د. محمد السعيد إدريس

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

* المقال منشور ضمن العدد رقم 116 من دورية "الملف المصري" الإليكترونية، مايو 2024.
للاطلاع وتحميل العدد كاملًا: https://acpss.ahram.org.eg/Esdarat/MalafMasry/116/files/downloads/Malaf-116-May-2024.pdf

 

كشفت تفاعلات إيران مع حلفائها خلال هجوم طوفان الأقصى الذي شنته فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وعلى رأسها حركتي المقاومة الإسلامية "حماس" والجهاد الإسلامي وحرب الإبادة الجماعية التي شنها كيان الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة عن وجود هامش من التباين أو الاختلاف في الرؤى والتقدير، الأمر الذي حفز البعض على تسريب رؤى وأقوال تروج لوجود قدر لا بأس به من الخلاف بين إيران وحلفائها، ثم توسيع ذلك إلى التساؤل عن احتمال حدوث أزمة بين الطرفين قد تؤدي إلى درجة من درجات القطيعة بين الطرفين.

هذا التحليل يهدف إلى تقصي حقيقة هذه الترويجات عبر الإجابة على ثلاثة أسئلة رئيسية: أولها، ما هي الضوابط الحاكمة للعلاقة بين إيران وحلفائها في "محور المقاومة" في كل من لبنان والعراق واليمن وفلسطين؟. وهل العلاقة بين الطرفين مجرد علاقة "مصالح طارئة" أم هي محكومة بضوابط عقيدية تفرض متانة العلاقة بين الطرفين وفهم كل طرف للآخر ولظروفه وتقديراته للأحداث، وعدم تجاوز حدود خلاف الرؤى إلى القطيعة في العلاقة؟ ثانيها، ما هي الخبرة التي أفرزتها تجربة تفاعلات إيران وأطراف "محور المقاومة" مع هجوم طوفان الأقصى والحرب الدامية العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة، خاصة ذلك الخيط الدقيق الذي يفصل بين تفاعلات إيران مع الأزمة عند حدودها التي تمنع تحولها إلى حرب موسعة إقليميًا بين إيران وحلفائها، وبين الولايات المتحدة وإسرائيل؟ ثالثها، كيف سيؤثر التصعيد العسكري المباشر بين إيران وإسرائيل، والذي بدأ حينما وجهت إيران هجمات مكثفة لإسرائيل صباح الأحد (14 أبريل 2024)- ردًا على الاعتداء الجوي الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق (الاثنين 1/4/2024)- ثم الرد الإسرائيلي بمهاجمة أصفهان صباح الجمعة (19/4/2024) على آفاق التصعيد في المنطقة والحرص الإيراني على عدم التورط في "حرب إقليمية موسعة" مع الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي؟.

أولًا: الضوابط الحاكمة للعلاقة بين إيران وحلفاءها في "محور المقاومة"

فرض تبني إيران -منذ تفجر ثورتها عام 1979- لمبدأ "تصدير ثورتها" في جوارها المحيط والجغرافي التزامات تجاه هذا الجوار بدافع من إستراتيجية نشر مذهبها من خلال ثلاثة منطلقات رئيسية تاريخية ونظرية وقيمية تضع إيران في قلب ثلاث دوائر اهتمام تحيط بها: أولها، شيعة المحيط الجغرافي، وثانيها، شيعة الجوار الجغرافي، وثالثها، البؤر الشيعية حديثة النشأة. حيث تضم كل دائرة كتلًا إستراتيجية مهمة، ولكل من هذه الدوائر الثلاث آلية محددة تختلف من دائرة لأخرى، ومن كتلة إستراتيجية لأخرى وذلك وفقًا للتصنيف النوعي لـ "الكتلة الشيعية" الموجودة في كل دائرة، ولطبيعة البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيش فيها، وماهية الأهداف التي تريدها إيران من وراء العمل في هذه الدوائر. وقد لعبت التطبيقات الإيرانية لنظرية "ولاية الفقيه" دور المظلة التي تحقق من خلالها مصالحها الإستراتيجية من خلال تكوين تجمعات شيعية داخل تلك الدوائر. واستخدمت إيران مبدأ "تصدير الثورة" المنبثق من الخطاب الديني كوسيلة للوصول إلى أهدافها المعلنة المتعلقة بحماية حقوق المسلمين في المنطقة، ودعم المظلومين وحمايتهم بما يتماشى مع الأهداف المتعددة المذكورة في الدستور الإيراني الخاصة بسياسة إيران الخارجية.

وبرز هذا التأثير بصورة جلية في لبنان، ثم في العراق وفلسطين وأخيرًا في اليمن، وهو تأثير تحكمه ضوابط عقائدية مذهبية من ناحية، ومصالح إستراتيجية إيرانية تشكل عصب المشروع الإقليمي لإيران من ناحية أخرى، ما يعني أن الكتل والجماعات الموالية التي استطاعت إيران "تخليقها" أو الإمساك بها ذات ارتباط عضوي بالمشروع الإقليمي الإيراني الأمر الذي أثار في أحيان كثيرة التباسًا في فهم حقيقة هذه العلاقة هل هي علاقة تقارب أيديولوجي ومصالح مشتركة أم أنها علاقات توجيه وهيمنة وتبعية؟.

ويرجع هذا الالتباس إلى أن العلاقات بين إيران والتنظيمات والجماعات الموالية لها تحوطها السرية والكتمان، فضلًا عن الغموض الذي تثيره تصريحات أطراف تلك العلاقات بشأنها. فعلى سبيل المثال، فإن قادة إيران وهذه التنظيمات يستخدمون شعارات تؤكد عمق الصلة بينهم، مثل: «محور المقاومة»، الذي يشير إلى التنظيمات والميليشيات المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، والصديقة لإيران. وكذلك شعار «غرفة العمليات المشتركة» التي أُعلن عن تشكيلها فى عام 2021 إبان معركة سيف القدس بين حركة حماس والجيش الإسرائيلي، وقد تكونت تلك الغرفة في بيروت وشارك فيها ضباط من حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني وحركة حماس وفصائل فلسطينية أخرى. فضلًا عن شعار «وحدة الساحات»، الذي استخدمته إيران لوصف العلاقة التي تربطها بهذه التنظيمات، وهو نفس الشعار الذي أطلقته "سرايا القدس" على المواجهة مع إسرائيل في عام 2022.

