* المقال منشور ضمن العدد رقم 116 من دورية "الملف المصري" الإليكترونية، مايو 2024.
رغم أن توظيف الأزمات الخارجية وما تفرضه من ضغوط لتغيير توازنات القوى السياسية في الداخل لا يعبر عن توجه جديد يتبناه نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلا أنه اكتسب مزيدًا من الأهمية والزخم خلال العِقد الأخير على الأقل، بداية من الوصول إلى الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015، مرورًا بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية منه في 8 مايو 2018 وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران في 7 أغسطس من العام نفسه، وانتهاء بعملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة حماس داخل مستوطنات غلاف غزة في 7 أكتوبر 2023، وما استتبعها من حرب إسرائيلية على القطاع وتصعيد عسكري على جبهات إقليمية متعددة، كان من بينها تصعيد عسكري مباشر، لأول مرة، بين إيران وإسرائيل.
تحاول هذه المقالة مناقشة حدود وكيفية توظيف النظام الإيراني التحديات الخارجية للتأثير في الداخل، من خلال تناول الاتفاق النووي (2015) ثم الانسحاب الأمريكي منه (2018)، وتأثير ذلك على توازنات القوى السياسية، فضلًا عن تحليل دلالات الموقف الداخلي بشأن عملية "طوفان الأقصى" (2023)، وحدود التوافق حول سياسة "النأي بالنفس"، والتجاذبات السياسية بشأن جدوى "الحرب بالوكالة"، وانعكاسات ذلك على ما انتهت إليه انتخابات مجلسي الشورى الإسلامي وخبراء القيادة التي أجريت في أول مارس 2024 من نتائج، وأخيرًا الانعكاسات الداخلية المتوقعة للتصعيد العسكري المباشر بين إسرائيل وإيران على توازنات القوى السياسية.
أولًا: الاتفاق النووي (2015)
بعد أن تم التوصل إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، اعتبرت القوى السياسية التي تنتمي إلى تيار المعتدلين -الذي يضم الإصلاحيين والمحافظين التقليديين- أن هذا الاتفاق يمثل نصرًا وإنجازًا دبلوماسيًا كبيرًا لإيران، في ظل الامتيازات العديدة التي حصلت عليها بمقتضاه وفقًا لرؤيتها. ففضلًا عن أن إيران احتفظت بمختلف مكونات برنامجها النووي، فقد عُلِّقت العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها بمقتضى قرار مجلس الأمن رقم 2231.
وكان لذلك تأثير قوي على توازنات القوى السياسية في تلك الفترة، على نحو انعكس بشكل مباشر في انتخابات مجلسى الشورى الإسلامي وخبراء القيادة التي أجريت في 26 فبراير 2016، بعد بدء تعليق العقوبات الدولية المفروضة على إيران بنحو شهر (16 يناير 2016)؛ حيث حقق تيار المعتدلين فوزًا ساحقًا، بدا واضحًا في سيطرته على معظم مقاعد مجلس الشورى ومجلس خبراء القيادة، بل إن الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني (توفى في 7 يناير 2017) الذي كان يقود التيار في هذا الوقت نجح في الفوز بالمركز الأول في انتخابات الخبراء على مستوى العاصمة طهران، في حين أخفق بعض أقطاب تيار المحافظين الأصوليين في الوصول إلى المجلس، مثل محمد يزديومحمد تقي مصباح يزدي، وكاد بعضهم الآخر أن يفقد مقعده في المجلس مثل أحمد جنتي رئيس مجلس صيانة الدستور الذي حصل على المركز السادس عشر والأخير في العاصمة طهران.
كما نجح الرئيس السابق حسن روحاني في الفوز بولاية رئاسية جديدة في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 19 مايو2017، رغم أن منافسيه من المحافظين الأصوليين حاولوا التوحد خلف مرشح واحد هو الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، إلا أنهم لم ينجحوا في الإطاحة بروحاني من منصبه.
