ما بين جرائم ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وأخرى بأيدي المتنازعين أنفسهم في السودان، ومن قبلها في ساحات ليبيا واليمن وسوريا وغيرها، تدفع منطقتنا العربية ثمنًا فادحًا لصراعات عنيفة يصبح معها خيار "الفضح"، أي الإدانة والتشهير العلني بمرتكبيها ومحاسبتهم، هو الأصل. بينما قد يؤدي الصمت عليها إلى إهدار حقوق الضحايا وتغذية الكراهية، وجعل منطقتنا عصية على الخروج من دائرة العنف بسبب "العدالة الغائبة". مع ذلك، ليس كل الصمت سلبيًا ومُؤجِّجًا للصراعات، بل قد يشكل في بعض السياقات مدخلاً لتهدئتها، أو تسويتها أو بناء السلام في المجتمعات الخارجة لتوها من صراعات عنيفة.
ترجع تلك الأدوار المزدوجة للصمت- كامتناع عن الكلام بشكل طوعي أو قسري- إلى اختلاف تأويلاته وارتباط مغزاه بملابسات السياق، حيث تتراوح معانيه بين اللامبالاة والموافقة والعجز والمقاومة والقوة والإصغاء والاحترام للآخر. بل إن بعض الخطابات الملفوظة والسياسات العلنية قد تكون "صامتة"، إن خلت من الحقائق أو نزعت للتضليل والانحياز أو لم يكن لها أثر فاعل في مجابهة المخاطر، أي يتساوي عندها الكلام بعدم الكلام، والفعل باللافعل، بما يجعل الصمت ظاهرة معقدة التفسير كونها قد تكون مرئية وكامنة في المجال السياسي.
مع المعاني المتعددة للصمت، تصبح مدلولاته في سياقات الصراعات أكثر إرباكًا، وتفتح الباب أمام عدم اليقين ومخاطر سوء الإدراك والتفسير، لا سيما أن الفاعلين الصامتين، سواء أكانوا أفرادًا أو جماعات أو دولاً، قد لا يفصحون صراحة عن نواياهم ودوافعهم أو ما هو مسكوت عنه، ومن ثم يتركون تفسيرات مواقفهم الصامتة لمدركات وتصورات الآخرين، مما قد يترتب عليها آثار متباينة في التفاعلات السياسية.
فلو أن طرفًا متنازعًا اعتبر صمت الآخر "لا مبالاة" أو "ضعفًا"، فقد يلجأ إلى فرض سياسات الأمر الواقع أو التصعيد في الصراع، بينما إن نظر له كقوة أو رسالة تهدئة، فقد يؤدي إلى تخفيض حدة الصراع أو التمهيد للتفاوض. هذا الارتباط المحتمل بين الصمت والصراع ليس مباشرًا، أي يمر عبر بيئة وسيطة يتحدد فيها معنى الصمت، وفقًا لطبيعة الصراع (ظرفي أم ممتد)، المرحلة التي يمر بها الصراع، نمط توازنات القوى، تقديرات الفاعلين المتنازعين لتوقيت الصمت وجدواه، تفسير الآخرين للمواقف الصامتة وردود فعلهم عليها، وأخيرًا، السياقات الثقافية التي تجعل معنى الصمت قد يختلف من حالة إلى أخرى.
من هنا، يلعب خيار الصمت أدوارًا متباينة في ديناميات الصراعات الداخلية أو الدولية، فقد يغري بالعدوان أو يحد منه، وهو ما تسعى هذه الورقة لاستكشاف أبعاده وإشكالياته، مع الاستدلال ببعض المواقف والحالات الصراعية من الإقليم والعالم، لكن الورقة تنطلق أولاً من فهم تطور معاني الصمت وأشكاله ووظائفه.
الصمت كـ"سياسة".. بين العجز والقوة والتواصل
تطور فهم الصمت في الأدبيات السياسية، فبعدما كان ينظر إلى الامتناع عن الكلام أو الإيماءات على أنه عزلة وانقطاع للتواصل بين أطراف سياسية أو عدم التعبير طوعًا أو كرهًا عن التفضيلات السياسية، بدا في أحيان أخرى استمرارًا لهذا التواصل، أو تعبيرًا عن تلك التفضيلات، عبر طرق رمزية وغير ملفوظة أو حتى كأداة حيادية للتفكير قبل إصدار الاستجابات. انعكس هذا التطور على طبيعة أشكال الصمت ووظائفه، على نحو يمكن تبيانه في السياسات الداخلية أو الدولية.
أولاً: السياسات الداخلية
مالت الأدبيات الليبرالية، بحكم انطلاقها من الدفاع عن حريات الأفراد إلى اعتبار الصمت غيابًا أو خللاً أو قصورًا، فعندما يمارسه الفاعلون السياسيون فإنه بمثابة إعلان عن "موتهم مجازيًا". لذا، بدا العزوف عن المشاركة السياسية في الانتخابات، كأحد أوجه الصمت، مهددًا للديمقراطية، لكون الأخيرة تتأسس على "الصوت"، فمن دونه لا يتشكل مجال عام يعبر فيه الأفراد عن تفضيلاتهم وآراءهم كما يذهب هابرماس، ولا تستطيع الحكومات "التمثيل السياسي" لتلك التفضيلات. تعززت تلك النظرة السلبية العامة للصمت، مع انتشار الحركات الحقوقية والنسوية التي تسعى لكسر الصمت عن انتهاكات حقوق الإنسان أو مواجهة الهيمنة الذكورية التي تفرض معايير ثقافية واجتماعية تحرم النساء من التعبير عن أصواتهم[1].