وتعطي هذه التعبيرات الانطباع بوجود علاقات وظيفية وتنظيمية عميقة بين هذه الأطراف، تتضمن تبادلًا للمعلومات والتنسيق بين الخطط والأنشطة. في الوقت نفسه، ثمة تصريحات أخرى تعطي انطباعًا مُخالفًا، فتؤكد استقلال كل تنظيم وحريته في التحركات التي يعتبرها مناسبة لتحقيق أهدافه الوطنية.

وقد أفصح هذا الالتباس عن نفسه في التصريحات الخاصة بهجوم «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر 2023؛ حيث تركزت تعقيبات أطراف ما يُسمى بـ «محور المقاومة» على أن قرار هذه العملية كان فلسطينيًا بحتًا، وأن حركة حماس انفردت بالتخطيط والإعداد له. واتصالًا بذلك، باركت إيران هذه العملية، مؤكدة أنها ليست لها أي صلة بها، وفقًا لتصريح المرشد الأعلى السيد على خامنئي. ومع ذلك كانت المفاجأة عندما صرح المتحدث الرسمي باسم الحرس الثوري الإيراني، رمضان شريف، في 27 ديسمبر الماضي (2023)، بأن هذه العملية كانت «إحدى عمليات الانتقام لاغتيال قاسم سليماني، وهذه الانتقامات ستبقى مستمرة». وردًا على ذلك التصريح، أصدرت حركة حماس نفيًا قاطعًا، ثم تراجع «شريف» عن تصريحه في اليوم التالي بدعوى أنه أُسىء فهمه.

والأمر المؤكد أن هناك تشابكات وترابطات بين إيران وتلك التنظيمات، فقد قامت إيران بأدوار مختلفة في إنشائها وتأسيسها، ثم تدريب أعضائها وتمويلهم وتسليحهم، وهو ما يتضح على صعيد الجبهات المختلفة لمحور المقاومة.

1- لبنان: في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وفي مناخ الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، أسهمت إيران في تجميع التنظيمات الشيعية المسلحة، وتدريب عناصرها وتزويدها بالسلاح المتقدم، حتى أصبح حزب الله اللبناني رقمًا سياسيًا وعسكريًا صعبًا. وفي تصريح نادر للسيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، في فبراير 2012، أعلن لأول مره أن حزبه يتلقى دعمًا ماليًا من إيران. وعندما اتهمت الولايات المتحدة بعض المصارف اللبنانية بفتح حسابات لحزب الله، أكد نصر الله، في يونيو 2016، أن تمويل الحزب يأتي بالكامل من إيران ولا يمر عبر القنوات المصرفية.

2- اليمن: في بداية الثمانينيات أيضًا، حدث تطور مماثل في علاقات إيران بحركة أنصار الله الحوثية في اليمن. وفي هذه الفترة، تدفقت أعداد متزايدة من صعدة إلى مدينة قم الإيرانية لتلقي التعليم الديني، وترتب على ذلك تغيير اعتقادهم من المذهب الزيدي الذي كان سائدًا في أوساطهم إلى المذهب الجعفري الاثنا عشري الذي تتبناه إيران. وفتح ذلك الباب لقيام إيران بالتدريب العسكري لشباب الحوثيين ومدهم بالسلاح ودعمهم بالمال. وانعكس ذلك الدعم في قدرة وفعالية هجمات الحوثيين الحالية على السفن العسكرية والتجارية في البحر الأحمر في إطار وحدة الساحات، ودعم المقاومة في معركة طوفان الأقصىى.

3- العراق: استثمرت إيران حالة الفوضى السياسية والاجتماعية التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، لتدعم نفوذها، وتخلق مراكز قوة موالية لها. فدعمت طهران عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله بعد سقوط نظام صدام حسين، ثم قوات الحشد الشعبي عام 2014 بعد استيلاء تنظيم داعش الإرهابي على الموصل وانهيار قطاعات كبيرة من الجيش العراقي، ووفرت طهران لهذه القوات الدعم الذي مكّنها من وقف تقدم داعش. واستخدمت إيران المنافذ البرية التي تقع على الحدود الطويلة مع العراق والتي تصل إلى أكثر من ألف كيلومتر لنقل أو تهريب ما ترغب فيه من أسلحة وذخائر ومؤن.

وتعتبر إيران أن تلك التنظيمات المسلحة تمثل ركائز نفوذها الإقليمي، فحافظت على علاقات الدعم والتأييد لها. وعندما اقتضت الحاجة لم تتردد في حشد القوى اللازمة للدفاع عن حلفائها، فحين تعرض النظام السوري لخطر السقوط حشدت طهران عشرات الآلاف من المقاتلين من الحرس الثوري الإيراني وأنصار حزب الله وميليشيات شيعية أخرى من العراق وباكستان وأفغانستان للدفاع عن النظام السوري، والقتال ضد مُعارضيه.

4- المقاومة الفلسطينية: تمثل حركة حماس نموذجًا فريدًا في العلاقة مع إيران، فعلى الرغم من الخلاف المذهبي بين الطرفين، ورفض حماس الاستجابة لطلب طهران بدعم النظام السوري، فإن ذلك لم يؤثر في عمق الصلات بينهما، واستمرت طهران في تزويد حماس بالمال والسلاح، وعبّر عن ذلك يحيى السنوار، رئيس حركة حماس في قطاع غزة، في حديث له في عام 2018، عندما قال: «لدينا علاقات ممتازة للغاية مع الإخوة في حزب الله.. وهناك تنسيق وعمل مشترك واتصالات شبه يومية بيننا وبينهم.. كما أن علاقاتنا مع إيران ومع الإخوة في قيادة الحرس وقاسم سليماني في غاية القوة والمتانة والحرارة والدفء»، على حد وصفه. وأكد ذلك أيضًا إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في عام 2022، بقوله: «إن إيران هي المانح الرئيسي للحركة، وإنها أسهمت بمبلغ 70 مليون دولار في تطوير أنظمتها الصاروخية».

