تنمية الوعى الذاتى، وتطوير أدوات المدركات المصرية وتحفيز مرتكزات البناء الروحى والمادى للشخصية المصرية، متطلبات جوهرية للمحافظة على عمقها الحضارى فى القرن الحادى والعشرين ولكن تظل معضلة التكوين مرتهنة بالوعى بمسارات البناء والمطالب الثقافية المشتركة الجامعة بين الهوية والخصوصية، وبين منطلقات جديدة تحيط بمفاهيم وممارسات النقلة التكنولوجية الهائلة، والاتجاه نحو تغيير مفهوم الإنسانية ودور الإنسان.
منطلقات تجمع بين الجوانب الروحية والقيمية والفلسفية والعلمية، وتمس المنطق الذى ارتكزت عليه العولمة وما بعدها، وتلقى بنتائجها وتداعياتها على مجتمعاتنا التى تعانى من تقسيم وتشتت العقل الجمعى، وكثرة الفقاعات الاجتماعية، وفجوة الأجيال المتزايدة، والانبهار بالثقافة والنموذج الغربى، وضعف المكون الثقافى الذاتى القادر على الاشتباك مع الثقافات الأخرى، والتأكيد على جوهر الثقافة الإنسانية والمساحات التشابكية مع تلك الثقافات.
ولذا فإن الخوف والقلق والشعور بالتهديد لدى المواطنين، خاصة فى دول العالم النامى يعد طبيعيًّا، فهم مجرد مستهلكين ومادة تجارب فى معامل كبرى تقودها رأسمالية متوحشة عالمية، لا سيما مع تزايد المخاطر التى تهدد الطبيعة والعالم والأمان الإنسانى.
وإن كانت الثورة التكنولوجية الرابعة والخامسة القادمة، تسير نحو المزيد من ضبابية المنظور الحضارى الإنسانى، بتزايد دور وعمق ثقافة الآلة، وما تفرضه من تجاوز لأسس الفطرة الإنسانية والنوع (ذكر وأنثى) والتى قامت عليها الحياة، وإذا كانت حرب الإبادة فى غزة تتم لصالح مشروع استيطانى صهيونى دولى، نكون أمام أزمة حضارية وليس مجرد صراع بين قوى دولية ومحاولة احتلال أرض وتفريغها من أهلها، أو مجرد قفزة علمية لخدمة البشرية، ولكنا نكون أمام تحدِّ فرضته الحضارة الغربية، وتنافس قادم مع الحضارة الصينية، فى ظل غياب البديل الحضارى الخاص بنا.
وإن كان تعدد النماذج التحديثية والتنموية العالمية، من أمثال: الصين واليابان وإندونيسيا وماليزيا تطرح أيضا العديد من الجوانب التي يجب الاستفادة منها لبناء نموذجنا التنموى للقضايا، منها: قضية التنشئة الاجتماعية وعلاقتها بالمدارك القيمية والثقافية والتراثية، والشعور بالمواطنة وتلبية الاحتياجات الأساسية، وتوزيع ثمار التنمية وتنمية الوعى الإدراكى للقيم والتنوع الثقافى. وهى جميعا زوايا تجب دراستها لتجاوز معضلات الثنائيات الخاصة بالتقليد والحداثة، وهى الدين والعلمانية، والأصالة والمعاصرة.
أولًا: تناقضات التقليدية والحداثة
أفرزت الحداثة وعمليات التحديث العديد من المشكلات المتفاقمة التى تتعلق بعلاقة الفرد بالأسرة والمجتمع والدولة، بل بعالمه، وأصبحت مجتمعات المخاطر على المستوى المحلى والعالمى، مفتقده للكثير من القدرات التى تمكنها من إدارة المخاطر. فتنظيم المجتمعات الحديثة المنشغلة بالمستقبل والتقدم، استنفد العديد من مقومات التماسك المجتمعى ومتطلبات الأمن الاجتماعى، لصالح السيولة فى التفاعلات والإدراكات القيمية وتطور الحياة، وتزايد الخوف الناتج عن تراجع مسائل الأمن والحرية والمساواة، التى لا يصلح معها تغليظ العقوبات والقوانين فقط.
