من الواضح أن الانقسام التقليدي بين الأمن القومي والأمن الإنساني أصبح غير كاف على نحو متزايد لمعالجة المجموعة المعقدة من التحديات التي تواجه المجتمع الدولي. وفي حين يركز الأمن القومي في المقام الأول على التهديدات التي تتمحور حول الدولة والدفاع العسكري، فإن الأمن الإنساني يؤكد على حماية الأفراد من مجموعة من التهديدات غير التقليدية، بما في ذلك الفقر والمرض والتدهور البيئي. ومع ذلك، يفشل كلا النهجين في استيعاب الطبيعة المترابطة للمخاطر الأمنية المعاصرة بشكل كامل، والتي غالبًا ما تكون عابرة للحدود ومتعددة الأوجه بطبيعتها. ومن خلال دمج رؤى الأمن الإيكولوجي، التي تؤكد على العلاقة الجوهرية بين الاستدامة البيئية ورفاهية الإنسان، تؤكد هذه الدراسة أن الفهم الأكثر شمولية للأمن ضروري لمعالجة المخاطر العالمية بشكل فعال. ويدرك هذا النهج أن الأمن لا يشمل حماية الدول من التهديدات الخارجية فحسب، وإنما يشمل أيضا تعزيز حقوق الإنسان الأساسية، والعدالة الاجتماعية، والقدرة على الصمود البيئي.
تسعى هذه الدراسة، من خلال تحليل أمثلة من الواقع الأفريقي للصراعات والأزمات البيئية وحالات الطوارئ الإنسانية، إلى توضيح الديناميكيات المعقدة الموجودة وتحديد الأنماط والاتجاهات التي تسترشد بها الأساليب البديلة للأمن. إن هناك حاجة ملحة إلى اتباع نهج لامركزي تجاه الأمن للتعامل مع عصر الأنثروبوسين (حيث يهيمن البشر على الطبيعة). وتتمثل الإضافة الأساسية هنا في طرح مفهوم الفضاء الأمني الواحد كمحاولة بديلة لفهم المخاطر العالمية المتزايدة.
تطرح الدراسة إشكالية تهديد المخاطر العالمية التي لا يمكن السيطرة عليها وتتجاوز حدود المكان والزمان. إذ لم يعد من الممكن أن تعزى المخاطر إلى الطبيعة أو المشيئة الإلهية فحسب؛ وبدلا من ذلك، فهي ترتبط بمسيرة التقدم البشري نفسه. في هذا العصر، يتحول مفهوم المخاطر إلى مفارقة: محاولة السيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه، وحساب ما لا يمكن حسابه. ويزيد صعود الإرهاب العالمي من تعقيد هذا السرد، ويتحدى مفاهيم الهوية والسيادة، في حين يتشابك مع المخاطر البيئية والمالية في فضاء واحد بالغ التعقيد يزيد من حالة عدم اليقين. وباستخدام مفهوم المخاطر يمكن التمييز بين ثلاث مقاربات أمنية:
الأولى، الأمن القومي: تميل الدراسات الأمنية التقليدية إلى إعطاء الأولوية للتفسيرات العسكرية للأمن قبل كل شيء. ويُنظر إلى القوة العسكرية، بما في ذلك حجم وقدرات القوات المسلحة للدولة، على أنها العامل الأكثر أهمية في ردع الخصوم المحتملين والحفاظ على الأمن القومي. وكثيرًا ما يؤدي هذا المنظور إلى التركيز على الحشد العسكري والردع الاستراتيجي باعتبارهما الوسيلة الأساسية لضمان أمن الدولة.
الثانية، الأمن الإنساني: بشكل عام، يهدف الأمن الانساني إلى تلبية الاحتياجات والاهتمامات الأساسية للأفراد، وضمان قدرتهم على العيش بكرامة وأمان، والقدرة على اغتنام الفرص. يتعلق الأمر بتهيئة الظروف التي يمكن للناس أن يحققوا إمكاناتهم، متحررين من خطر الفقر والعنف والتدهور البيئي. يحول الأمن الانساني التركيز من الأمن الذي يتمحور حول الدولة إلى أمن الأفراد ورفاهيتهم. ويركز الأمن الانساني على تمكين الأفراد والمجتمعات من معالجة نقاط الضعف وتحقيق المرونة.
المقاربة الثالثة والأخيرة، الأمن الإيكولوجي: يؤكد الأمن بهذا المعنى على أهمية الحفاظ على بيئة صحية وأنظمة بيئية مستدامة لضمان رفاهية الأجيال الحالية والمستقبلية، وهو يتناول التهديدات مثل تغير المناخ، وفقدان التنوع البيولوجي، والتلوث، واستنزاف الموارد، مع الاعتراف بالترابط بين المجتمعات البشرية والعالم الطبيعي.
وتشير الدراسة إلى مفهوم “الفضاء الأمني الموحد” الذي يؤكد على الترابط بين الأمن والتنمية والاستدامة البيئية في معالجة مخاطر القرن الحادي والعشرين التي تهدد السلام والرخاء. ويعترف فى هذا الصدد بأن الأمن والتنمية يعتمدان في نهاية المطاف على الحفاظ على بيئة طبيعية صحية وأنظمة بيئية اجتماعية مستدامة. وضمن هذا الفضاء الأمني الواحد، تتقاطع تحديات متنوعة ومحددة السياق، مما يتطلب جهودًا تعاونية عبر جميع قطاعات المجتمع ومستويات الحكم.