ومن ثم يتضح أن إيران تمثل أحد المصادر المهمة لتمويل هذه التنظيمات الفلسطينية، والأرجح أنها زودتها في البداية بالأسلحة التي مكّنتها من إثبات وجودها على الأرض، ومع تضييق الخناق على طرق نقل هذه الأسلحة، وفرت لها طهران المعرفة التقنية اللازمة لتصنيعها محليًا، وتفننت في إيجاد سُبل مبتكرة لنقل أجزاء من هذه الأسلحة ثم تجميعها. ووفرت إيران لهذه التنظيمات أيضًا مستشارين من الحرس الثوري لتقديم الخبرة والمشاركة في التخطيط وإدارة المعارك، والتي اغتالت إسرائيل بعضهم في سوريا والعراق.

ويظلل كل ما تقدم زيارات المسؤولين الإيرانيين إلى مراكز النفوذ الإيراني للتواصل والمتابعة وتقدير الموقف. فعلى سبيل المثال، بعد اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، زار وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، لبنان ثلاث مرات في أكتوبر ونوفمبر 2023 وفبراير 2024، وسوريا مرتين في أكتوبر 2023 وفبراير 2024، والعراق مرة واحدة في أكتوبر 2023. أما إسماعيل قاآنى، قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، فقد زار كلًا من سوريا والعراق ولبنان في أكتوبر 2023، وفي نوفمبر الماضي (2023) زار لبنان، وفي نهاية يناير 2024 عاد لزيارة العراق. وفي المقابل، كانت طهران أول مقصد يزوره إسماعيل هنية بعد اندلاع الحرب على غزة، والتقى هناك بالمرشد الأعلى خامنئي في 5 نوفمبر الماضي (2023).

ثانيًا: الخبرة المكتسبة من تفاعلات إيران وحلفائها مع هجوم طوفان الأقصى وحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة

تجلت وحدة الساحات عمليًا بشكل واسع في طوفان الأقصى، ففي خلال الفترة الممتدة من إطلاق هجوم «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر الماضي وحتى الأول من فبراير 2024، شن حلفاء إيران أكثر من 160 هجوم مسلح على القوات الأمريكية في العراق وسوريا، ونفذت قوات جماعة أنصار الله الحوثية عمليات عسكرية في البحر الأحمر أدت إلى ارتباك كبير في حركة الملاحة البحرية، علاوة على الهجوم على موقع «البرج 22» بالأردن الذي أودى بحياة ثلاثة جنود أمريكيين.

والأمر اللافت في تفاعلات إيران وحلفائها مع هجوم طوفان الأقصى وحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، هو حرص إيران على قدر ما من "النأي بالنفس" عن هذه الحرب، ونفي أي علاقة مسبقة لها بهجوم طوفان الأقصى، والالتزام بعدم التورط في حرب إقليمية موسعة مع الولايات المتحدة وكيان الاحتلال الإسرائيلي واتضح ذلك حينما سارع الجنرال قاآني بالسفر إلى العراق للضغط على التنظيمات التي هاجمت القواعد الأمريكية لعدم التصعيد بعد الرد الأمريكي، الذي استهدف 85 هدفًا في سبعة مواقع مختلفة (3 في العراق و4 في سوريا) بما فيها مراكز قيادية واستخباراتية ومرافق تحتوي على طائرات مسيّرة وصواريخ، (مساء الجمعة – صباح السبت 3/2/2024). وفيما يخص التصعيد الحوثي في البحر الأحمر، فإن طهران تتخوف أن يؤدي إلى تهديد مصالح دول قريبة من إيران، مثل: الصين والهند، وإلى عواقب عسكرية تفوق ما تصوره القائمون بهذه العمليات.

وقد أدى الموقف الإيراني إزاء تلك التطورات إلى ظهور خلافات مع بعض حلفائها حول توسيع دائرة الحرب مع الولايات المتحدة وإسرائيل خارج قطاع غزة. ولعل هذا ما حفز مراقبون إلى طرح سؤال: إلى أين تتجه علاقات إيران مع حلفائها الإقليميين؟ من المفيد هنا التوقف أمام حقيقتين: أولاهما، هناك قدر من الاستقلالية في قرارات حلفاء إيران الإقليميين، خاصة المقاومة الفلسطينية، التي رأت ضرورة الحفاظ على بوصلة الصراع وتركيزه صوب القضية الفلسطينية والأقصى، وهذا ما جعل طوفان الأقصى له تأييدًا عالميًا، باعتبارها قضية تحرر وطني. ثانيتهما، وجود "توافق أهداف ومصالح" بين طهران وواشنطن في تجنب الحرب الإقليمية الموسعة، والحرص على ضبط النفس، إلى أقصى حد، لتفادي التورط في هذه الحرب خصوصًا في ظل إدراك الطرفين أن رئيس الوزراء الإسرائيلي والقوى الصهيونية الداعمة له في الولايات المتحدة خصوصًا يهمها توريط الولايات المتحدة في حرب موسعة ضد إيران للقضاء على ما يسميه رئيس الوزراء الإسرائيلي بـ "الخطر النووي الإيراني" من ناحية، وللخروج من مأزق عجز تحقيق انتصار يعيد لكيان الاحتلال ما خسره من مكانة وهيبة.

وهناك سؤال مهم يطرح نفسه، وهو إلى متى يمكن أن يصمد "خيار الحل الوسط" بين إيران والولايات المتحدة في حال تجدد الهجوم على القوات والقواعد الأمريكية؟ أم أن "الحرب الإقليمية" أضحت خيارًا حتميًا لا مفر منه؟. إن الإجابة على ذلك تتوقف على حسابات الموقفين الأمريكي والإيراني تجاه خيارات التصعيد وتداعياته.

فيما يخص الموقف الأمريكي، فقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز، وهي تتابع بدأب احتمالات حدوث توسيع للحرب الدائرة في غزة وتورط الولايات المتحدة في حرب مع إيران، تقريرًا مهمًا أهم محاوره هي:

أ- أن إيران أضحت فجأة، بفعل الفصائل المسلحة الحليفة وبفعل تطورات برنامجها النووي، تشكل تحديًا جديدًا للغرب خاصة وأن روسيا والصين تقفان الآن إلى جانبها.

