافا ضمنيا بات يفرض نفسه على العلاقات الإيرانية السورية فى الوقت الراهن، وأن هذا الخلاف لم يرق بعد إلى مرحلة التباين الحاد، حتى وإن انعكست دلالاته ورسائله من قبل دمشق فى "تأخر" الرئيس السورى فى تقديم واجب العزاء فى وفاة الرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسى، وانعكست دلالاته من قبل طهران فى تصريحات المرشد الأعلى على خامنئى أثناء اجتماعه ببشار الأسد فى طهران مؤخرا، وفقا لما سبق توضيحه، وأن هذا الخلاف الضمنى سيكون أحد معطيات "تقييم" علاقة التحالف الاستراتيجى بين البلدين المطروحة أمام القيادة الإيرانية الجديدة، والتى بناء على تعاطيها معه سيتضح إلى أين تسير العلاقات الإيرانية السورية خلال المرحلة المقبلة، مع الأخذ فى الحسبان  أهمية ومحورية ثلاثة متغيرات: الأول، موقع سوريا الاختيارى ضمن محور المقاومة الإقليمى التابع لإيران. والثانى، مسار التطبيع بين النظام السورى والدول العربية مستقبلا. والثالث، مآلات الحرب الإسرائيلية على غزة خلال الشهور المقبلة.