إلا أن الصمت، كتعبير عن اللامبالاة، قد يأخذ "شكلاً طوعيًا" في الأنظمة الديمقراطية، أي تتاح الفرصة للمواطنين للمشاركة، لكنهم يعزفون عنها بإرادتهم الحرة كون حق الصمت كحق الكلام جزء من الحريات العامة. في المقابل، قد يصبح الصمت "قسريًا" في سياقات الأنظمة التسلطية، حيث يسعى طرف مهيمن إلى إسكات الآخر بالقوة لمنع تأثيره في القرار الجماعي. هنا، ارتبط الصمت كحالة عجز بأشكال العنف التي طرحها جالتونغ. فالعنف المباشر من طرف على آخر قد يمنعه من التعبير عن نفسه، والعنف الهيكلي، أي توزيع غير متكافئ في الوصول إلى السلطة والموارد، قد يحرم جماعات سياسية من حقوقها، أما العنف الثقافي، فيشرعن الإسكات القسري عبر استخدام سرديات معينة لإضفاء الشرعية على العنف المباشر أو الهيكلي[2].
لا يمنع ذلك من ظهور الصمت القسري، وإن كان بشكل غير مباشر، في الأنظمة الديمقراطية، عندما تتاح الفرصة للأفراد والجماعات للمشاركة، لكن لا يُسمع لأصواتهم، بسبب هيمنة الأغلبية على الأقلية، أو التحيز ضد فئة أو جماعة معينة[3].
مع نشوء اتجاهات نقدية ما بعد حداثية تسعى إلى تجاوز السرديات الكبرى والأبنية المهيمنة على فهم اللغة والسياسة في عالمنا، تغيرت طريقة فهم الصمت إثر كتابات جاك دريدا وميشيل فوكو وغيرهما، حيث نظر له كوسيلة للتعبير والتمثيل للآراء والتفضيلات السياسية. فمن منظور رمزي، يحمل الصمت معانٍ وإيحاءات بل وقدرة على التواصل وبعث الرسائل الضمنية بغرض التأثير في الآخر، بالتالي فمثلما يعبر الامتناع عن الكلام عن العزلة والضعف والعجز فقد ينطوي أيضًا على الرفض والمقاومة والقوة[4].
بهذا الفهم، أصبح الصمت "سياسة"، وفقًا لفيرجسون، أو مكملاً لها أو حتى بديلاً عندما لا تتاح نوافذ التعبير السياسي كونه يتسم بالقدرة على التكيف مع البيئات السياسية المختلفة، أيًا كانت درجة ديمقراطيتها أو تسلطيتها، فضلاً عن تجنب كلفة الصدام المباشر بين الأطراف السياسية بما يبقي خط الرجعة بينهم بسبب عدم الإعلان صراحة عن المواقف، كما يمنح الفرصة للتأمل والتفكير وتقييم المواقف السياسية، قبل إصدار الاستجابات خاصة في أوقات الأزمات[5].
لم يعد بذلك تفسير العزوف عن المشاركة الانتخابات مجرد "لا مبالاة" فقط، إنما قد يكون امتناعًا عقلانيًا لتوصيل رسالة رفض من المجتمع لسياسات السلطة[6]، كما أن الصمت الظاهري للمجتمعات الخاضعة لأنظمة تسلطية لا يمكن فهمه فقط على أنه "رضوخ" للقوة، فقد تكمن خلفه ديناميات قوة غير مرئية قادرة على التغيير دون صراع علني مع السلطة، على نحو طرحه جيمس سكوت في المقاومة اليومية أو آصف بيات، عندما حاول تفسير كيف يغير بسطاء الشرق الأوسط عبر الزحف الهادي الصامت[7]. لقيت تلك التفسيرات للصمت أهمية أيضًا في الأنظمة الديمقراطية، مع تنامي أزمة العجز الديمقراطي في الغرب، على خلفية تزايد فجوة عدم الثقة بين المجتمعات والتمثيل المؤسسي عبر البرلمانات أو الأحزاب التقليدية.
تبلورت، في هذا السياق، أشكال أخرى للصمت، غير تلك التي تراه، كحالة عجز، مثل، الصمت المُقاوِم، الذي يسعى إلى التغيير السياسي عبر المسيرات والاحتجاجات الصامتة التي تحوز مساحات في الأماكن العامة وترفع لوحات ورموز دالة للدفاع عن قضايا حقوق الإنسان والمناخ والمرأة، ووقف الحروب. برز أيضًا الصمت التواصلي، كوسيلة للسياسيين لبعث رسائل ومعلومات للجمهور، من خلال لغة الجسد (إشارات باليد أو الوجه أو الرأس) حيث يمكن عبرها إظهار مشاعرهم وتفضيلاتهم السياسية بالرفض أو القبول أو الغضب من سياسة معينة، فضلاً عن الصمت التوافقي، أي الإسكات الجماعي المتفق عليه لقضايا عامة، كحظر مناقشة العبودية أو التعاطف الجماعي لتعزيز الهوية والذاكرة الجماعية كالحداد الوطني على ضحايا الحروب[8].
أحد الأمثلة الموحية للصمت، كمجال للقوة، ما فعلته أمهات الأبناء المختفين قسريًا في الأرجنتين، على مدار أربعة عقود، منذ الحكم العسكري في الفترة بين 1976-1983، حيث ينظمن مسيرات صامتة أسبوعيًا للضغط على الحكومة لمعرفة أماكنهم، ومحاكمة الجناة، واستطعن بالفعل محاكمة أكثر من ألف من المتورطين في تلك الانتهاكات في عام 2016[9].