ب- حدث انهيار لـ "شهر العسل الأمريكي مع إيران" الذي شمل تبادل سجناء ودفع 6 مليارات دولار لطهران وتعهدات إيران بوقف تطوير برنامجها النووي، بعد هجوم "طوفان الأقصى" وتداعياته الإقليمية، فقد اشتعلت الجبهات الحليفة لإيران ضد إسرائيل ابتداء من جنوب لبنان إلى البحر الأحمر إلى العراق، واستأنفت إيران تخصيب اليورانيوم مجددًا (إلى 60%) واقتربت من صنع القنبلة الذرية (وفق تقديرات الصحيفة باتت إيران قادرة الآن على صنع 3 قنابل خلال أسابيع).

ج- إذا كانت إيران لا تريد التورط حاليًا في حرب شاملة تدرك أنها ستكون خاسرة فيها، لكنها تخطط لصراع مع واشنطن "على حافة الهاوية" أي كل ما دون الحرب الشاملة وعلى متسع المنطقة، وهي واثقة بأنها باتت مدعومة دوليًا من الصين وروسيا بتحالفات إستراتيجية وشراكات عسكرية مع موسكو ونفطية مع بكين، ما يعني أن إيران لن تكون وحدها في حالة تعرضها لعدوان أمريكي أو إسرائيلي، وأن خطر "تدويل الصراع" في مثل تلك الظروف لن يكون مستحيلًا. وتشير الصحيفة إلى أن إيران باتت بعد تطورات الحرب الأوكرانية وشراكتها العسكرية مع روسيا في هذه الحرب، وفق تقديرات مركز الأبحاث البريطاني "شاتام هاويس" في "وضع جيد" وقادرة على تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة.

د- على الرغم من تعدد مصادر توسيع فرص توسيع حرب غزة إلى حرب إقليمية وخاصة حدوث حرب باتت محتملة بين إسرائيل و"حزب الله"، فإن ما يقلق الولايات المتحدة هو البرنامج النووي الإيراني، وليس أي سبب آخر، خاصة إذا ما تأكدت التقديرات التي تقول أن إيران باتت أقرب ما تكون الآن إلى صنع القنبلة.

وفق هذه التقديرات يتكشف أن واشنطن حريصة على تجنب توسيع حرب غزة من حرب محدودة إلى حرب إقليمية والصدام المباشر مع إيران، وأن واشنطن، إذا اضطرت للتورط في حرب مع إيران سيكون البرنامج النووي الإيراني هو السبب الأساسي أو المحدد والضابط الأساسي لمثل هذا الخيار؛ لذلك كان وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن حريصًا وهو يهئ للهجوم الأمريكي الذي نفذته الولايات المتحدة ضد مواقع لفصائل موالية لإيران في العراق وسوريا، على تأكيد أن واشنطن "ستعمل على تجنب اتساع نطاق الصراع". وقال أوستن (1/2/2024) أن "محور المقاومة" نفذ الهجوم الدامي ضد موقع "البرج 22" على الحدود الأردنية – السورية "ومن غير الواضح مدى علم إيران به، ولكنهم يقومون بتدريب وتمويل هذه الجماعات". كما نقلت شبكة "سي. بي. اس" الأمريكية عن مسئولين أمريكيين قولهم أن "إدارة الرئيس بايدن لا تسعى إلى حرب مع إيران حتى مع تزايد ضغوط الجمهوريين عليها لترد بقوة".

وبعد قيام الولايات المتحدة بالرد على هجوم "البرج 22" تولى جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي، في مقابلة مع قناة "إن بي سي" الأمريكية (3/2/2024) تحديد معالم الموقف الأمريكي بين الحرب المحدودة غير المباشرة، والحرب الإقليمية الشاملة على النحو التالي:

أ- أنه وفقًا لما أعلنه الرئيس الأمريكي جو بايدن فإنه "عندما تتعرض القوات الأمريكية لهجوم فإننا سوف نرد".

ب- أن تلك الضربات التي قامت بها القوات الأمريكية "لن تكون نهاية الأمر"، وأن الولايات المتحدة "تعتزم شن ضربات إضافية والقيام بإجراءات إضافية" لمواصل إرسال رسالة مفادها أنه "إذا ظلت أمريكا ترى تهديدات وهجمات فسوف ترد عليها".

ج- تجنب سوليفان تأكيد أو استبعاد توجيه ضربات أمريكية داخل الأراضي الإيرانية، وقال "ليس من الحكمة مناقشة ما ستقوم به أو تستبعده الولايات المتحدة".

د- في لقاء آخر مع شبكة "سي إن إن" الأمريكية حدد جيك سوليفان ما اعتبره "مبدأ الرئيس بايدن" وهو أن "الولايات المتحدة ستصعد وترد حينما تتعرض قواتنا لهجوم. والولايات المتحدة لا تتطلع إلى حرب أوسع في منطقة الشرق الأوسط، ولا نريد الانجرار إلى حرب". وزاد في توضيح هذا المبدأ بالقول: "سنواصل اتباع سياسة تسير على هذين الخطين في وقت واحد.. نرد بقوة ووضوح، كما فعلنا في ليلة الجمعة (2/2/2024)، ونستمر أيضًا في الالتزام بنهج لا يدفع الولايات المتحدة إلى التورط في حرب أخرى، كما ندافع عن مصالحنا وقواتنا.. وهذا ما سنواصل القيام به".

وفيما يخص محددات الموقف الإيراني من الالتزام بخيار "الحرب المحدودة – غير المباشرة" مع واشنطن. فإذا كانت إيران لا ترى نفسها معنية أو ملتزمة بهذا الخيار، وأن لديها دوافع وحوافز تشجعها للتورط في حرب إقليمية واسعة مع واشنطن، فإن واشنطن ستسقط حتمًا ضوابطها بخيار الحرب المحدودة، وتندفع نحو خيار الحرب الموسعة الإقليمية ضد إيران وحلفاءها في المنطقة. لذلك، فإن الإجابة المنطقية على ذلك السؤال المُشار إليه هي أن الموقف الإيراني سيكون أهم محددات الموقف الأمريكي من الالتزام أو عدم الالتزام بخيار "الحرب المحدودة". ومع ذلك فإن الموقف الإيراني هو الآخر له محدداته التي تحكم مساراته، ورغم تعدد هذه المحددات التي بلورت الموقف الإيراني من أهم محطات الصراع الحالي في قطاع غزة، وفي جنوب لبنان وفي البحر الأحمر حيث الوجود اليمني البارز، وفي العراق، إلا أن الردع الأمريكي الحاسم لعب الدور الأهم في بلورة الموقف الإيراني من الصراع الذي تجسد في معادلة الحرص على تجنب الحرب الشاملة مع الولايات المتحدة دون تقاعس أو تردد عن خوض المواجهة غير المباشرة مع الولايات المتحدة عبر حلفائها والوصول بها إلى "حافة الهاوية"، في رسالة مهمة إلى الولايات المتحدة، تقول أنه في ظروف محددة لن تتردد إيران عن خوض المواجهة المباشرة وتوسيع دائرة الحرب الراهنة إلى "حرب إقليمية شاملة"، وهذه الظروف تتحدد في التورط الأمريكي في الاعتداء المباشر على الأراضي الإيرانية وعلى البرنامج النووي الإيراني، وما دون ذلك يمكن أن تتم إدارته ضمن معادلة "الحرب المحدودة غير المباشرة"، حتى لو وصلت إلى "حافة الهاوية" أو التلويح بها كما يحدث ويتكرر على ألسنة كبار القادة في "الحرس الثوري" على وجه الخصوص.