ثانيًا: الانسحاب الأمريكي من الاتفاق
هذه التوازنات بدأت في التغير من جديد، عقب القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 8 مايو 2018، بالانسحاب من الاتفاق النووي، ثم إعادة فرض العقوبات الأمريكية بداية من 7 أغسطس من العام نفسه. وبلغت ذروة التوتر بين الطرفين عندما أصدر ترامب أمرًا بتنفيذ عملية عسكرية في بغداد في 3 يناير 2020 أسفرت عن مقتل القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني ونائب أمين عام مليشيا الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس.
فرغم أن الوصول للاتفاق النووي لم يتم إلا بعض الحصول على موافقة المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، الذي يمتلك النفوذ الأهم داخل تراتبية نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلا أن تيار المحافظين الأصوليين، والحرس الثوري، ووسائل الإعلام التابعة له، شنت حملة قوية اتهمت فيها تيار المعتدلين بقيادة روحاني بالمسئولية عن ما آل إليه هذا الاتفاق، الذي اعتبرت هذه الجهات -على عكس ما كان يروج المعتدلون- أنه يتضمن تنازلات كبيرة من جانب إيران -مثل نقل معظم كميات اليورانيوم التي قامت بتخصيبها إلى الخارج لبيعها في الأسواق الدولية- مقابل الحصول على امتيازات متواضعة سرعان ما انتهت عقب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق الذي أفرغه من مضمونه.
وعلى خلفية ذلك، بدأت توازنات القوى السياسية في التغير من جديد لصالح تيار المحافظين الأصوليين، الذي نجح في السيطرة على أغلبية مقاعد مجلس الشورى الإسلامي في الانتخابات التي أجريت في 21 فبراير 2020، بمساعدة من جانب مجلس صيانة الدستور -الهيئة المنوط بها البت في أهلية المرشحين للانتخابات المختلفة فضلًا عن مطابقة مشروعات القوانين الصادرة عن مجلس الشورى مع الدستور- الذي استبعد عددًا كبيرًا من مرشحي تيار المعتدلين من الانتخابات دون أن يقدم تبريرات لذلك.
ونجح رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي في الفوز بالانتخابات الرئاسية التي أجريت في 18 يونيو 2021، بعد أن مارس مجلس صيانة الدستور المهمة نفسها باستبعاد عدد من مرشحي تيار المعتدلين، وكان أبرزهم رئيس مجلس الشورى السابق علي لاريجاني.
ثالثًا: طوفان الأقصى ودلالات "النأي بالنفس"
في خضم هذا المشهد السياسي الداخلي في إيران، جاءت عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها كتائب القسام- الذراع العسكرية لحركة حماس الفلسطينية- داخل مستوطنات غلاف غزة، في 7 أكتوبر 2023، لتزيد من حدة الاستقطاب السياسي الداخلي في إيران، على نحو كان له دور في ما انتهت إليه انتخابات مجلسي الشورى الإسلامي وخبراء القيادة التي أجريت في أول مارس 2024.
فقد كان لافتًا في بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما استتبعها من تصعيد بمستويات مختلفة على جبهات إقليمية متعددة، بداية من العراق، مرورًا بسوريا ولبنان، وانتهاء باليمن، أن إيران كانت حريصة على "النأي بالنفس" عن العملية التي نفذتها حماس؛ حيث نفت على لسان أكثر من مسئول ضلوعها فيها أو علمها بها، وكان في مقدمتهم المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، الذي قال في 10 أكتوبر 2023 أن "أنصار النظام الصهيوني وآخرين نشروا شائعات في اليومين أو الثلاثة الماضية بما فيها أن إيران كانت وراء هذه العملية (طوفان الأقصى)، إنهم على خطأ"، مضيفًا أن "من يقولون أن عملية طوفان الأقصى عمل غير فلسطيني عالقون في حسابات خاطئة".