ثانيًا: السياسات الدولية
من منظور واقعي، بدا الصمت في العلاقات الدولية تعبيرًا عن نمطي العنف الهيكلي (اختلالات هياكل القوة في النظام الدولي ومؤسساته، حيث تمارس دول الشمال سياسات الإسكات لأصوات دول الجنوب، بما يحرمها من حقوقها في تشكيل السياسة العالمية على أساس تعدد الرؤى والتجارب) أو العنف الثقافي (هيمنة المعرفة والمركزية الغربية على دول الجنوب حتى بعد استقلالها عن الاستعمار). مع ربط الصمت باختلالات القوة، أصبح الأقوياء هم الأعلى صوتًا ودفاعًا عن مصالحهم، فكلما ازدادت قوتهم زاد احتمال تعرض آخرين للإسكات، بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو ما يوفر استقرارًا لسياسات الهيمنة والتفاوت في النظام الدولي[10].
انعكس ذلك في لجوء الدول الصغيرة أو المتوسطة إلى خيار الصمت في إدارة تفاعلاتها الخارجية لتجنب كلفة الصدام مع القوى الكبرى المهيمنة، أو إفساح هوامش أكبر للمناورة لتعزيز مصالحها، حيث اكتسب الصمت بعدًا وظيفيًا في التعبير عن إظهار الحياد السياسي في بعض الأزمات الدولية[11]، كما يظهر في الغياب أو الامتناع عن التصويت في المنظمات الدولية لتجنب تهديدات القوى الكبرى بأدوات عقابية، كوقف المساعدات، وايقاف الاتفاقات التجارية أو غيرها. على سبيل المثال، امتنعت بعض دول آسيا الوسطى عن التصويت لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 في الجمعية العامة للأمم المتحدة للحفاظ على مصالحها التاريخية والأمنية والاقتصادية المتشابكة مع كل من روسيا والصين والقوي الغربية[12].
اكتسب فهم الصمت أيضًا في السياسات الدولية بعدًا أوسع من مجرد اعتباره خيار الضعفاء أو من هم أقل قوة للتكيف مع اختلالات القوة، حيث بات أداة لإدارة المصالح الخارجية للدول، على اختلاف قوتها، سواء على مستوى إدارة الأزمات والصراعات أو الحفاظ على القوة وبنائها، أو بعث رسائل تواصل ضمني للآخرين دون إفصاح علني قد يسبب توترات دولية. تعزز هذا الأمر مع التغير في طبيعة النظام الدولي، خلال العقدين الأخيرين، فقد صار أكثر ميلاً لتعددية القوى، في ظل تراجع الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، وصعود الصين وروسيا والهند وغيرها، إضافة إلى انتشار الفهم البنائي لخطابات وسلوكيات الدول، بما يعني إيلاء أهمية للأبعاد القيمية والثقافية والهوياتية في تفسير الخيارات السياسية للدول بما فيها الصمت.
تميل الصين، على سبيل المثال، لنهج الصمت في إدارة بعض الأزمات الدولية لمنع تفاقمها، فقد امتنعت عن التصويت في الأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث يوفر لها هذا الخيار قدرة على الموازنة بين شراكاتها مع روسيا، وإدارة التنافس الدولي مع الولايات المتحدة، ناهيك عن طرح نفسها كقوة وساطة محايدة في هذا الصراع. من جانب آخر، تنظر بكين لسياسات التكتم كإحدى وسائل تعزيز قوتها وصعودها الهاديء في النظام الدولي دون ضغوط قد تجلبها سياسات الصخب[13].
قد يعزو هذا الأمر، في جانب منه، إلى طبيعة الثقافة الآسيوية، ذات الطابع الجماعي، التي تعتبر الصمت سلوكًا إيجابيًا ينطوي على تنمية الذات والاحترام للآخر وتعزيز السلم العام. تختلف تلك النظرة نسبيًا عن الثقافة الغربية- ذات الطابع الفرداني- التي ترى الصمت معوقًا للأفراد عن ممارسة حقوقهم. لذلك، تُعطي القوى الغربية سواء أوروبا أو الولايات المتحدة أولوية أكبر لسياسات الفضح على الصمت في إدارة ملفات كحقوق الإنسان سواء لدوافع قيمية أو مصلحية[14]، دون أن يمنع ذلك لجوئها إلى سياسات الصمت بطريقة براجماتية لإدارة مصالحها لبعث رسائل ضمنية لتغيير سلوك الآخرين في الصراعات الدولية، على نحو سيتضح لاحقًا.
الصمت والصراعات.. معاني واستخدامات متعددة
مع تباين معاني الصمت بين العجز والقوة والتواصل في السياسات الداخلية والخارجية، أثار ظهوره في أوقات ومناطق الصراعات جدالاً، فالصراع عبارة عن تناقض بين طرفين أو أكثر في القيم والاحتياجات والمصالح، من ثم يتطلب "صوتًا" للتعبير عن هذا التناقض على مستوى الخطابات أو السلوكيات، لكن عندما يحل الصمت (كحالة جمود تتسم بها الصراعات أو ممارسة يمتنع فيها المتنازعون عن إصدار ردود فعل) تصبح هنالك عدة احتمالات لمعانيه.
الاحتمال الأول، غياب الصراع من الأساس، حيث يصبح الصمت عندها دلالة على عدم وجود تناقض على مستوى الأهداف أو السلوكيات، أي هنالك حالة من الانسجام والرضا والموافقة على الوضع الراهن سواء داخل الدول أو في العلاقات فيما بينها.