ويمكن القول إن هناك معالم معادلة جديدة لتوازن القوى بين إيران والولايات المتحدة بدأت تتكشف، تتمثل في قناعة إيران بأنها وصلت مع واشنطن إلى "توازن الردع المتبادل"، وهو التوازن الذى سوف يكتسب المزيد من المصداقية في حال نجاح إيران في فرض نفسها "قوة نووية"، وهو طموح لم يعد بعيد المنال، ويعكس نفسه عادة في تصريحات كبار القادة السياسيين والعسكريين. وهذا ما أشار إليه الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي في كلمته التي بثها التليفزيون الإيراني(1/2/2024)، حينما قال أن "خيار الحرب لم يعد مطروحًا على طاولة الأعداء" موضحًا أن سبب ذلك هو "قوة الردع الإيرانية".

أضف إلى ما سبق، فقد نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية. عن مصدر مقرب من مكتب المرشد الأعلى أن "خامنئي أخبر المقربين منه أنه يعارض الحرب لأن الحفاظ على قبضة النظام على السلطة هي الأولوية القصوى، كما أن الحرب، إذا وقعت مع إيران، ستصرف أنظار العالم عن الكارثة الإنسانية في غزة".

تعبير الحفاظ على "قبضة النظام" تعني هنا الحفاظ على استمرارية ونجاح مشروع "الجمهورية الإسلامية"، لأن ذلك هو عنوان نجاح تجربة الثورة في إيران. وهو يشمل الحفاظ على البرنامج النووي حتى يكتمل وتصبح إيران قوة نووية، عندها سوف تفلت من دائرة التهديد الأمريكي – الإسرائيلي؛ لأن امتلاك "الردع النووي" قوة لا يستهان بها، إضافة إلى الحفاظ على القدرات العسكرية والصناعية دون تدمير كي تستطيع إيران أن تصبح قوة إقليمية كبرى ضمن معادلة التوازنات الدولية. وهذا ما تفعله حايلا مع كل من الصين وروسيا عبر تحالفات ومعاهدات استراتيجية وعبر شراكة إيرانية – روسية – صينية مشتركة في "منظمة شنغهاي للتعاون" وهي منظمة ذات اهتمامات أمنية وعسكرية، وفي "مجموعة بريكس" وهي منظمة اقتصادية عالمية

ورغم الحرص المتبادل بين واشنطن وإيران على ضبط النفس ومنع الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة، إلا أن متابعة سرعة تدافع الأحداث على جبهات الصراع المفتوحة والمشتعلة تؤكد أن مخاطر التوسع إلى حرب إقليمية مفتوحة ما زال محتملًا رغم ما ورد من تأكيدات على لسان وزير الخارجية الإيرانية أمير حسين عبد اللهيان عند زيارته للبنان (فبراير 2024) وأبرزها قوله إن إيران ولبنان تؤكدان "أن الحرب ليست هي الحل، ولم نكن نتطلع إلى توسيع نطاقها" وأن "المنطقة تسير نحو الاستقرار" رغم تحذيراته من أن "كيان الاحتلال الصهيوني يدق طبول الحرب والتهديد في رفح لأنه لم يحقق أيًا من أهدافه في غزة".

فرص التورط في حرب إقليمية ما زالت قائمة أيضًا رغم الحرص الأمريكي على عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع إيران أو حتى ضرب مواقع إيرانية بحتة في كل من العراق وسوريا، ضمن هجوم 1 و2 فبراير الأمريكي على مواقع لقوى موالية لإيران في العراق وسوريا. فذلك الهجوم لم يطل أي من القواعد العسكرية الإيرانية، مثل قاعدة "الإمام علي" في منطقة البوكمال في الشمال السوري وهي قاعدة عسكرية تابعة للحرس الثوري الإيراني، كان ذلك الهجوم أقرب إلى كونه "هجوما رمزيا" استهدف امتصاص غضب الضباط والمتشددين في الحزب الجمهوري الأمريكي الذين يضغطون لضرب إيران من الداخل وعدم الاكتفاء بضرب "الوكلاء". إيران امتصت هذا الهجوم، لكن اشتعال الجبهتين السورية والعراقية ضد الوجود العسكري الأمريكي ما زال محتملًا، وربما مؤكدًا كما هو الحال على الجبهتين اللبنانية واليمنية خصوصًا مع اجتياح إسرائيل شرق رفح، واحتلال «محور فيلادلفيا» (صلاح الدين) يوم 7/5/2024، خاصة وقد ربط القادة الحوثيون والأمين العام لحزب الله في لبنان بين "قواعد الاشتباك" القائمة مع إسرائيل وبين احتمال اجتياح القوات الإسرائيلية لمدينة رفح، التي ما زالت إسرائيل تهدد باجتياحها بشكل كامل. هذا يعني أن المراهنة على أن هناك ضوابط حقيقية أو قوية للحفاظ على حالة أو معادلة "حافة الهاوية" الراهنة سيبقى محفوفًا بالخطر، في ظل الاندفاع الإسرائيلي بالحرب في قطاع غزة "دون ضوابط" ودون التزام بالمطالب الدولية، في ظل الغطاء الأمريكي الذي يحول دون صدور قرار قوي من مجلس الأمن يفرض على إسرائيل الانسحاب من قطاع غزة، ويلزمها بالانخراط في إجراءات جادة لقيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة عاصمتها القدس الشرقية.