هنا، كان لافتًا أن هذه التصريحات حظيت بدعم من جانب بعض أقطاب تيار المعتدلين، على غرار وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، الذي أشاد بموقف المرشد خامنئي ووصفه بأنه "ذكي"، مضيفًا أن "الدعم الذي تقدمه إيران للفصائل الفلسطينية لا يعني أن تحارب إلى جانبهم". وسارع بعض أقطاب الإصلاحيين أيضًا إلى دعم هذا التوجه الذي تبنته القيادة العليا في الدولة، على غرار الرئيس الأسبق محمد خاتمي، الذي ما زال حريصًا على التماهي مع بعض السياسات التي يتبناها النظام رغم أنه يتعرض لقيود شديدة منذ الأزمة السياسية التي اندلعت في إيران في عام 2009؛ بسبب الاحتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في يونيو من هذا العام وأسفرت عن فوز الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية؛حيث اتُهِم خاتمي بأنه أحد قادة ما أسماه تيار المحافظين الأصوليين بـ"تيار الفتنة" في إشارة إلى "الحركة الخضراء" التي قادت الاحتجاجات.
هذا التماهي في المواقف بين المحافظين الأصوليين والمعتدلين إزاء عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، يطرح دلالتين رئيسيتين: الأولى، أن ذلك يمثل محاولة من جانب تيار المعتدلين -أو على الأقل كثير من القوى السياسية التي تنتمي إليه- لتأكيد ولائه لنظام الجمهورية الإسلامية ولولاية الفقيه، بعد أن تعرض في فترات سابقة -لاسيما بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي وفرض العقوبات الأمريكية على إيران فضلًا عن اغتيال سليماني واندلاع الاحتجاجات الشعبية في منتصف سبتمبر 2022 اعتراضًا على وفاة الشابة الكردية العشرينية مهسا اميني على أيدي عناصر شرطة "الأخلاق" الذين اتهموها بعدم الالتزام بقواعد ارتداء الحجاب- لاتهامات بـ"الخيانة"، و"العمالة لجهات خارجية".
فعلى سبيل المثال، شن حسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة "كيهان" (الدنيا)- التي تعد الصحيفة الأبرز القريبة من مكتب المرشد الأعلى علي خامنئي وتيار المحافظين الأصوليين- هجومًا حادًا على الرئيس الأسبق محمد خاتمي، في افتتاحية الصحيفة في 8 فبراير 2023، والتي جاءت تحت عنوان "ما جمعك بالكفرة إن لم تعبد الصنم يا سيد خاتمي"، وتضمنت اتهامات للأخير بالتماهي مع السياسات الأمريكية والغربية خلال فترتيه الرئاسيتين (1997-2005)، وبالتعاون مع بعض الغربيين الذين اتهموا بالمشاركة في خطط لتقويض دعائم نظام الجمهورية الإسلامية، مثل الملياردير الأمريكي جورج سوروس، الذي ادعى شريعتمداري أن خاتمي التقى به في نيويورك في عام 2006، برفقة وزير الخارجية السابق- الذي كان يشغل حينئذ منصب المندوب الإيراني في الأمم المتحدة- محمد جواد ظريف.
والثانية، أن هناك توافقًا سياسيًا عامًا على ضرورة تجنيب إيران الانخراط في حرب مباشرة، سواء كانت مع إسرائيل أو مع الولايات المتحدة الأمريكية. إذ إن ذلك يدخل ضمن ما يسمى في إيران بـ"المحظور" الذي يجب تجنبه باستمرار.
وفي رؤية قيادة النظام ومؤسساته الرئيسية، فضلًا عن التيارات السياسية، فإن تأكيد الضلوع في عملية "طوفان الأقصى"، أو حتى عدم نفي الاتهامات التي وجهت إلى إيران في هذا الصدد، كان من الممكن أن يؤدي إلى تجاوز هذا "المحظور"، ويزيد بالتالي من خطورة الانخراط في حرب مباشرة مع إسرائيل التي تلقت دعمًا غير محدود من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، على المستويين السياسي والعسكري.