الاحتمال الثاني، أن هنالك صراعًا صامتًا، أي أن تناقضات المتنازعين كامنة تحت السطح، ولا يتم التعبير عنها "علنًا"، خشية تكلفة المواجهة العلنية.
الاحتمال الثالث، أن الصراع يكون معلنًا لكنه يمر بمرحلة من الصمت بفعل جمود دينامياته السياسية أو العسكرية، فلا يشهد تغيرًا في توازنات القوى، ولا تقدمًا في تسويته، ويتعرض هذا الوضع للكسر حال طرأت عوامل جديدة تغير توازنات القوى أو نجحت أطراف ثالثة في التدخل لإيجاد حلول وتسويات.
الاحتمال الرابع، وجود صراع علني تتخلله بعض المواقف الصامتة للفاعلين المتنازعين لأغراض مختلفة. فالمجتمعات المتضررة من الصراع قد تلجأ للصمت للتكيف مع مخاطر "البيئة غير الآمنة"، حيث تتجنب كلفة الإفصاح العلني عن المواقف، خوفًا من تعرضها لانتهاكات حقوقية من الأطراف المسيطرة أو حتى تتلافي الوصم الاجتماعي، كما يحدث في صمت بعض النساء على جرائم العنف الجنسي[15]. فيما قد يعبر خيار الصمت لدى النخب العسكرية والسياسية إما عن الضعف بسبب اختلالات توازن القوى أو دراسة المواقف قبل إصدار ردود فعل، أو الإخفاء لعدم إظهار الانشقاقات الداخلية، أو الموافقة الضمنية على تهدئة الصراع أو تسويته أو إظهار القوة من خلال تبني نهج الغموض لإرباك أو ردع الآخر[16].
مع هذه الاحتمالات، بات خيار الصمت محل اهتمام دراسات السلام والصراع، خاصة في أبعاده الإيجابية لسببين: الأول، تغير طريقة معالجة الصراعات الداخلية الممتدة بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث باتت تتطلب مقاربات من أعلى (اتفاقات تسوية حول السلطة والثروة) وأسفل (تهيئة المجتمع للمصالحة والسلام)، وهي تستدعي ضمن أدواتها خيار الصمت لتقليل الضغوط على المتنازعين، وإفساح المجال للإصغاء والاحترام والتفهم في المفاوضات، وتجنب القضايا المثيرة للتوترات. والثاني، أن الصراعات بين الدول تشهد تمسكًا بمبدأ السيادة، وعدم التدخل في الشئون الداخلية، من ثم قد يلجأ الوسطاء أو الأطراف الخارجية المشتبكة مع تلك الصراعات إلى الدبلوماسية السرية، وعدم إعلان المواقف علنًا، كي لا يثيرون حفيظة المتنازعين أو يضعونهم في حرج تحت ضغط الرأي العام[17].
على أساس تلك الاحتمالات، يمكن طرح أدوار الصمت في مراحل الصراعات بدءًا من نشوبها، مرورًا بتخفيض حدتها وتسويتها، وانتهاءً ببناء السلام في مرحلة ما بعد توقف العنف، مع الاستدلال ببعض الحالات والمواقف الصراعية في الإقليم والعالم.
أولًا: نشوب الصراع وتفاقمه
قد يصبح الصمت محفزًا على نشوب الصراعات، عندما يعبر إما عن الإسكات العمدي بالقوة والعنف، أو الجمود وإهمال تسويته، بما قد يدفع أحد أطرافه إلى كسر دائرة الصمت. على سبيل المثال، بدا نشوب الثورات في بعض دول المنطقة العربية خلال العقد الأخير، في أحد جوانبه، كتمرد لفئات من الصامتين على العنف الممارس ضدهم لعقود بأشكاله المباشرة والهيكلية والثقافية. لكن تلك الثورات خلّفت صراعات أهلية أدت إلى انتشار الإرهاب والمليشيات والتدخلات الخارجية، مما أعاد إنتاج دورة الإسكات القسري على يد نخب جديدة مهيمنة.
في اليمن، سيطرت جماعة الحوثيين على الشمال، وسعت إلى إسكات معارضيها في الجنوب بالسلاح والعكس. بالمثل، فعلت مليشيات ليبيا في مجابهة من يرفضونها، ولا يختلف الأمر في سوريا والسودان. مع تعثر تسوية تلك الصراعات لسنوات ممتدة، فقد خلق ذلك صمتًا آخر يتعلق بجمود توازنات القوى بسبب عرقلة النخب المهيمنة للتسويات، وهو صمت قابل للكسر ما إن تنشأ تغيرات في التوازنات الداخلية أو الخارجية.
أما حالة الجمود الصراعي، فقد تصبح نوعًا من أنواع "فخاخ الصمت"، بسبب سوء إدراك وتفسير ما وراء السكوت من نوايا ودوافع، فقد يرى أحد الأطراف المتنازعة الجمود عجزًا، من ثم لا يولي أي اهتمام بتسوية الصراع، بينما يعتبره الطرف الآخر ظرفًا مؤقتًا سيكسره ما إن تتاح الفرصة لذلك. قبل هجوم "حماس" على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، بدت عملية السلام مجمدة، واليمين الإسرائيلي المتطرف مندفع نحو الاستيطان في الضفة الغربية وحصار غزة، ورفض إقامة الدولة الفلسطينية. في الوقت ذاته، انزوت القضية الفلسطينية مع انكفاء دول المنطقة على مشكلات الداخل بعد الثورات واتساع التطبيع الإسرائيلي عبر اتفاقات السلام الإبراهيمي دون مقابل حقيقي يتعلق بالحقوق الفلسطينية.