ثالثًا: تداعيات التصعيد العسكري المباشر بين إسرائيل وإيران

رغم ما شهدته الأشهر الأخيرة من حرب الإبادة على غزة من نتائج شديدة السلبية على الشعب الفلسطيني في غزة، وكذلك توسع إسرائيل في التوغل في عمق الجنوب اللبناني وقراه وصولًا إلى بعلبك شرق لبنان واستشهاد عدد كبير من قادة الصف الأول والثاني، كما شهدت عشرات الضربات الإسرائيلية لمواقع تخص الوجود العسكري الإيراني في سوريا، ومواقع تخص حزب الله اللبناني ومواقع أخرى تخص الجيش السوري، فقد حرصت إيران على ممارسة "ضبط أعصاب حديدي" وممارسة ضغوط على حزب الله لعدم الانجرار في توسيع جبهة الحرب بين إسرائيل وحزب الله كي لا تنجر إيران للتدخل في هذه الحرب التي سوف تتسع حتمًا بتدخل أمريكي. ففي مساء 14 فبراير 2024 التقى إسماعيل قاآني قائد "فيلق القدس" في الضاحية الجنوبية لبيروت مع السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله وعدد من كبار القادة في الحزب لنقل تعليمات المرشد السيد علي خامنئي بضبط النفس وعدم التورط في تصعيد الحرب مع إسرائيل، حتى لو غيرت القواعد وتوغلت إلى الداخل اللبناني. وقد تسرب من أوساط الحزب شعور بعدم الرضا والإحباط، وتحدثت بعض دوائر الحزب بـ "عصبية" أن "الحزب سيواجه إسرائيل منفرداً"، لكن قيادة الحزب التزمت بالتعليمات، ورددت مصطلحات المرشد الإيراني من نوع "الصبر الإستراتيجي" وغيره.

كان واضحًا أن إيران تسعى لتجنب "فخ" الحرب الواسعة مع إسرائيل والولايات المتحدة، وتجنب عواقب أي حرب بين إسرائيل و"حزب الله" حسبما قال مصدران أمريكي وإسرائيلي في تقرير نشرته "وكالة رويترز" كشف أن أمين عام حزب الله حسن نصر الله، طمأن قائد "فيلق القدس" الإيراني إسماعيل قاآني خلال زيارته المشار إليها أعلاه إلى بيروت بأن الحزب "لا يريد أن تنجر إيران إلى حرب مع إسرائيل أو الولايات المتحدة"، وأن حزب الله "سيقاتل بمفرده" ونقلت عن مصدر إيراني قوله أن نصر الله قال لقاآني "هذه هي معركتنا".

ثم جاء الهجوم الإسرائيلي على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق الذي أنهى حياة من يمكن تسميتهم بـ "رئاسة أركان فيلق القدس في سوريا" كمركز لنشاط الحرس الثوري في المشرق العربي، ليضع إيران أمام معضلة شديدة التعقيد، خاصة وأنه يُعد خروجًا عن كل "قواعد الاشتباك"، والتفاهمات الأمريكية – الإيرانية السرية بعدم توسيع دائرة حرب غزة في المنطقة. فقد أضحت إيران مطالبة برد الاعتبار للمكانة الإيرانية ولمصداقية سياسة الردع الإيرانية التي باتت على المحك بكل ما له من تأثير شديد السلبية على السلطة الإيرانية في الداخل من ناحية، ولهيبتها أمام عدوها الإقليمي (إسرائيل) والدولي (الولايات المتحدة) من ناحية ثانية، ولعلاقاتها مع حلفائها الإقليميين وشركائها الدوليين من ناحية ثالثة.

إيران أضحت مطالبة حسب مطالب القوى السياسية الداخلية برد متساو وحاسم وسريع، لكنها تدرك، عن يقين، أن هذا ما تريده إسرائيل، وخاصة بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الذى يسعى منذ سنوات طويلة لتوريط الولايات المتحدة في حرب واسعة مع إسرائيل ضد إيران تقضى على خطر القدرات النووية الإيرانية، وتضع نهاية للدور الإقليمي الإيراني المعادي للمصالح الأمريكية وللمشروع الإسرائيلي كله. لذلك تعي إيران خطورة القيام بمثل هذا الرد وحدوده، وباتت أمام معضلة الاختيار بين البدائل وبالتحديد كيف لها أن تثأر لشهدائها ولهيبتها ومكانتها الإقليمية بضربة قوية "تشفي الغليل" دون أن تكون هذه الضربة سببًا في تفجير حرب إقليمية موسعة لا تريدها إيران ولا تريدها الولايات المتحدة حسب ما هو معلن على لسان كبار المسؤولين الأمريكيين، في ظل إدراك إيراني مفاده أن "خيارات الثأر" من إسرائيل باتت "محفوفة بالمخاطر".

 وقد حظي ماهية الرد الإيراني، باهتمام كبار الخبراء الإستراتيجيين والعسكريين في الولايات المتحدة وداخل كيان الاحتلال، الذين كانوا على يقين كامل بأن "إيران سوف ترد"، لكن الخلاف تركز حول طبيعة وحدود الرد الإيراني، وهل سيخص إسرائيل أم يمتد إلى الولايات المتحدة باعتبارها شريك في العدوان رغم تنصلها من مسئوليته أو العلم المسبق به، على ضوء الدعم والحماية العسكرية والسياسية التي توفرها واشنطن لإسرائيل لمواصلة حرب الإبادة على قطاع غزة وعلى التوسع في العدوان على لبنان وسوريا. وعلى ضوء نوعية وكم صفقات الأسلحة الأمريكية للكيان الإسرائيلي التي تجاوز تعدادها المائة صفقة وتحتوي على ذخائر وصواريخ وطائرات شبح (25 طائرة اف – 35 استخدمت في الهجوم على القنصلية الإيرانية بدمشق)، إضافة إلى 1800 قذيفة من نوع "أم – كي 84" (أم القنابل)، التي يزيد وزن الواحدة منها عن 2000 رطل، و500 أخرى من الطراز نفسه بوزن 500 رطل .