1- قلق الذات والهوية
انعكست تلك التناقضات بدورها، فى ملامح يمكن ملاحظتها بوضوح على المجتمعات النامية وتلك التى تعانى من الهشاشة الداخلية نتيجة تعددها العرقى والطائفى والثقافى، ونجد أن تعدد المداخل الثقافية وضعف مؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية، أدى إلى مظاهر ضعف واختلالات بنيوية كبيرة تمثلت فى تنامى العنف والأشكال الطائفية وتزايد الحديث عن الحقوق الثقافية وإدارة التنوع وخطابات الكراهية.
2- المخاطر المجتمعية
تتجلى بوضوح فى تغيير أنماط القيم الاجتماعية وقيم الأسرة والعائلة التى ساندت ودعمت الثقافة التقليدية، وحافظت على بنية المجتمع رغم ما أفرزته من تأثيرات سلبية تتعلق بضعف مؤسساته الحديثة، وتغليب العرف على القانون، وجمود وركود الحراك السياسى والاجتماعى والثقافى، وزيادة الاستقطاب، وانعكاسها على الخصائص السكانية وأنماط الاستهلاك.
ثانيًا: الفكر المصرى ومابعد التقليدية
تظل معضلة التكوين الفكرى الراهن قائمة لعدم تواصل عملية التحديث على مرتكزات فكرية وفلسفية وروحية مغلفة للتكوين الذاتى مع ما تتطلبه العلوم والمعرفة والتكنولوجية الحديثة.
والحقيقة إننا؛ لا نستطيع أن نلقى بالمسئولية على الثقافة التقليدية كقيد أو حاجز اصطدمت به عجلة التقدم والتنمية، ولكن هناك العديد من العوامل الداخلية والخارجية التى فرضت حالة الدفاع والخوف من التطوير وأضعفت القدرات الذاتية على امتصاص الثقافات الوافدة وصهرها فى السبيكة المصرية الداعمة للهوية المصرية الجامعة.ولذا تظل العلاقة بين الخصوصية ودرجة تطور المجتمع ودرجة تقبله للثقافة الواردة قائمة.
وتظل حالة التشتت بين ثقافة تقليدية غالبة تغطى بقشة من الثقافة الحداثية، ملمحا أساسيا يلقى بظلاله على أجيال أكثر اقترابا من مادية العصر والشعور بالذاتية والفردانية، لتتزايد المخاوف على مساحة الانسجام والتماسك التى توفرها الثقافة التقليدية حتى الآن، وهى مخاوف مشروعة تقابلها آمال مستندة لبعض الملامح الإيجابية التى تثيرها محاولة الفهم والتحقيق فى التراث والموروث، ودفع مسيرة بناء الدولة الحديثة وتقوية المجتمع أمام عمليات التخريب والإضعاف بفعل العوامل الخارجية أو من روافد التغذية الوجدانية والعقلية وجداليات النخبة وتنازعاتها الفكرية والإيديولوجية، وهنا يمكن التأكيد على أهمية التكوين الفكرى المصرى، والحاجة لارتباط المكون الروحانى والوجدانى بالمكون العلمى والمعرفة، وأن يمثل هذا الارتباط بتأثيراته المتبادلة خصوصية هذا المكون وموضوعيته للتعامل مع سبل المعرفة المتقدمة .