شكل هذا الصمت الصراعي خدعة لإسرائيل تعززت مع غطرسة القوة لدى مؤسساتها وأجهزتها الأمنية في قراءة قدرات الفلسطينيين على استمرار المقاومة للاحتلال، بالتالي، جاء هجوم "حماس" المفاجيء ليكسر الصمت ويشعل حرب غزة، لكون الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي عميق الجذور، ولم يجد حتى الآن تسوية عادلة. فحتى، وإن مر هذا الصراع بفترات جمود، فعادة ما يتم كسرها، وليست مفارقة أن يشهد قطاع غزة خمسة حروب منذ عام 2008 وحتى الآن.
على الجانب الآخر، لعب الصمت كخطابات وسياسات علنية لكنها "صامتة"، بسبب ضعف أثرها في الواقع، دورًا في تمادي إسرائيل في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في حرب غزة، لاسيما مع تلقيها دعمًا أمريكيًا وأوروبيًا بذريعة حق الدفاع عن النفس. صحيح أن قوى غربية، كالولايات المتحدة عدّلت مواقفها جزئيًا تحت ضغوط الرأي العام الداخلي، حيث باتت تناشد إسرائيل توخي الحذر مع المدنيين، وتمرير المساعدات الإنسانية، ووقف إمدادات بعض أنواع الأسلحة الهجومية.
مع ذلك، تبدو الاستجابات الأمريكية "صامتة" فعليًا، لكونها لم توقف عدوان إسرائيل أو تحجم تداعياته. إذ دعمت واشنطن إسرائيل بالسلاح والمساعدات، كما لم ترق استجابتها إلى سياسات الفضح والمعاقبة التي أقدمت عليها إزاء روسيا بعد غزوها لأوكرانيا في فبراير 2022، بما جعل التساؤل مطروحًا حول من سيصدق سردية الغرب في أوكرانيا، بينما لا يأبه بالقتل الجماعي في غزة، على نحو بدا معه الصمت نوعًا من "التواطؤ"[18].
ثانيًا: تخفيف حدة الصراعات
يصبح للصمت بعد تواصلي وظيفي في تخفيف حدة الصراع، عبر بعث رسائل ضمنية من طرف متنازع لآخر أو من خلال الأطراف الخارجية بغرض عدم تفاقم آثاره. تظهر في هذا السياق أنماط عديدة منها، لجوء بعض المنظمات الإنسانية في مناطق الصراعات إلى السكوت عن إدانة وفضح سلوكيات المتنازعين "علنًا" بغية السماح لها بتوزيع مواد الاغاثة والمساعدات في مناطق الصراعات.
تتبنى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، مثلاً، خيار السرية المطلقة لتعزيز دورها الإنساني في مناطق الصراعات، حيث ترى أنه يمكنها حماية حقوق الضحايا، عبر مبدأ التواصل مع السلطات المعنية لتحسين حقوق الإنسان، دون بيانات إدانة علنية تثير حفيظتها من أجل استمرار تدفق مساعدات المنظمة والحفاظ على أمن العاملين فيها[19]. انتهجت أيضًا منظمات إنسانية في ميانمار تلك الممارسات الصامتة في التعامل مع الأزمة الإنسانية في هذا البلد ليس فقط من أجل تسهيل الإغاثة لمتضرري الصراع، وإنما للمشاركة في تحفيز السلام المحلي بين العرقيات المتنازعة[20].
إلا أن منظمات إنسانية أخرى ترفض ذلك الاتجاه، فمنظمة أطباء بلا حدود تقر بمبدأ الشهادة العلانية أمام الرأي العام حول أي انتهاكات حقوقية للأطراف المتنازعة، حيث ترى الصمت عائقًا أمام الحماية الفعالة لضحايا النزاعات، مما عرّضها لأزمات عديدة مع أطراف النزاع في مناطق الصراعات، بسبب فضح انتهاكاتهم الحقوقية[21]. برز هذا الأمر في حرب غزة، حيث تعرّضت بعض المنظمات الحقوقية في الشرق الأوسط التي أدانت جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين ودعت لمعاقبتها إلى قطع تمويلها الأوروبي، إذ راجعت ألمانيا، التي ساندت إسرائيل في الحرب، المشاريع الممولة في المنطقة، بما يتضمن إعادة تقييم المواقف السياسية إزاء هجوم 7 أكتوبر[22].
من جانب آخر، قد تلعب سياسات الصمت دورًا في تخفيف حدة الصراعات، عبر آلية الامتناع عن التصويت. تجلى ذلك في امتناع الولايات المتحدة في مارس الماضي عن استخدام الفيتو في مجلس الأمن، عندما أرادت تمرير قرار وقف إطلاق النار والوصول غير المشروط للمساعدات والإفراج عن الرهائن في حرب غزة، على الرغم من أنها عرقلت القرار من قبل مرات عديدة [23]. بررت واشنطن هذا الامتناع حينها بأن القرار تجاهل إدانة حماس، لكن إقدامها على الصمت التصويتي عكس في معناه رسائل ضمنية بعضها لحليفتها إسرائيل للحد من تداعيات حرب غزة، والآخر لإصلاح صورتها المتدهورة عالميًا، بفعل دعمها لإسرائيل في تلك الحرب، ناهيك عن استيعاب ضغوط الحراك الاحتجاجي الطلابي في الجامعات الأمريكية الذي يطالب بوقف الحرب، لاسيما مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 5 نوفمبر القادم.