إيران بعد هذا الهجوم أضحت ملتزمة بالقيام بـ "رد سيجلب الندم" على حد تعهد المرشد الأعلى السيد علي خامنئي، الذي أكد في بيان نعيه لشهداء القنصلية (3/4/2024) بأن "الكيان الصهيوني الخبيث سينال عقابه على أيدي رجالنا البواسل.. سيندم الصهاينة على هذه الجريمة ومثيلاتها". وتوالت التهديدات على لسان أبرز البرلمانيين والقادة السياسيين والعسكريين في إيران الذين لم يحصروا الرد في إيران ولكن توسعوا في دعوة حلفاء "جبهة المقاومة" برد حازم، وأكدوا على أن "المماطلة والصبر والتأخير في الرد الحازم والمماثل تحت أي عنوان يعد ضربة قوية لسمعة إيران". وبلغ الحرص على الرد مداه في تساؤل صحيفة "فرهيختجان" التي يترأس إدارتها وزير الخارجية الأسبق والأشهر ومستشار المرشد الأعلى على أكبر ولاياتي. فقد تساءل عن "ما إذا كانت" معادلة الردع الإيرانية بحاجة إلى إعادة نظر" وقالت أن "تل أبيب بدأت لعبة خطيرة ضد المستشارين الإيرانيين في سوريا من أجل الخروج من عنق الزجاجة وتعمل على تطويره تدريجياً". وقالت أن "سوريا أصبحت ساحة لتآكل الردع الإيراني".

لذلك فإن مجموعة من الأسئلة المهمة فرضت نفسها بكثافة: أولها، لماذا تهور بنيامين نتنياهو رئيس حكومة إسرائيل وأعطى تعليماته إلى قواته بشن هذا الهجوم؟ وثانيها، هل الولايات المتحدة الأمريكية شريك في هذا الهجوم، أم أنها فوجئت به، على حد ما تزعم داخل مجلس الأمن الدولي أو على المستوى الإعلامي؟ لأن علم الولايات المتحدة بالهجوم وإعطائها ضوءًا أخضر لنتنياهو لتنفيذه يحمل دلالات خطيرة أبرزها أن الولايات المتحدة عدّلت من موقفها السابق طيلة الأشهر الست الماضية من عمر حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، وأنها أضحت لها مصالح في توسيع الحرب، فما هي هذه المصالح التي أقنعت واشنطن بالتحول من خيار "الحرب المحدودة" بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية بمشاركة أطراف من جبهة المقاومة إلى حرب إقليمية شاملة تدخل فيها الولايات المتحدة وإيران كطرف مباشر ضمن الأطراف الأخرى المتحاربة. ثالثها، كيف سترد إيران على العدوان الإسرائيلي على مبنى دبلوماسي يحظى بالسيادة الوطنية؟ هل ستدخل الولايات المتحدة طرفًا ضمن عملية الانتقام باعتبارها شريكًا أساسيًا في هذا الهجوم، أم سيتركز على إسرائيل دون الولايات المتحدة حرصًا على تجنب انهيار معادلة تفادي حدوث "حرب إقليمية موسعة" كانت إيران لا تريدها على مدى الأشهر التي مضت عقب تفجر "طوفان الأقصى" وكانت لا تريدها الولايات المتحدة، أم ستكون حريصة على تجنب هذا الخيار، وتبقى قابضة على الجمر ملتزمة بخيار "الصبر الإستراتيجي" كخيار له كل الأولوية إلى أن تحين ساعة المواجهة الشاملة التي تعد لها حسب تقديراتها الإستراتيجية، حربًا تنهي وجود كيان الاحتلال الإسرائيلي، وتكتفي بـ "رد له اعتباره كاف لحفظ ماء الوجه الإيراني، سواء كان ضربة صاروخية لإسرائيل، في الداخل، أم ضربة ضد أي سفاراتها، أو هجومًا "سيبرانياً" يؤدي الغرض المطلوب.

الهجوم الإيراني المضاد على كيان الاحتلال الإسرائيلي صباح الأحد (14 أبريل 2024) قطع الشك باليقين. فقد شنت إيران هجومًا مكثفًا بمئات الصواريخ الباليستية والمجنحة التي تعمدت إيران أن تطلقها من أراضيها، إضافة إلى 185 طائرة مسيرة (بدون طيار) الأمر الذي أدخل كيان الاحتلال في حالة من الرعب والهلع، خصوصًا بعد سماع دوي صفارات الإنذار تقريبًا في جميع المناطق بالعمق الإسرائيلي. لكن، ما هو أهم من ذلك هو المغزى الذي اتصف به هذا الهجوم، والذي يمكن توضيحه في أربعة ملاحظات رئيسية: أولها، أن هذا الهجوم الإيراني الكبير قد تم تنفيذه من داخل إيران، وكانت القيادة العسكرية الإيرانية واضحة في تبنيه (لكنها اعتبرته محدوداً)، وهذا تطور لافت جدًا في عملية المواجهة بين إيران وإسرائيل، وهذا يعني أن سياسة إيران في الاعتماد على أذرعها أو وكلائها في المنطقة قد وضعت جانبًا، ما يعني أن إيران قررت تغيير معادلة "الصبر الإستراتيجي" إلى الأخذ بمعادلة "الردع الإستراتيجي" والدخول كطرف مباشر في الصراع مع كيان الاحتلال، دون تجاهل التنسيق والتكامل في هذه السياسة مع الحلفاء في "محور المقاومة" في لبنان واليمن والعراق. ثانيها، اعتراف كيان الاحتلال الإسرائيلي بالتنسيق الجيد الذي اتسم به هذا الهجوم وكثافته (بعض التقديرات الإسرائيلية قالت أن عدد الصواريخ والمسيرات قد تجاوز الثلاثمائة). ثالثها، أن إيران أبقت الباب مفتوحًا أمام تكرار مثل هذا الهجوم، عندما أعلنت أن أي رد من إسرائيل أو من الولايات المتحدة سيقابل برد فعل إيراني أكبر. رابعها، أن إسرائيل احتاجت لدعم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والأردن للتصدي لهذا الهجوم، الأمر الذي يكشف من ناحية ضعف القدرات العسكرية الإسرائيلية للتصدي منفردة لهجوم إيراني (يمكن وصفه بأنه مجرد هجوم تكتيكي وليس إستراتيجي أو أنه "هجوم محسوب")، ويكشف من ناحية أخرى وجود استقطاب إقليمي واضح المعالم: إيران ومحور المقاومة، وإسرائيل والتحالف الإقليمي الشرق أوسطي.