لكن هذا التوافق الداخلي العام على ضرورة تجنب الانخراط في حرب مباشرة يشبه"جبل الجليد" الذي تظهر قمته فقط في حين يختفي قسمه الأكبر تحت الماء. إذ أن ذلك لا ينفي أن ثمة خلافات رئيسية في مواقف القوى السياسية حول الخيارات التي يمكن أن تتبناها إيران للاستعاضة عن خيار الحرب المباشرة، أو بمعنى أدق الخيارات المتاحة أمام الدولة لإدارة التفاعلات مع القوى الخارجية.
هنا، فإن سياسة "الحرب بالوكالة" تحولت إلى محور للتجاذبات السياسية داخل إيران في الفترة الماضية؛ إذ انقسمت القوى السياسية إلى اتجاهين في هذا الصدد، يمكن توضيحهما فيما يلي:
الاتجاه الأول: تدعمه قوى تيار المحافظين الأصوليين؛ حيث ترى أن هذه السياسة هي الآليةالأفضل التي يمكن من خلالها تعزيز مصالح إيران في الخارج وحماية استقرارها وتماسكها القومي في الداخل. ويستند هذا الاتجاه إلى اعتبارات عديدة لإضفاء وجاهة خاصة على هذه الرؤية، تتمثل في:
1- تقليص احتمالات استخدام الخيار العسكري ضد إيران: يرى هذا الاتجاه أن الحرب بالوكالة عن طريق تأسيس ودعم مليشيات مسلحة في بعض دول المنطقةيمكن أن توفر لإيران قدرة على ردع خصومها الإقليميين والدوليين، ومنعهم من العمل على الانخراط في حرب مباشرة وواسعة النظام معها. وهنا، فإن الرسالة الأساسية التي تسعى إيران إلى توجيهها إلى هؤلاء الخصوم مفادها أن لديها القدرة على رفع كُلفة أي عمل عسكري واسع النطاق تتعرض له مباشرة من جانبهم. وفي رؤية هذا الاتجاه، فإن هذه المقاربة هي التي منعت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من الإقدام على هذه الخطوة منذ تصاعد حدة الصراع بينهما بعد تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية في عام 1979.
2- محاربة الخصوم بعيدًا عن حدود إيران: تساعد سياسة الحرب بالوكالة -وفقًا لهذا الاتجاه- على محاربة الخصوم في أراضي دول أخرى. واللافت هنا، أن هذا الاتجاه يستدعي تصريحًا مهمًا للمرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، في 5 يناير 2017، حيث قال لعوائل الإيرانيين الذين قتلوا في سوريا: "لقد ذهبوا إلى هناك من أجل أن لا تحارب إيران داخل حدودها، لو لم نحارب الأشرار ودعاة الفتنة من عملاء أمريكا والصهيونية في سوريا، لكنا نصارعهم في طهران وفارس وخراسان وأصفهان".
3- تعزيز الدور الإقليمي لإيران في الشرق الأوسط: لا يعتبر هذا الاتجاه إيران "قوة رئيسية" في منطقة الشرق الأوسط، وإنما يزعم أنها "القوة الأولى" في المنطقة. وفي رؤيته، فإن ذلك يعود في المقام الأول إلى دعمها للمليشيات المسلحة الموجودة في دول الأزمات، مثل العراق ولبنان وسوريا واليمن والأراضي الفلسطينية، والذي حول إيران إلى رقم مهم في معظم إن لم يكن مجمل تلك الأزمات، على نحو لا يمكن معه استبعادها من عملية إعادة صياغة الترتيبات السياسية والأمنية التي تجري داخل تلك الدول بمشاركة قوى دولية وإقليمية عديدة، حتى وإن لم يكن بعض تلك القوى يدعم ذلك.