قد يبرز أيضًا نمط من الصمت المتعمد أو المدروس للحد من تفاقم أزمات داخلية في وقت الصراعات، كما الصمت التكتيكي، أي عدم اتخاذ ردود فعل سريعة في المواقف الصراعية بغية استكشاف المواقف وتقديرها، على نحو اشتهرت به المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل التي كانت تلزم الصمت لفترة قبل إعلان مواقفها في الأزمات الداخلية والخارجية. أما الصمت الاستراتيجي، أي التعتيم على النوايا السياسية، فله أغراض أوسع، منها: جمع معلومات أكثر عن الخصوم، الاستعداد للاستجابة عبر مراقبة التهديد، بث الخوف لدى الطرف الآخر بما قد يردعه عن تصعيد الأزمة أو الصراع إلى مستويات خطرة[24].
هنا، تلجأ إسرائيل مثلاً إلى الصمت الاستراتيجي في مسألة امتلاكها لأسلحة نووية، برغم أن هنالك اتفاقًا عامًا في الشرق الأوسط والعالم على وجود تلك الأسلحة لديها، بل إن أحد وزرائها المتطرفين، وهو وزير التراث اليميني أميخاي إلياهو، دعا، في بداية نوفمبر 2023، إلى ضرب غزة بالسلاح النووي. إلا أن عدم الإعلان الإسرائيلي يرجع إلى سياسة صمت متفق عليها مع واشنطن لتجنب الضغوط الإقليمية والدولية على القوى النووية[25]، ناهيك عن ردع دول المنطقة عن شن حرب وجودية كبرى ضدها أو حتى على الأقل جعل الصراعات الإقليمية في نطاقات وأسقف محسوبة نسبيًا، كما يجري، مثلاً، في الصراع مع إيران.
بعد الهجمات المتبادلة المباشرة بين إسرائيل وإيران في أبريل الماضي (قصف إسرائيل قنصلية طهران في سوريا، ثم رد إيران بهجوم مباشر على تل أبيب، لتعود الأخيرة لمهاجمة الداخل الإيراني قرب المنشآت النووية في أصفهان) توقف الطرفان المتنازعان، وفضلا بشكل "مؤقت" خيار الصمت، خشية انزلاق التصعيد المتبادل إلى حرب إقليمية كبرى بينهما[26]. عبرت لحظة الصمت تلك في منحنى الصراع بين البلدين عن رسالة تواصل ضمني بأن قدرة كل طرف على التهديد المباشر للآخر قد وصلت، بما أوقف التصعيد عن حد معين.
ثالثًا: التسوية وبناء السلام
قد يصبح الصمت محل توافق مشترك بين المتنازعين عبر نمط الإسكات العمدي لقضايا قد تعرقل التسويات السياسية في الأزمات أو الصراعات، كما الاتفاق على العفو الشامل عن انتهاكات الحروب من أجل دفع الانتقال الديمقراطي في الدول الاستبدادية (تضمن ميثاق الصمت في أسبانيا في عام 1977 بعد وفاة فرانكو بعامين عفوًا عن جرائم فرقاء الحرب الأهلية في الثلاثينيات، وما تلاها خلال حكم فرانكو[27]، أو تسوية الصراع الأهلي (اتفاق السلام في عام 1992 لتسوية الصراع الأهلي في موزمبيق، حيث صدر حينها عفو عن الجرائم المرتكبة من أطراف الصراع (حزبا فريليمو ورينامو) بين عامي 1979 و1992[28].
على الرغم من الانتقادات الحقوقية التي طالت هذا النمط من الصمت كونه يطمس الحقيقة عن جرائم الماضي، على نحو سيتم توضيح إشكالياته لاحقًا، فإن منطقه البراجماتي العام استند على أن تسوية الصراع في مرحلة ما عبر غض الطرف عن انتهاكات المتنازعين قد يوقف المزيد من تدهور الوضع الحقوقي والإنساني للمجتمعات المتأثرة باستمرار الصراعات، ويسمح بإعادة بناء الدول التي مزقتها الصراعات[29].
من جانب آخر، تمدد خيار الصمت إلى مرحلة بناء السلام في الدول التي خرجت لتوها من الصراعات العنيفة والمتجذرة في البنى الاجتماعية. فبينما لجأت تجارب كجنوب أفريقيا ورواندا وغيرهما إلى كسر الصمت ومعرفة الحقيقة كمدخل للاستشفاء الاجتماعي من العنف، عبر لجان الحقيقة والمصالحة كإحدى أدوات العدالة الانتقالية، فقد تم اللجوء إلى سياسات الصمت بغرض بناء الحد الأدنى من التعايش الاجتماعي في الحياة اليومية.
تفرق بعض الدراسات في هذا السياق بين نمطي الصمت الرسمي، وغير الرسمي في مرحلة ما بعد الصراع. فالصمت الرسمي، كسردية تتبناها الدولة إزاء انتهاكات وجروح الماضي قد يثير معارضة اجتماعية واسعة. ففي كولومبيا، تعرّض اتفاق السلام بين الحكومة وأكبر الحركات المسلحة المتمردة "فارك" في عام 2016 إلى الرفض في استفتاء شعبي بسبب التساهل العقابي مع الجناة، ثم تم تعديله وإقراره من البرلمان. من ثم، بدت ذاكرة المجتمع رافضة للصمت الرسمي على جروح الماضي، فالعنف حصد أكثر من ربع مليون شخص في هذا البلد، لذا جاءت لجان تقصي الحقائق، كأحد نواتج الاتفاق، لكسر الصمت.