من هنا يكتسب الرد الإيراني على العدوان الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق أهميته وخاصة ما يتعلق بتغيير "قواعد الاشتباك" بحيث أضحت إيران طرفًا مباشرًا في المواجهة ومن الأراضي الإيرانية، وقادرة على ضرب القواعد العسكرية التي شاركت في العدوان على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق: "قاعدة نيفاتيم" الجوية، وقاعدة "النقب" الجوية".

وعلى الرغم من التعمد الإسرائيلي في إنكار حجم الخسائر، والتهوين من قوة الهجوم الإيراني، ووصفه إعلاميًا بأنه "مسرحية هزلية" - أخذت أبواق إعلامية وسياسية عربية ترددها ضمن ما تكشف من استقطاب سياسي إقليمي- إلا أن الإعلام الإسرائيلي عجز عن إخفاء أصداء هذا الهجوم على القيادة السياسية – العسكرية الإسرائيلية وحالة الارتباك الشديد التي أصابت هذه القيادة في العجز عن تحديد هل لا بد أن يكون لإسرائيل رد على هذا الهجوم في ظل الرفض الأمريكي لأي مشاركة من هذا النوع، وتأكيد الرئيس جو بايدن حرصه على "عدم توسيع الحرب إلى حرب إقليمية."

فقد كشف مصدر رفيع بمجلس الحرب الإسرائيلي أنه: "لو نشرت المداولات التي جرت خلال اجتماعات ذلك المجلس من صراخ واتهامات متبادلة لكانت دفعت ملايين الإسرائيليين للهرب من إسرائيل والنزوح للخارج" وقال ما نصه "سيكون لديك 4 ملايين شخص من الإسرائيليين يهتفون في مطار بن جوريون ويحاولون الهرب من هنا". كانت المعضلة تتمثل في تعقد حسابات إيران ومخاوف "الرد على الرد" الذي يجب أن يحقق ما يُعرف بـ "تكافؤ الرد".

وجاء الهجوم الإسرائيلي على أصفهان صباح الجمعة (19/4/2024) ليكشف "هزلية" هذا الرد وعجزه، على نحو ما اعترف به قادة الكيان، ويكشف أيضًا مدى تعقد حسابات الردع الإسرائيلية الآن في ظل الحقائق الجديدة التي حققتها إيران على مستوى "توازن الردع" مع كيان الاحتلال وحلفائه الدوليين والإقليميين الذين شاركوا في الدفاع عنه ضد الهجوم الإيراني.

فقد أنهى الرد الإيراني سياسة "الصبر الإستراتيجي" وفرضت إيران نفسها دولة مواجهة مباشرة، وليس عبر الوكلاء، مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، في وقت تأكد فيه أن هذا الكيان أضحى عاجزًا عن الدفاع عن نفسه، وأن الحليف الأمريكي الأكبر لم يعد مستعدًا للتورط في مكايد إسرائيلية لا تتوافق مع حساباته ومصالحه الإستراتيجية، في ظل تدني الثقة الأمريكية، ربما للمرة الأولى، في قدرة هذا الكيان على القيام بالوظائف التي وكل للقيام بها في الشرق الأوسط؛ نظرًا لتصدع نظرية الردع الإسرائيلية.

ختامًا، يومًا بعد يوم تتأكد حقيقة أن تفاعلات كافة الأطراف مع الصراع الإستراتيجي الممتد في الإقليم الذي يتمحور حول معادلة "فلسطين- إسرائيل" في مرحلة ما بعد حرب طوفان الأقصى وتوقف حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة ستكون حتمًا مختلفة عن ما سبقها من تفاعلات قبل هذه الأحداث. وأيًا كانت تفاصيل العلاقات بين إيران والتنظيمات الحليفة لها، فإن مصلحة طهران أن تظل تلك العلاقات غامضة وملتبسة؛ إذ يوفر لها هذا الوضع تبني إستراتيجية «الدفاع المتقدم» ونقل المعارك ضد خصومها بعيدًا عن حدودها، دون أن تتحمل مسؤولية الأفعال التي تقوم بها هذه التنظيمات، وألا تتعرض لضغوط عسكرية مُباشرة من جراء ذلك. وفيما يخص ترتيبات ما سيلي "اليوم التالي" لوقف الحرب في غزة، فإن إيران تعطي الأولوية للعمل في مسارين: أولهما، عدم اتساع رقعة الحرب، عكس ما يريده بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية من توسيع الجبهات وصولًا إلى حدوث مواجهة أمريكية – إيرانية. وثانيهما، تحقيق وقف إطلاق النار بالسرعة المطلوبة لإنقاذ سكان غزة من ماكينة القتل العسكرية الإسرائيلية التي تمارس إبادة بشرية وإنسانية في غزة، والتمكن السريع من دخول كافة المساعدات المعيشية والطبية إلى أهالي غزة. هذا يعني أن إيران غير مهتمة حاليًا بالتسرع الأمريكي للبحث في ترتيبات ما سيلي "اليوم التالي" لوقف الحرب في غزة، لأن هذا معناه فرض معادلة سياسية – أمنية لمستقبل غزة والقضية الفلسطينية تحت نيران الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني وشروط قادة كيان الاحتلال الإسرائيلي، وأن إيران أحرص على إعطاء الأولوية لوقف الحرب، ومنع إسرائيل من فرض شروطها حول مستقبل غزة ومعها مستقبل القضية الفلسطينية.

وعلى صعيد التصعيد العسكري المباشر بين إسرائيل وإيران، فقد فرض تغييرًا في معادلة الصراع بينهما؛ فالحرب بالإنابة التي اعتمدتها إيران عبر حلفائها ضد إسرائيل والحرب ضد الأذرع والوكلاء التي شنتها إسرائيل ضد إيران باتت من ذكريات الماضي، وأن إيران بعد هجومها على إسرائيل باتت تعتمد سياسة "الردع الإستراتيجي" ولكن ضمن استقطاب أضحى واضحًا بين محور المقاومة بقيادة إيران، ومحور التحالف الإسرائيلي الذي كشفت عنه مشاركة أطراف هذا التحالف في الدفاع عن إسرائيل ضد الهجوم الإيراني.