من الخامس إلى العاشر من شهر مايو 2024، قام الرئيس الصيني شي جين بينج بجولة أوروبية شملت كلاً من فرنسا وصربيا والمجر. هذه الزيارات جاءت بعد حوالي خمس سنوات من آخر جولة أوروبية قام بها الرئيس الصيني، وتأتي هذه المرة في سياق تطورات إقليمية وعالمية فرضت نفسها على مسارات التفاعلات التي تجري بين القوى الدولية، وفي مقدمتها الصين. فإلى جانب العلاقات الثنائية، كان ملفا الحرب الروسية في أوكرانيا والحرب الإسرائيلية في غزة حاضرين في مباحثات جين بينج في العواصم الثلاث.
75 عاماً: علاقات قوية بين الصين والمجر
جاءت زيارة الرئيس الصيني إلى المجر في ذكرى مرور 75 عاماً على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. ومجرد ذكر الرقم فإن ذلك يعني أن المجر اعترفت بالصين في نفس عام نجاح ثورتها 1949 ومن ثم أقامت معها علاقات دبلوماسية. وهذا يعني أن تاريخ العلاقات بين البلدين طويل وممتد. وإذا كانت ظروف حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الحرب الباردة قد وضعت البلدين في المعسكر ذاته، فإنه حتى بعد ما حدث من تطورات في المجر، ومن بينها انضمامها لكل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي (الناتو)، إلا أنها ظلت تحتفظ بعلاقات قوية مع الصين. ولا يخفى أن للمجر مواقف كثيرة لا تساير التوجه العام للاتحاد والحلف، ومن بينها الموقف من الحرب في أوكرانيا. كما أن المجر كانت من بين الدول المرحبة بمبادرة الحزام والطريق الصينية. بل إن هناك مشاريع تندرج ضمن هذه المبادرة، منها ما يربط بين عاصمتها وعاصمة صربيا. ومن ثم فإن الاستثمارات الصينية آخذة في التزايد في هاتين الدولتين. وقد أبانت الزيارة عن ترحيب مجري كبير بالمبادرات الصينية، واستعداد واسع للتعاون، مع رفض للكثير من التوجهات حيال الصين ليس فقط من قبل واشنطن وإنما من قبل مؤسسات الاتحاد الأوروبي والكثير من أعضائه. ومما تم الاتفاق عليه في الزيارة الأخيرة لشي جين بينج إلى بودابيست ترقية العلاقة بين الجانبين إلى مستوى شراكة استراتيجية شاملة. من ثم فلا عجب أن يعنون الرئيس الصيني مقاله الذي نشر في الصحافة المجرية بمناسبة الزيارة بـ"الشروع في رحلة ذهبية في العلاقات الصينية-المجرية"، حيث يتم البناء على خبرة الماضي من منظور استراتيجي ومستمر، حيث قال: "إن الصين على استعداد للبناء على الـ75 عاماً الماضية من علاقاتنا الدبلوماسية، والعمل مع المجر لوضع خطط عالية المستوى للعلاقات من منظور استراتيجي وطويل الأجل، والحفاظ على الزخم القوي للتفاعلات رفيعة المستوى".
60 عاماً: مقاربة فرنسية خاصة تجاه بكين
ستون عاماً مرت على إقامة العلاقات بين الصين وفرنسا. ولنا أن نتخيل وقع السلوك الفرنسي في حينه، حيث كانت الحرب الباردة على أشدها. ولم تكن الدول الغربية الكبرى تعترف بالصين، والأخيرة كانت محرومة من عضوية مجلس الأمن. إذا كان هذا القرار الفرنسي في حينه قد عبر عن استقلالية في إطار المعسكر الغربي، فإنه كان سبقاً لحق به الآخرون ضمن هذا المعسكر كما توقع شارل ديجول في حينه، والذي كان حريصاً على أن تستمع بلاده من الصين مباشرة والعكس.
هذه الاستقلالية في الماضي تظهر بعض تجلياتها في الحاضر أيضاً، حيث يبقى الصوت الفرنسي من بين الأقرب إلى الصين ضمن الأصوات الغربية التي تميل أكثر إلى المواقف الأمريكية فيما يتعلق بالنظر إلى الصين كتهديد ومن ثم كيفية التعامل معها. وهذا ما انعكس على توصيفات مؤسسات الاتحاد الأوروبي. حتى وإن كانت لم تتماهى تماماً مع الرؤية الأمريكية، لكنها تثير لدى الصين شكوكاً كثيرة. وكما ذكر وزير الخارجية الصيني وانج يي قبل شهر من جولة الرئيس شي إلى أوروبا، فإن توصيف الاتحاد الأوروبي لبلاده بأنها شريك ومنافس وخصم نظامي في الوقت ذاته أمر محير ولا يتفق مع الواقع. بل إنه قد ذهب إلى اعتبار ذلك بمثابة إضاءة لإشارات المرور بألوانها الثلاث، متسائلاً عن كيفية قيادة السيارة للعبور في هذه الحالة، والسيارة هنا دلالة على العلاقات بين الجانبين.