أما الصمت غير الرسمي عن عنف الماضي، فقد يكون خيارًا اجتماعيًا مقبولاً لبناء الثقة والعلاقات الطبيعية بين الأفراد والجماعات في الحياة اليومية، من خلال تجنب الموضوعات المثيرة للجدل حول الماضي، وبالتالي تعزيز السلام اليومي كخطابات وممارسات يومية بهدف إضفاء الإنسانية على الآخر، وبعث رسائل الود له. برز هذا النوع من الصمت المؤدي للسلام اليومي في حالات صراعية، كسيراليون وشمال أوغندا أو ميانمار[30].
ربطت أيضًا الدراسات النسوية بين الصمت الجندري (السكوت على جرائم العنف الجنسي والتمييز ضد المرأة) وبناء السلام، حيث ميزت بين صمت مُعطِّل للسلام وآخر مُمكِّن له. فالصمت المُعطِّل للسلام يتجاهل معاناة النساء ولا يعالج قضاياهن بعد توقف الصراع، على غرار إهمال لجنة الحقيقة والمصالحة لتجارب النساء خلال نظام الفصل العنصري أو الصمت على جرائم الاغتصاب الجنسي في حرب البوسنة، والتي خلّفت ما بين 20 و50 ألف ضحية اغتصاب لم يعالج منهن سوى قضايا قليلة[31].
في المقابل، قد يقود الصمت إلى تمكين السلام، عندما يصبح خيارًا للتكيف الاجتماعي للنساء بعد الحرب، حتى في الدول التي عرفت كسرًا رسميًا للصمت، على غرار تجارب النساء في قرى المصالحة في رواندا، التي تم إنشائها بعد الإبادة الجماعية في عام 1994، حيث بدا تجنب التحدث عن عنف الماضي في الحياة اليومية وسيلة للنسيان الاجتماعي لفظائع الحرب، والحصول على منزل وعمل يؤمن كرامة النساء[32].
إشكاليات الصمت من غياب العدالة إلى مأزق الشرعية
مع تعدد أشكال وأدوار سياسات الصمت والجدال حولها في أوقات ومناطق الصراعات، برزت إشكاليات عديدة يمكن طرح بعضها، على سبيل المثال لا الحصر. فمن جهة، يفرض خيار الصمت في تسوية الصراعات أو تسهيل الانتقال الديمقراطي عبر العفو عن جرائم الماضي مأزقًا حول غياب العدالة ونشر ثقافة الإفلات من العقاب وإهدار حق المجتمعات في معرفة الحقيقة، بما قد يجعل هذا الخيار "تسوية ظرفية"، أي قد يتعرض للكسر في المستقبل، عندما تتغير موازين القوى أو تنشأ أجيال جديدة تدفع نحو المحاسبة على ما جرى في الماضي، خاصة أن الذاكرة الجماعية حول جرائم الصراعات لا يطويها النسيان، وقد تصبح عائقًا أمام بناء علاقات سلمية.
بعد ثلاثة عقود من ميثاق الصمت الأسباني، تم إقرار قانون الذاكرة التاريخية في عام 2007، والذي نص على إدانة حكم فرانكو، وتكريم ضحاياه وازالة رموزه، إثر ضغوطات مستمرة من منظمات المجتمع المدني[33]. أما في موزمبيق، فقد أدى الصمت عن جرائم الحرب الأهلية إلى أزمات بين خصمي تلك الحرب، حيث تنازعا حول الذاكرة الجماعية للبلاد. فمع سيطرة "فريليمو" على الدولة ومؤسساتها بعد اتفاق السلام، من خلال الانتخابات في عقد التسعينيات، احتفظ بالسيطرة على السردية الرسمية إزاء الحرب في المدارس والكتب الرسمية، والتي تتضمن إدانة لـ"رينامو" كحركة تمرد مدفوعة من الخارج، وهو ما اعتبرته الأخيرة تلاعبًا تاريخيًا يخفي جرائم الجيش الرسمي خلال الحرب الأهلية حينها[34].
من جهة ثانية، قد يصبح خيار الصمت انتقائيًا وليس شاملاً في مناطق الصراعات، أي يتم غض الطرف عن جرائم، وفضح أخرى نتاجًا لطبيعة توازنات القوى ما بعد توقف العنف. فعلى الرغم من كسر الصمت في رواندا عبر لجان الحقيقة والمصالحة، وإنشاء محكمة جنائية دولية خاصة لمعاقبة المتورطين في جرائم الإبادة الجماعية في عام 1994، إلا أنه في المقابل تم الصمت الرسمي على مقتل الآلاف من الهوتو علي يد الجبهة الوطنية الرواندية، واستبعادهم من سردية الإبادة الجماعية التي طالت التوتسي، بالتالي مال قانون الإبادة الجماعية في رواندا إلى الحفاظ على رواية أن التوتسي هم الضحايا الوحيدون [35]. بالمثل، فإن كسر الصمت في تجارب لجان الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا أو هيئة الانصاف والمصالحة في المغرب لعب دورًا في التقدم نحو الانتقال الديمقراطي في الأولى، والحقوقي في الثانية، لكنه لم يسفر عن عقاب شامل لمرتكبي الانتهاكات في الماضي[36].