الاتجاه الثاني: تدعمه قوى تيار المعتدلين؛ حيث ترى أن سياسة "الحرب بالوكالة" تفرض تداعيات سلبية على إيران يمكن تناولها في الآتي:
1- تكريس ظاهرة "الإيرانوفوبيا": يرى هذا الاتجاه أن مواصلة العمل بهذه السياسة يساهم في تكريس ظاهرة "الإيرانوفوبيا" التي سعت، وفقًا له، قوى عديدة إقليمية ودولية إلى الترويج لها في الفترة الماضية، على نحو كان له دور في التأثير سلبيًا على العلاقات الثنائية بين إيران والعديد من دول المنطقة، التي اتجه بعضها إلى اتخاذ قرارات بقطع العلاقات الدبلوماسية معها نتيجة تدخلها في الشئون الداخلية، على غرار البحرين والمغرب.
2- استنزاف الموارد الإيرانية: ويقترب هذا الاتجاه في هذا الصدد من المقاربة التي تتبناها بعض القوى الليبرالية وقوى المعارضة في الخارج، والتي ترى أن دعم المليشيات المسلحة في المنطقة ساهم في استنزاف الموارد الإيرانية، على نحو كان له تأثير سلبي قوي في الداخل، بدا جليًا في تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية وتراجع القدرة على احتواء تداعيات العقوبات الأمريكية، وتفاقم الأزمات المعيشية، خاصة في المناطق التي تقطنها القوميات الإيرانية على الحدود. وكان لذلك كله دور رئيسي في اندلاع الاحتجاجات المتتالية وكان آخرها وأكثرها قوة الاحتجاجات التي اندلعت في منتصف سبتمبر 2022 بعد وفاة مهسا اميني، والتي امتدت لأكثر من خمسة أشهر.
وكان اللافت في هذه الاحتجاجات أنها شهدت ظواهر عديدة تعبر عن تصاعد الاستياء الشعبي من استنزاف الموارد الإيرانية في دعم المليشيات المسلحة في المنطقة، مثل إحراق صور وتماثيل القائد السابق لفيلق القدس قاسم سليماني الذي اغتالته الولايات المتحدة الأمريكية في 3 يناير 2020، والذي يرمز إلى العمليات الخارجية لإيران التي تتضمن تقديم الدعم لتلك المليشيات، فضلًا عن تجدد ظهور شعارات "نه غزه نه لبنان.. جانم فداى ايران" أو "لا غزة ولا لبنان.. روحي فداء إيران".
3- التعرض للمزيد من العقوبات: من شأن هذه السياسة أن تضع إيران باستمرار تحت طائلة العقوبات التي تفرضها العديد من المنظمات والقوى الدولية، على نحو يفرض تداعيات مباشرة على المواطن الإيراني، الذي يعاني من ارتفاع معدل التضخم لأكثر من 40% وانهيار العملة الوطنية (تجاوز الدولار حاجز الـ60 ألف تومان في السوق الموازية خلال فترة التصعيد العسكري مع إسرائيل). وقد كان لافتًا أن القوى الدولية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، حرصت في الاتفاق النووي على "تعليق" العقوبات الأممية فقط، بما يعني أنه يمكن إعادة فرضها على إيران في مرحلة لاحقة، لاسيما في حالة ما إذا تم تفعيل ما يسمى بـ"آلية الزناد" snapback، وهو ما أقدمت عليه إدارة ترامب.
وقد بدا أن القيادة العليا في إيران ممثلة في المرشد الأعلى علي خامنئي والمؤسسات الرئيسية في النظام أقرب إلى الاتجاه الأول، على نحو كان له دور في تغيير توازنات القوى بشكل أكبر لصالحه، خلال انتخابات مجلسي الشورى الإسلامي وخبراء القيادة التي أجريت في أول مارس 2024.
فقد مارس مجلس صيانة الدستور سلطاته في إقصاء عدد كبير من مرشحي تيار المعتدلين من الانتخابات، كان أبرزهم الرئيس السابق حسن روحاني الذي رفض طلب ترشيحه لانتخابات مجلس الخبراء، رغم تاريخه السياسي الكبير؛ حيث تولى منصب رئيس الجمهورية لفترتين، وكان عضوًا في مجلس الخبراء لثلاث دورات متتالية (24 عامًا، حيث تمتد الدورة لثماني سنوات)، وكان قبلها أمينًا للمجلس الأعلى للأمن القومي.