وهو ما يقودنا لروافد تشكيل العقل المصرى، وطبيعة الأوزان النسبية لتلك الروافد التى تتشكل من العلم والتعليم والمعرفة والعادات والتقاليد والسياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ومتطلبات التوافق على بناء نموذج تحديثى تنموى، فى ظل غلبة الثقافة التقليدية وتحولات مجتمعية حداثية ترتبط برؤية جيلية للمستقبل، وتضع أيضا عامل الوقت والزمن وطبيعة المرحلة الراهنة التى يمكن وصفها “بالانتقالية”. وفى ظل الحاجة للبعد عن مقايضة الإنجاز العلمى والمعرفى بالجذور الثقافية والحضارية، فثقافة الأمم وتراثها هى قاعدة البناء وإن كانت بعض جوانبها ساهمت فى التراجع والتأخر، فإن الانفصام على موروثنا الحضارى والثقافى والدينى سوف يزيد من عمق الأزمة الراهنة.
صحيح أن التراجع الحضارى والمساهمة فى التقدم أنتج أزمة العقل الجمعى وأصاب الوجدان والروح المصرية بكثير من الوهن عبر حقب تاريخية ممتدة، مما تسبب فيه أن نكون أمام عقول متعددة ومجتمعات منغلقة داخل المجتمع الكبير، ولكن عدم القدرة على استيعاب قيم الحداثة واختيار ما يفيد الأمة ويساعد على تميزها وتماسكها، وضعنا أمام قضايا متناقضة وشائكة تتعلق بتجديد التراث، ورفض الحداثة والنموذج الغربى، فى مقابل قطع الجذور ومحاولة اللحاق بالغرب.
وهو ما يقودنا إلى مجموعة من التساؤلات الممتدة التى لم تستطع النخبة المصرية وتياراتها الفكرية، الإجابة عليها أو تقديم نموذج معرفى قادر على الخروج من الثنائيات التى فرضت نفسها على الواقع المصرى، ومنها ثنائية الأصولية الدينية والحداثة الغربية وموقع الثقافة المصرية منها، والحقيقة إننا فى هذا العدد من “أحوال مصرية” لا نسعى للدخول فى الجدل الذى حكم التيارين الرئيسيين منذ بناء الدولة الحديثة، مابين تيار تنويرى حداثى يؤمن بالنموذج الغربى ويرى فيه حلم التقدم، وتيار إصلاحى تقليدى محافظ يحرص على التراث والموروث الثقافى والدينى ويؤكد على الهوية الإسلامية، ولكن ما نحرص عليه هو التأكيد على عدد من القضايا التى تثيرها سرعة التطورات والتحولات المجتمعية تحت تأثير التحولات العالمية والاضطرابات الإقليمية، والتى من شأنها ترسيخ التناقضات والاختلالات المجتمعية، ومنها:
1- الجمع بين التناقضات والقدرة على إدارتها والتعايش مع المتنافر: تبدو من الظواهر المتنامية التى لم تعد مرتبطة بشرائح وفئات اجتماعية معينة، وإذا ما أضفنا التحولات وسرعة إيقاعها مع جيلى” زد وألفا”، وما يضيفه من اتساق معظم أفكارهم مع عولمة المواطنة والثورة التكنولوجية والرقمية والقيم الحداثية، فإن محاولة القفز على التناقضات والتكيف أو التعايش فى فقاعات من شأنه أن يزيد الفجوات والشقوق داخل بنية المجتمع، لاسيما مع تآكل الثقافة التقليدية، دون التوافق على المشروع الثقافى المصرى الجامع ومرتكزات البناء وسبل إدارة التنوع.
2ـ القيم والأمن الاجتماعى: التغيير السريع فى إدراكات ووعى الأجيال الشابة، وعلاقتها بقصر أعمار الأجيال من 30 عامًا إلى 15 عامًا والتوقع أن تصل الى أربعة أعوام، تعنى ببساطة أن القدرة على هضم الأفكار والمتغيرات الاجتماعية رفاهية لم تعد متاحة، خاصة مع تزايد أدوات التواصل والتفاعل والاختراق الثقافى، وأن القدرة على الاستيعاب سوف تتوقف على صياغة حاضنة ثقافية واجتماعية مصرية قادرة على صهر الأفكار والمنظورات الجيلية للمستقبل، بعيدا عما فرضته الحداثة وما بعدها من تحديات مجتمعية كبرى فى الدول المتقدمة قبل النامية.