من جهة ثالثة، ثمة إشكالية تتعلق بتسييس خيار الصمت في مجال حقوق الإنسان، أي أنه قد يرتبط بطبيعة العلاقات الجيوسياسية التعاونية أم التنافسية، فبينما تغض الولايات المتحدة الطرف عن حليفتها إسرائيل، حتى أنها رفضت وصف ما يجري في حرب غزة بجرائم إبادة جماعية[37]، فإنها لا تتواني عن انتقاد منافستها الصين في ملف حقوق الإيجور المسلمين، وتستخدمه ضدها كورقة ضغط جيوسياسي في سياق التنافس الدولي بينهما. كذلك، تكمن إحدى الأزمات العالقة في العلاقات بين فرنسا والجزائر في رفض الأولى تقديم اعتذار عن الجرائم التي ارتكبتها خلال المرحلة الاستعمارية بحق الجزائريين. تخشى باريس من أن كسر الصمت الرسمي حول تلك الجرائم قد يفتح الباب أمام ملاحقات قضائية وتعويضات[38] لن تقتصر على الجزائر، وإنما تمتد إلى الدول الأفريقية التي خضعت للاستعمار الفرنسي.
من جهة رابعة، فإن عائد كسر الصمت على المستويين الإنساني والعملي في بعض حالات الصراع قد يكون أكبر من كلفة الالتزام به. ففي حرب غزة، فاقم الصمت من الضحايا الفلسطينيين، بينما أدى كسره إلى تحويل صورة إسرائيل إلى دولة معزولة ومنبوذة في أوساط الرأي العام العالمي، حتى لو لم يوقف ذلك عدوانها على الفلسطينيين بفعل اختلالات القوة الإقليمية والدولية. من أبرز مظاهر كسر الصمت هنا: الحراك الاحتجاجي في الجامعات الغربية، رفع جنوب أفريقيا دعوى قضائية ضد إسرائيل تتهمها بارتكاب جرائم ابادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية، ثم إصدار الأخيرة أمرًا بوقف الهجوم الأخير على رفح، طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزيره دفاعه يوآف جالانت، حملات المقاطعة الشعبية ضد منتجات الشركات الغربية الداعمة لإسرائيل. حفّز كل هذا الزخم العالمي، برغم أنه بدا رمزيًا ومعنويًا، على دعم الحقوق الفلسطينية عبر تأييد الغالبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة لعضوية فلسطين أو حتى الاعتراف الثلاثي الأوربي (أيرلندا، أسبانيا والنرويج) بدولة فلسطين في مايو 2024[39].
أخيرًا، فإن خيار الصمت في أوقات ومناطق الصراعات سواء الداخلية أو الدولية يرتبط بالأساس بطبيعة السياقات وتوازنات القوى وحسابات المتنازعين لجدواه وردود الفعل عليه، فقد يقود هذا الخيار إلى تأزم "شرعية" المتنازعين لأن غياب رد فعل لهم قد يضعف من قدرتهم على التمثيل السياسي ويجعلهم يدفعون ثمنًا باهظًا بفعل سوء الإدراك والتقدير لمخاطر الصمت. في المقابل، قد يكون الصمت خيارًا فعالاً إن تحول إلى قوة مؤثرة تحقق أهداف المتنازعين دون اللجوء إلى كلفة الصدام المباشر، أو تم توظيفه كاستراتيجية مدروسة في إدارة الصراعات، أو تخفيض حدتها أو تسويتها أو حتى بناء السلام في مراحل ما بعد توقف العنف.
[1] Kennan Ferguson, Silence: A Politics .Contemp Polit Theory 2, 49–65 ,2003. https://link.springer.com/article/10.1057/palgrave.cpt.9300054
[4] Samuel Mateus, “Communicative Silences in Political Communication” In Correia JC, Gradim A Morais R, (eds.), Pathologies and dysfunctions of democracy in the media context, Covilhã, Labcom, 2020. http://surl.li/tzdxy
[5] Helen Jaqueline McLaren, Silence as a Power, Social Alternatives Vol. 35 No. 1, 2016 http://surl.li/tzdye
[6] Mónica Brito Vieira, Representing Silence in Politics, American Political Science Review, 2020, http://surl.li/tzdxo
[7] Stellan Vinthagen and Anna Johansson, ‘Everyday Resistance’: Exploration of a Concept & its Theories,” Resistance Studies Magazine, Issue 1: 2013.
اصف بيات، ترجمة أحمد زايد، الحياة سياسية: كيف يغير بسطاء الناس في الشرق الأوسط ، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2014.
[12] Dadabaev T, Sonoda S. Silence is golden? Silences as strategic narratives in Central Asian states’ response to the Ukrainian crisis. International Journal of Asian Studies. 2023.https://rb.gy/etejdp
[15] Jane Parpart, Rethinking silence, gender, and power in insecure sites: Implications for feminist security studies in a postcolonial world, Review of International Studies ,2020. http://surl.li/tzdxe
[19] جاكوب جلينبرغر، هل نتحدث علانية أم نصمت أثناء العمل الإنساني؟، المجلة الدولية للصليب الأحمر، 2004 http://surl.li/tzdwy
[24] Pang, A., Jin, Y., Seo, Y., Choi, S. I., Teo, H.-X., Le, P. D., & Reber, B. Breaking the Sound of Silence: Explication in the Use of Strategic Silence in Crisis Communication. International Journal of Business Communication, 59(2), 2022.
https://doi.org/10.1177/23294884211046357
[29] Aidan Russell, Truth, Silence and Violence in Emerging States Histories of the Unspoken, Routledge 2018.
[33] الذاكرة والنسيان أو كيف نتجاوز إرث الحروب الأهلية؟ مرجع سابق.
[34] Victor Igreja,op.cit, the same link,
[35] Marita Eastmond & Johanna Mannergren Selimovic,op.cit, the same link.