في عصر الأنثروبوسين، يعد فهم مجال عمل السياسة الأمنية أمرًا ضروريًا لمعالجة التحديات المتعددة الأوجه التي تواجه البشرية. ومن خلال تفعيل مفاهيم، مثل الأمن الإنساني والاعتراف بترابطها مع مجالات السياسة الأخرى، يستطيع صناع السياسات تطوير استراتيجيات أكثر شمولية وفعالية لتعزيز السلام والاستقرار والرفاهة في عالم متزايد التعقيد. سيكون التعاون والنهج المتعدد التخصصات أمرًا أساسيًا للتعامل مع التفاعل المعقد بين الأمن ومجالات السياسة الأخرى، مما يضمن مستقبل أكثر مرونة واستدامة للجميع.
تظهر دراسة الحالة الأفريقية أن إضفاء الطابع الأمني على تغير المناخ، الذي ينطوي على إدراكه باعتباره مصدر قلق أمنيًا، وليس مجرد قضية بيئية أو تنموية، يحظى بإجماع الباحثين وصانعي السياسات. إن الاعتراف بتغير المناخ كقضية أمنية يسلط الضوء على احتمال نشوب صراع ناجم عن الندرة المزمنة الناجمة عن تغير المناخ، أو الاستهلاك المفرط للموارد، أو مزيج من كلا العاملين. وقد تأثر هذا المنظور بالنماذج المالتوسية الجديدة التي تدرس العلاقة بين البشر والموارد، مع التأكيد على أن التأثيرات البشرية على البيئة تتضخم بسبب النمو السكاني المستمر، وأنماط الاستهلاك، والتقدم التكنولوجي. نتيجة لهذه التحليلات، فقد تم التوصل إلى أن ارتفاع معدلات النمو السكاني في أفريقيا وغيرها من المناطق النامية يمكن أن يقوض استدامة الموارد، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار والصراع.
إن المناقشات حول الأنثروبوسين ودراسات الأمن الدولي تفتقر إلى الارتباط بالعلوم الاجتماعية، مما يعيق الفهم الشامل للترابط بين المجالات الطبيعية والاجتماعية والثقافية. ردًا على ذلك، يدعو بعض المحللين إلى اتباع نهج شمولي في التعامل مع الأمن في عصر الأنثروبوسين، وتحدي الأطر التقليدية للأمن من خلال دمج الفئات الاجتماعية، والأنواع غير البشرية، والنظم البيئية كموضوعات مشروعة تستحق الحماية من التهديدات المتنوعة التي تتفاقم بسبب الأنشطة البشرية. يدعو هذا الأمر إلى تحول نموذجي نحو نهج أكثر شمولًا وحيوية في التعامل مع الأمن، نهج يعترف بالشبكة المعقدة من العلاقات بين البشر والبيئة في عصر الأنثروبوسين، ويعبر من جهة أخرى عن مصالح دول الجنوب العالمي.
تخلص الدراسة إلى إن العلاقة بين تغير المناخ والصراع في أفريقيا تعد بمنزلة دراسة حالة مقنعة لتطبيق اقتراب الفضاء الأمني الواحد. وبما أن تغير المناخ يؤدي إلى تفاقم الضغوط البيئية وندرة الموارد، فإنه يؤدي إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية القائمة والتوترات السياسية، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى صراعات عنيفة. من خلال تبني مفهوم متكامل للأمن، يعترف بالتفاعل المعقد بين العوامل البيئية والاجتماعية والسياسية، يستطيع صناع السياسات وضع استراتيجيات أكثر فعالية لمنع وإدارة الصراعات، وتعزيز التنمية المستدامة، وتعزيز القدرة على الصمود في المجتمعات الأفريقية.
علاوة على ذلك، تعكس جداول الأعمال البحثية الناشئة في الدراسات الأمنية الطبيعة المتطورة للمخاطر العالمية والتحديات الأمنية. من خلال دمج رؤى من تخصصات متنوعة، بما في ذلك العلوم البيئية وعلم الاجتماع والاقتصاد، يمكن للباحثين تطوير حلول مبتكرة للتحديات الأمنية المعقدة، وإرشاد عملية صنع السياسات القائمة على الأدلة.
صفوة القول، إن هذه الدراسة تؤكد على أن تطبيق الفضاء الأمني الواحد الجديد يوفر إطارا واعدا لمعالجة التحديات الأمنية المعقدة في عالم مترابط. ومن خلال الاعتراف بالترابط بين عوامل الخطر المختلفة واعتماد استراتيجيات أمنية متكاملة، يستطيع صناع السياسات تعزيز السلام والازدهار والاستدامة للأجيال الحالية والمستقبلية. مع ذلك، فإن تحقيق هذه الرؤية يتطلب العمل الجماعي والإرادة السياسية والالتزام ببناء مجتمعات مرنة وشاملة. لعل ذلك كله يتطلب الخروج عن إطار النموذج الغربي المسيطر بما يعكس ثقافات وشواغل دول الجنوب العالمي.