وهكذا، نجح تيار المحافظين الأصوليين في السيطرة على معظم مقاعد المجلسين، وبدا أن جيلًا جديدًا من أقطاب المتشددين سوف يكون له دور في التفاعلات التي تجري على المستوى السياسي خلال المرحلة القادمة، على غرار نائبي مجلس الشورى محمود نبوي، وحميد رسايي.
رابعًا: تأثير التصعيد العسكري مع إسرائيل
بالتأكيد سوف يعزز التصعيد العسكري المباشر مع إسرائيل - الذي بدأ بعد أن وجهت الأخيرة ضربة عسكرية للقنصلية الإيرانية في دمشق، في أول أبريل 2024، وهو ما ردت عليه إيران بضربات عسكرية لأول مرة داخل إسرئيل في 13 من الشهر نفسه، وقامت الأخيرة بدورها بالرد المضاد بعد ذلك بستة أيام- من مكانة التيار المحافظ الأصولي، بل سوف يزيد من تأثيره خلال المرحلة القادمة، خاصة أنه يربط بين هذا التصعيد وبين وما يروج له من "مؤامرات" تحيكها أطراف داخلية بدعم من الخارج لتقويض دعائم النظام ونشر الفوضى في إيران، في إشارة إلى تيار المعتدلين واتهام بعض رموزه بدعم الاحتجاجات التي اندلعت في إيران بداية من منتصف سبتمبر 2022 واستمرت حتى بداية يناير 2023.
ومع ذلك، فإن تلك الاتهامات التي يوجهها تيار المحافظين الأصوليين إلى بعض أقطاب ورموز تيار المعتدلين، لم تعفهم من توجيه انتقادات مباشرة إلى التصعيد العسكري مع إسرائيل. فعلى سبيل المثال، كتب الصحفي الإصلاحي عباس عبدي مقالًا في صحيفة "اعتماد" (الثقة) الإصلاحية، في 14 أبريل 2024، تحت عنوان "الرد والرد المضاد كلاهما خطيران"، انتقد فيه السياسة التي تتبعها إيران إزاء إسرائيل، واعتبر أن الهجوم الإسرائيلي على القنصلية كان رد فعل- في إشارة ضمنية إلى الدعم العسكري الإيراني للمليشيات المسلحة التي انخرطت في مواجهات بمستويات مختلفة مع إسرائيل- ولم يكن يستوجب ردًا عسكريًا من إيران. وقد دفع ذلك المدعي العام في إيران إلى توجيه اتهامات لبعض المنتقدين للتصعيد مع إسرائيل بـ"تهديد الأمن النفسي للمجتمع".
ختامًا، يمكن القول إن الجدل داخل إيران حول التطورات التي تشهدها الأزمات الخارجية وموقع إيران منها سوف يتواصل خلال المرحلة القادمة، رغم السيطرة الواسعة لتيار المحافظين الأصوليين على معظم مراكز صنع القرار، وبالتالي سوف يمعن النظام في تبني سياسته التقليدية القائمة على توظيف ما تفرضه تلك الأزمات من تداعيات في إعادة ضبط توازنات القوى السياسية في الداخل بما يتوافق مع حساباته.
وما يعزز من ذلك هو أنه رغم سيطرة المحافظين الأصوليين على معظم مراكز صنع القرار، إلا أن النظام يبدو حريصًا على عدم السماح لتيار واحد بالانفراد بالسلطة. ومن هنا، وبدلًا من أن تكون معادلة توازنات القوى السياسية قائمة بين تياري المحافظين الأصوليين والمعتدلين، فإنها قد تكون قائمة داخل التيار الأول فقط، الذي قد يعمل النظام في المرحلة القادمة على تقسيمه إلى أجنحة سياسية متنافسة، لتبدأ مرحلة جديدة من توازنات القوى السياسية بين الجناح الأكثر تشددًا والجناح الأكثر مرونة داخل تيار المحافظين الأصوليين.