وبمناسبة الاستقلالية، فقد أثار الرئيس الفرنسي جدلاً واسعاً عند زيارته لبكين في أبريل 2023 في ظل تصريحات عدها البعض مبالغ فيها، وقد تتسبب في خلافات كبيرة ليس مع الولايات المتحدة فقط، بل ومع الشركاء الأوروبيين، خاصة وأن أورسولا فون در لاين رئيسة المفوضية الأوروبية كانت قد ألقت قبل زيارة ماكرون لبكين خطاباً متشدداً حول سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه الصين لدرجة أن البعض قد اعتبر الخطاب معبراً عن ستار حديدي جديد.
ولقد كانت لهجة فون دير لاين في لقائها الثلاثي مع ماكرون وشي في باريس في اجتماع مايو الأخير أكثر حدة أيضاً، وركزت على القضايا الخلافية أكثر من قضايا التوافق سواء أكانت جيوبوليتيكية أو اقتصادية أو حتى ما تعلق منها بقضايا التغير المناخي. وفي المجال الاقتصادي، اختارت ثلاث قضايا رئيسية أولها يتعلق بالدعم الذي تقدمه الصين لشركاتها، وثانيها يرتبط بالعدالة في التبادلات التجارية، وثالثها يتصل بدرجة الاعتماد على الصين في منتجات بعينها، ومنها الموارد النادرة. وقد تكثفت الأحاديث الأوروبية عن درجة الاعتماد الكبيرة على الصين أو بتعبيرات أخرى الانكشاف الأوروبي في ظل التعامل مع أزمة وباء كورونا. وكما هو معلوم تحذر الصين من استخدام هذه الحجج للسير قدماً فيما يسمى بفك الارتباط معها، وما يرتبط بذلك من قضايا من قبيل القدرة الإنتاجية المفرطة بالنسبة لها.
وعلى الرغم من تمايز الصوت الفرنسي، إلا أن باريس تبقى متوجسة من ممارسات صينية أيضاً، وتراقب ما تقوم به بعض الشركات الصينية توطئة لما قد يلحق ذلك من عقوبات قد تفرض على بعض هذه الشركات.
25 عاماً: خطوط حمراء جديدة
الرقم هذه المرة مرتبط بحادث وقع منذ ربع قرن، وكان ذلك في عاصمة صربيا عندما أصاب قصف حلف الناتو سفارة الصين في المدينة، وقتل فيها ثلاثة من الصحفيين الصينيين. هذا الحادث أكد الرئيس الصيني في زيارته الأخيرة إلى بلجراد بأنه لا يجب أن يطويه النسيان أبداً. ولهذا التصريح دلالات كثيرة من بينها أن حلف الناتو لا ينبغي أن يستمر في ممارساته التي تخل بالأمن الدولي من ناحية أولى. وأوضح مثال معاش لذلك يتمثل في الحالة الأوكرانية. ومن الدلالات أيضاً أنه لا يمكن للصين أن تقبل في هذا الوقت بتكرار مثل هذا الأمر حيال منشآت ومؤسسات تابعة لها أياً كان وجودها وأياً كانت المبررات التي تساق. أي أن الخطوط الحمراء الصينية لم تعد كما كانت في ظل تحول واضح في موازين القوى بعد هذه السنوات من تراكم منجزات التنمية، والتي انعكست ليس فقط على حياة المواطنين الصينيين في الداخل، وإنما على الدور الصيني في الخارج. ومن ذلك المبادرات المتوالية التي تقدمها بكين ليس فقط على الصعيد الاقتصادي وإنما على الصعيدين السياسي والأمني ومن ذلك مبادرة مجتمع مصير مشترك، ومبادرة الأمن العالمي. وقد أعلنت صربيا أثناء الزيارة الأخيرة لشي عن الانضمام إلى المبادرة الأولى، وهي التي كانت قد انضمت أيضاً لمبادرة الحزام والطريق.