وهو ما يقودنا لأهمية النقاش المجتمعى والوقوف على عمق التحولات الثقافية والفكرية والقيمية المطلوبة وترتيب الأولويات لبناء النموذج التنموى الحداثى المصرى، وهنا يمكن التأكيد على:
1- الانطلاق من العمق الحضارى والثقافى المصرى المتنوع عبر التاريخ، كروافد دافعة للبناء الفكرى المصرى وانعكاساتها على الفكر والوجدان وملامح الشخصية المصرية. كمدخل لفهم المتغيرات والتحولات المجتمعية، وما يشهده من تعدد وتنوع ثقافى وقيمى ورؤى للمستقبل ومسار لبناء التيار الفكرى الرئيسى القادر على بناء التوافقات المجتمعية والدفع نحو التطور بآليات داعمة لتماسك البنية المجتمعية وما تحمله بين جوانبها من اختلالات وفجوات وشقوق.
2- لتفعيل العقل الجمعى المصرى، يجب استرجاع الكثير من المغذيات التى ساهمت فى بنائه والمحافظة على نشاطه وفلسفته المتطورة والقادرة على التعافى ومواكبة التقدم والتحضر، والوعى بالقوة الداعمة للتواصل الحضارى والقيم الإنسانية والحوار الثقافى وسبل التفاهم مع عمليات التحديث المستمرة والتى تؤكد تاريخيًّا ومرارًا ما يمتلكه المصريون من مخزون حضارى، قادر على مواجهة صدامات التحديث، وآخرها ما شهدته مرحلة بناء الدولة الحديثة من محطات للنهوض والتقدم.
3- التركيز على العقل الجمعى المصرى، وما يطرحه من فكر يتوافق مع المشروع الحداثى التنموى المصرى في القرن الحادى والعشرين، مما يعنى أهميته كأداة عقلية قادرة على استيعاب المتغيرات والتحولات والتحديات التى تمس الذات المصرية، والوعى بمتطلبات التطوير والتقدم.
4- تطوير الفكر وبناء تياره الرئيس ونخبته، هى عملية بناء يرتهن نجاحها بطرح القضايا المعاصرة التى تهم الإنسان المصرى وتساير العلوم الفكرية وتتجاوز حدود ثقافته التقليدية المقيدة منها.
بمعنى أدق، إن المزاوجة القائمة الآن بين ثقافة تقليدية غالبة تمثل الكتلة الصلبة فى المجتمع المصرى وبين كتلة سائلة حداثية تملأ الشقوق وتحل محل ما يذوب من الكتلة الصلبة، هى حالة قد ينظر إليها على كونها معبرة عن التطوير والتقدم، وقد ينظر إليها كخطر لغياب البوصلة، وعدم القدرة على إدارة هذا التطور أو التحول فى ظل صعود أجيال شباب تؤمن بثقافة العولمة، وجيل أصغر رقمى أكثر تشبثا ورغبة فى تغيير واقعه سواء بالهروب منه أو الصدام معه، وهو ما يشير للفجوة المتزايدة بين الأجيال حول منظومة القيم والثقافة والهوية، وإن كنا نتحدث عن أجيال حداثية ذات طابع عولمى تؤمن بالنزعة الفردية والحرية وتقلص سلطة المجتمع والدولة والميل للثقافة والنزعة الاستهلاكية، فإن عدم تجانس هذه الأجيال سوف يتزايد عما عاصرناه فى فجوات جيلية وداخل كل جيل، فمستويات التعليم المختلفة وما ترسخه من ثقافات متعددة وقيم، سوف تساهم فى زيادة التناقضات بين رؤى تقليدية ورؤى حداثية، ورؤى محافظة ورؤى تحريرية، ورؤى أصولية ورؤى معاصرة. ومن ثَمَّ سوف تتزايد حالة السيولة على حساب الحالة الصلبة بما يزيد من هشاشة المجتمع واختلالاته.