رحبت إيران فى مايو 2023 بأى خطوات دبلوماسية بناءة من شأنها تطوير العلاقات الرسمية مع مصر بما يؤدى إلى رفع مستوى التمثيل الدبلوماسى بين الدولتين إلى درجة السفراء. وجاء هذا الترحيب من أعلى مستوى سياسى/ دينى فى طهران؛ حيث صرح المرشد الأعلى على خامنئى بأن بلاده «ليس لديها أى مشكلة فى عودة العلاقات بشكل كامل مع القاهرة فى إطار التوسع فى سياسات حُسن الجوار». أيضًا، أعلن المتحدث الرسمى باسم الحكومة الإيرانية أن الرئيس إبراهيم رئيسى أعطى تعليمات لوزارة الخارجية الإيرانية باتخاذ جميع الإجراءات التى من شأنها تسهيل عملية إعادة العلاقات الدبلوماسية مع مصر إلى شكلها الطبيعى، وصولا إلى مرحلة التطبيع الكامل وتبادل السفراء، بعد قطع العلاقات الرسمية معها إثر توقيع مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979.
وكانت طهران قد فتحت مسارا للتقارب عبر قنوات دبلوماسية قامت بها دول عربية للتوسط بينها وبين القاهرة؛ كسلطنة عُمان والعراق وكلاهما تبنى محاولات دبلوماسية متعددة لتقريب وجهات نظر الطرفين تجاه القضايا الخلافية، لاسيما وجهة النظر المصرية؛ حيث تلقت القاهرة تلك المحاولات بقدر كبير من التروى والتريث دون الامتناع عن التفاعل مع المسار نفسه، وذلك من باب رسم الخطوط الرئيسية لطبيعة العلاقات التى ترغب مصر فى أن تلتزم بها إيران من ناحية، وتوضيح التحفظات المصرية العديدة تجاه تفاعلات إيران فى المنطقة، لاسيما تدخلاتها فى شئون عدد من الدول العربية ذات الأهمية للأمن الإقليمى المصرى من ناحية ثانية، فضلا عن تأثيرات طبيعة النفوذ الإيرانى فى بعض تلك الملفات على المصالح المصرية بصورة مباشرة من ناحية ثالثة.
بالرغم من اتجاه إيران إلى التهدئة الإقليمية مع خصومها فى المنطقة، وما نتج عن ذلك من عودة العلاقات بينها وبين السعودية خلال شهر مارس 2023، وما يعنيه ذلك بالنسبة لمصر التى تعتبر «أمن الخليج العربى» خطا أحمر، إلا أن مصر آثرت الاستمرار فى نهجها تجاه محاولات إيران للتقارب معها، والقائم على التريث وتقييم مدى استجابة إيران لوجهات النظر المصرية، لكنها فى الوقت نفسه أبدت قدرا من المرونة تجاه محاولات إيران المتعددة، فلم تغلق الباب أمام تلك المحاولات كليةً، ولم تفتحه على مصراعيه؛ حيث آثرت التأنى والانتظار ودراسة ما ستنتج عنه نتائج محاولات الوسطاء فى هذا الشأن. وقد تمثلت أولى خطوات تلك المرونة من جانب مصر بإعلان الحكومة، فى مارس 2023، فتح المجال أمام حركة السياحة الإيرانية إلى مصر بعد فترة انقطاع طويلة، وإن كانت قد ربطتها بشروط محددة. وقدمت القاهرة تلك الخطوة كبادرة على حسن نيتها كمرحلة أولى فى مسار دراستها لإمكانية إعادة العلاقات مع طهران.
يأتى استمرار حالة التأنى المصرية تجاه مساعى إيران لإعادة العلاقات إلى مستوى تبادل السفراء، بالرغم من «التغيير النسبى» فى سلوك طهران السياسى تجاه دول الخليج، ليدلل على أن القاهرة تولى أهمية قصوى لمصالحها الاستراتيجية العليا. وأن ما تشهده المنطقة من تداعيات مهددة للاستقرار والأمن تتطلب التعاون بين كافة القوى الإقليمية، والاستناد إلى آلية الحوار، وتسوية الخلافات، وتسكين العديد من الملفات الساخنة.
ونظرًا لأن مصر تعتبر الدولة العربية الأكثر انخراطا من الناحيتين التاريخية والدبلوماسية فى دعم القضية الفلسطينية عامة، وفى مسار المواجهات بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل فى قطاع غزة على وجه الخصوص، عبر سنوات طويلة مارست فيها القاهرة دور الوساطة الرئيسى فى كل مراحل المواجهات المسلحة بين الجانبين، فإن التطورات الراهنة، الناتجة عن الحرب الإسرائيلية على القطاع منذ أكتوبر 2023، باتت تمثل «فرصة إقليمية» لمزيد من التقارب بين القاهرة وطهران، أو على أقل تقدير تمثل فرصة للعمل المشترك -انطلاقا من دعم كلتا الدولتين للقضية الفلسطينية- نحو تهدئة مسار تلك الحرب ومحاولة البحث عن حلول لها، لاسيما الدور الذى تقدمه القاهرة كوسيط فى مفاوضات وقف إطلاق النار المأمول. واتساقًا مع هذه الرؤية، فقد رفضت القاهرة، انطلاقا من دورها الإقليمى، أن تكون جزءا من تحالف دولى بحرى تكون مهمته مواجهة النشاط الحوثى أو حتى تقويضه، رغم تضررها المباشر من تراجع حركة الملاحة فى البحر الأحمر وتأثيره على حركة التجارة عبر قناة السويس.
فى هذا الصدد؛ تقدم هذه الدراسة التى جاءت تحت عنوان «تطوير العلاقات المصرية - الإيرانية..المحفزات والتحديات» للأستاذة/ رانيا مكرم، الخبيرة المتخصصة فى الشأن السياسى الإيرانى والعلاقات العربية الإقليمية، وعضو وحدة الدراسات العربية والإقليمية بالمركز، تحليلا شاملا لمؤشرات التقارب الأخيرة بين مصر وإيران، وما تمثله من دلالات تجاه احتمالية عودة العلاقات البينية خلال المرحلة المقبلة، وحجم المكاسب التى ستحققها الدولتان حال تطبيع العلاقات الثنائية، مع استعراض مجموعة من العوامل التى تحفز هذا التقارب، لاسيما التطور فى السياقات الإقليمية الراهنة من ناحية، وسبل تحويل بعض العوائق لفرص يمكن أن تدفع مسار التقارب نحو مزيد من التفعيل من ناحية أخرى، بالإضافة إلى عرض تحليل معمق حول الأسباب التى تدعو القاهرة إلى التريث -حتى وقت كتابة هذه الدراسة- بشأن قرار رفع مستوى التمثيل الدبلوماسى مع إيران. أيضًا، تُختتم الدراسة بمجموعة من التوصيات والنتائج التى من شأنها تقديم خيارات وبدائل يمكن لمصر الارتكاز عليها فى التعامل المستقبلى مع إيران، لاسيما وأن مصر -وفقا للدراسة- لا تزال تضع السياسة الإيرانية فى مجملها موضع اختبار؛ لأنها المعنية بتغيير سياستها تجاه دول المنطقة.