وفي ظل الخلافات الكبيرة بين صربيا ودول الاتحاد الأوروبي والناتو، لا يخلو وصف الرئيس الصيني لعلاقة بلاده ببلجراد بالصداقة الحديدية من دلالات على الرغم من كل التحولات غير المسبوقة منذ قرن التي يشهدها العالم، حيث قال: "في ظل التحولات الراهنة التي لم يشهد العالم مثيلاً لها منذ قرن من الزمان، يظل دعمنا المتبادل قوياً كما هو دائماً، وتعاوننا أوثق، وتبادلاتنا والتعلم المتبادل بيننا أكثر جوهرية. ومهما كانت التغيرات التي تطرأ على المشهد الدولي، فإن الصين وصربيا تظلان صديقتين مخلصتين وشريكتين جيدتين. إن صداقتنا الحديدية تتنامى، وتشكل نموذجاً للتفاعلات بين الدول والشعوب". وبذلك تصبح صربيا أول دولة أوروبية تقيم مجتمع مصير مشتركاً مع الصين، وهي التي كانت الدولة الأولى من دول شرق ووسط أوروبا التي تقيم شراكة استراتيجية شاملة مع الصين. وكان ذلك عندما زارها الرئيس الصيني أيضاً في عام 2016. وفي حينه زار الرئيس الصيني واحداً من أكبر مصانع الحديد والصلب التي كانت قد توقفت عن العمل ثم عادت بجهود ومساعدات وخبرات صينية.
5 أعوام: جولة جديدة مختلفة
الرقم هذا يشير إلى مرور خمس سنوات على آخر جولة أوروبية للرئيس الصيني. ومبدئياً، قد تبدو الفترة الزمنية طويلة، لكن إذا أخذ في الاعتبار ظروف كورونا والتي جعلت معظم الأنشطة الدبلوماسية تتم عن بعد لفترة ليست بالقصيرة، يبدو الأمر أخف وطأة لكن في ذات الوقت يبدو أمر الجولة الأوروبية متأخراً قياساً بما حدث من زيارات خارجية للرئيس الصيني بما في ذلك زيارته للولايات المتحدة حتى وإن كانت لحضور قمة آسيا والباسفيك (آبيك). بيد أن من الملاحظ أن بكين وعلى الرغم من كل الشد والجذب في العلاقات مع الدول الغربية كانت محط زيارات الكثير من القادة الأوروبيين، ومنهم المستشار الألماني والرئيس الفرنسي.
لكن ما يلفت النظر في الجولة الحالية أنها لم تشمل دولاً كبرى في الاتحاد الأوروبي باستثناء فرنسا كما حدث في الجولة الماضية، والتي كانت قد ضمت زيارة إيطاليا. وفي روما كان الحدث الأبرز بإعلان الانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق، وهو الإعلان الذي قوبل بانتقادات أمريكية وأوروبية شديدة. ولاحقاً تعالت الأصوات داخل إيطاليا للتراجع عن هذه الخطوة. ويبدو أن الضغوط الخارجية، خاصة في ظل عضوية إيطاليا في مجموعة السبع التي باتت لها مبادرة مشابهة للمبادرة الصينية كانت هي العامل الحاسم في إعلان إيطاليا بعد شهور من الدراسة عن أن الأمر لم يعد أولوية بالنسبة لها، ومن ثم فإنها سوف تنسحب من المبادرة الصينية معتبرة أن ذلك قد جاء لأن الانضمام لم يحقق الأهداف المرجوة، وأكثر من ذلك ذهبت إلى أن الدول التي لم تنضم إلى المبادرة قد حققت نتائج أفضل. إذن فلا غرو أن يكون للدول التي ترحب بالمبادرة الصينية النصيب الوافر في جولة شي الأخيرة على عكس الجولة السابقة التي ضمت كلاً من إيطاليا وفرنسا وموناكو.
27 شهراً: حرب لم تنته بعد
الحرب الروسية-الأوكرانية كانت في شهرها السابع والعشرين عند قيام شي جين بينج بجولته الأوروبية الأخيرة. والجدل حول ما يمكن للصين القيام به في هذه الحرب من بدايتها لم يتوقف داخل القارة الأوروبية. وإذا كانت أوروبا أقل حدة في انتقادها للموقف الصيني من الولايات المتحدة، إلا أن ذلك لا ينفي وجود توجسات من التوجهات الصينية تجاه روسيا. ورغم هذه التوجسات ظل الطموح الأوروبي كبيراً في إمكانية قيام الصين بدور ما من أجل إيقاف هذه الحرب.
الرئيس الصيني لم يضف الكثير على موقف بلاده المبدئي والمعلن من هذه الحرب، واعداً بطبيعة الحال ببذل كل ما يمكن من أجل الوصول إلى تسوية سلمية لهذه الحرب، حيث أعاد التأكيد على أن بلاده ليست طرفاً في هذه الحرب. وفي نفس الوقت رفض إلقاء اللوم من قبل أطراف الحرب على أطراف أخرى، تماماً كما هو الرفض لأي وصاية من قبل أي دولة على علاقات دول أخرى. والمقصود هنا العلاقات الصينية-الروسية والتي تنامت كثيراً بعد الحرب. وقد استمع الرئيس الصيني لما يشبه الثناء فيما يتعلق ببعض الجوانب على هذا الصعيد، خاصة ما يتعلق بالشق النووي في السلوك الروسي. لكن بقى الرجاء في أن لا يزيد مستوى الدعم الصيني لروسيا في ظل إدراك أوروبي لضرورة التنسيق مع الصين في هذه الأزمة، وهو التنسيق الذي وصفه ماكرون بالحاسم.
بطبيعة الحال، تبقى لكل طرف قراءاته، فالصين التي قدمت خطوطاً عريضة لمبادرة سلام لا تقبل مطلقاً بأية قيود على علاقاتها مع روسيا. وهي وإن أكدت على عدم إمدادها موسكو بأسلحة وذخائر تستخدم في الحرب فإنها دائمة التأكيد على أن تلك الحرب لم تأت من فراغ، وأن من تسببوا فيها يواصلون إمداد أحد طرفي الحرب بالسلاح ليس فقط لإطالة أمدها بل من أجل تحقيق ما يسمونه هزيمة استراتيجية لروسيا. ومن ثم فإن كانوا يريدون السلام حقاً فعليهم تغيير هذا السلوك بدلاً من الاستمرار في توجيه الاتهامات للآخرين.
7 أشهر: غزة حاضرة في الجولة
مضت على الحرب في غزة سبعة أشهر في منتصف جولة شي الأوروبية الأخيرة. وقد كانت هذه الحرب حاضرة بقوة في المحطة الفرنسية. وبعيداً عن الدخول في تفاصيل الاختلافات بين الصين وفرنسا ومعها معظم دول الاتحاد الأوروبي من تلك الحرب، فإن اللافت أنه كان هناك بيان فرنسي-صيني خاص بالشرق الأوسط وفي القلب منه هذه الحرب تضمن مجموعة من النقاط المحددة. استهلت هذه النقاط بالتأكيد على مسئولية البلدين في سياق المحافظة على السلم والأمن الدوليين باعتبارهما عضوين دائمين في مجلس الأمن الدولي، واختتمت بالحث على الالتزام بالهدنة الأولمبية الشاملة وقت عقد دورتي الألعاب الأولمبية والبارالمبية الصيفيتين في باريس بعد شهرين من قمة الرئيسين. وتضمن البند الثالث من البيان إدانة كل ما يخالف القانون الدولي الإنساني، وكان هناك اعتراض صريح على عملية عسكرية في رفح لما سيحدثه ذلك من كارثة إنسانية مضاعفة، إضافة إلى الاعتراض على التهجير القسري للفلسطينيين. واشتمل هذا البند على مجموعة من النقاط الفرعية على رأسها الوقف الفوري والمستدام لإطلاق النار حتى يمكن للمساعدات الإنسانية أن تصل على نطاق واسع وحتى يمكن حماية المدنيين في القطاع. بالإضافة إلى الدعوة إلى الإطلاق الفوري وغير المشروط لسراح جميع الرهائن، مع ضرورة "احترام القانون الدولي فيما يتعلق بجميع المعتقلين"، والدعوة لتطبيق قرارات الأمم المتحدة المعنية بالحرب.
أما البند الرابع، فركز على أهمية فتح جميع المعابر من أجل الوصول السريع والآمن والمستدام للمساعدات الإنسانية، مع ضرورة تعزيز الجهود الإنسانية الدولية. في حين ركزت باقي البنود على أهمية التهدئة والعمل من أجل حل مستدام قوامه حل الدولتين، وفي السياق كانت إدانة السياسة الإسرائيلية على صعيد الاستيطان، كما لم يغفل الطرفان التأكيد على الحل السلمي للملف النووي الإيراني. كما برزت الخشية من تصعيد إقليمي وتأكيد على أهمية ضمان حرية الملاحة.
ختاماً، كانت تلك بعض التوقيتات وما يرتبط بها من مواقف ودلالات صاحبت جولة الرئيس الصينية الأوروبية الأخيرة. هذا المدخل الزمني هو أحد المداخل للتعامل مع هذه الجولة التي يمكن أن تتناول من مداخل أخرى أيضاً.
ويلاحظ على هذه الجولة أن المحطة الفرنسية لم يقتصر التركيز فيها على العلاقات الثنائية بين البلدين فقط، ولا حتى بين الصين والاتحاد الأوروبي، وإنما امتدت لتشمل قضايا عالمية، بينما كان جل التركيز في محطتي صربيا والمجر على قضايا ثنائية.
الرئيس الصيني خلال هذه الجولة عبر في رسائل واضحة عما توليه بلاده للقارة الأوروبية من أهمية. كما أنه أكد على أن أساس العلاقة ينبغي أن يكون التعاون والشراكة، مع ضرورة رفض العودة إلى الحرب الباردة ومن ثم التصرف بمنطق التكتلات. ولم يغفل الرئيس الصيني الإشارة إلى أهمية التعاون في بناء نظام عالمي جديد قوامه التعددية والعدالة بدلاً من الأحادية والهيمنة.
وبالعودة إلى المدخل الزمني في علاقات الصين بأوروبا، يلاحظ أن العام القادم سيكون قد مر خمسون عاماً على إقامة العلاقات بين الجانبين. فهل يمكن أن تكون هناك جولة أوروبية جديدة للرئيس الصيني في العام القادم؟، أم أنه سيستضيف بهذه المناسبة مسئولين من الدولة التي تتولى قيادة الاتحاد الأوروبي في حينه رفقة كبار المسئولين في المؤسسات الأوروبية؟. الأمر لا يرتبط فقط بالمسائل البرتوكولية ومستوى التمثيل وإنما بالأجواء التي يمكن أن تجري فيها مثل هذه اللقاءات، ومن ثم ما يمكن أن يتمخض عنها من نتائج ستنعكس على مستقبل علاقات الصين بالاتحاد الأوروبي.
وبالعودة إلى ألوان إشارات المرور التي استخدمها وزير الخارجية الصيني عند توصيف حالة علاقات بلاده مع الاتحاد الأوروبي، فإن الصين تدرك تماماً أن الاتحاد رغم كل الأشواط التي قطعها على صعيد توحيد سياساته، إلا أنه ما زال لكل دولة من دوله الأعضاء سياستها الخارجية المستقلة، وهناك تباينات قد تضيق وقد تتسع حسب القضايا المطروحة. ويدرك طرفا العلاقات أن المعادلات التي تقوم عليها قد تغيرت كثيراً، فالصين ليست هي الصين عندما اندلعت فيها أحداث تيانان مين نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، ولا هي الصين التي ضربت سفارتها في بلجراد نهاية تسعينيات القرن ذاته، ولا هي الصين التي كانت تصدر بخصوصها أوراق السياسات الأوروبية متضمنة في أغلبها قوائم من المطالبات. الأوروبيون يدركون أن الندية باتت هي الحاكمة، بل إنهم وفي بعض القضايا ولدى بعض مسئوليهم باتوا يتخوفون من التفوق الصيني، ومن ثم شعورهم بأن ميزان هذه الندية يميل لصالح بكين.
الصين تدرك كذلك أن أوروبا ليست فقط الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، حيث مازال في القارة الأوروبية دول خارج هذين الفلكين. وفي الوقت نفسه، فإن الصين قد نجحت في السنوات الأخيرة في خلق قنوات ربط مع أوروبا. هذه القنوات وإن كانت تبدو تقليدية عبر النقل البري ممثلاً في قطارات الشحن التي تربط كل المنطقة الأوراسية مروراً بآسيا الوسطى وجنوبي القوقاز. ولا يخفى مدى التنافس في المنطقة الأخيرة بين القوى الكبرى.
ليست أوروبا وحدها محط اهتمام الدبلوماسية الصينية، وإنما العالم كله شرقه وغربه وشماله وجنوبه. ولهذا دلالاته من حيث مصادر القوة، وكذلك من حيث سعى قوى أخرى لتحول دون توظيف هذه المصادر في ما تراه ضرراً بقوتها هي. وفي الوقت نفسه، هناك من يرحب بمصادر القوة الصينية لما في مصلحته والتي قد يراها مهددة من قوى أخرى مناوئة للقوة الصينية.