في مقال لمجلة "فورين بوليسي" عام 2010 بعنوان "حروب أفريقيا إلى الأبد"، كتب الصحفي الحائز على جائزة بوليتزر، جيفري جنتلمان، أن الحروب في أفريقيا لا يبدو أنها تنتهي أبدًا لأنها في الحقيقة ليست حروبًا بالمعنى التقليدي. والحجة الرئيسية التي يطرحها المقال هي أن العديد من الصراعات الجارية في أفريقيا مجرد مناوشات مسلحة لا طائل من ورائها بين أشخاص ليس لديهم فكرة واضحة عما يفعلونه.
غير أن المتوقع كالعادة هو صمت جنتلمان عن الدور الذي تلعبه الحكومات الأوروبية والشركات المتعددة الجنسيات التي تتخذ من عواصمها مقرًا لها، في إثارة الحروب في أفريقيا. وفي ظل هذا الموقف، فمن السهل أن نرى لماذا يكون الصراع في السودان أو أثيوبيا خارج جدول أعمال الأمم المتحدة. يطرح ذلك كله سؤالاً عن الدروس المستفادة للأفارقة من النظر إلى طبيعة النظام الدولي الراهن بقيمه الليبرالية التي تعجز عن حماية دول الجنوب العالمي وعلى رأسها أفريقيا. وهل يمكننا السعي حثيثًا نحو أفرقة النظام الدولي الذي يشهد تحولات كبرى منذ الحرب الأوكرانية؟، ولعل ذلك يرتبط بالتساؤل الثاني الذي يرتبط بآفاق المستقبل وموضع أفريقيا في عالم 2063 الذي يصبو إليه الاتحاد الأفريقي؟
كنت أحيانًا أتصور ونحن على مقاعد الدراسة أن ثمة قيمًا عالمية تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية وما يُطلق عليه القانون الدولي الإنساني. على أن التعمق في الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي الذي يفتقد إلى وجود حكومة عالمية جعلتني أصدق مقولة أن "القوة في النظام الدولي الراهن تخلق الحق وتحميه". في واقع الأمر هذه القيم انتقائية وليست عالمية من حيث التطبيق، وربما يتضح ذلك في الشئون الداخلية للدول التي تنادي بها. لقد بات واضحًا أن الدول الغربية ترفع شعار هذه القيم عاليًا إذا حققت مصالحها الوطنية أما إذا تعارضت مع أهدافها السياسية فإنها تغض الطرف عنها.
ولعل ذلك ما دفع البعض إلى القول بازدواجية المعايير في النظام الدولي. وفي هذا السياق، يمكن أن نشير إلى ثلاثة قضايا أساسية تحدد مدى إسهام أفريقيا في تشكيل النظام العالمي الجديد الذي بدأت تتضح معالمه من خلال صعود كل من الصين وروسيا أو حتى القوى الصاعدة الأخرى من الدول المتوسطة في سياقاتها الإقليمية.
أولاً: انتقائية المعايير
حينما ننظر إلى كثير من الحروب في أفريقيا والتي وصل بعضها إلى حد الإبادة الجماعية كما في رواندا، يتساءل المرء: أين مبدأ المسئولية من أجل الحماية وتطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني؟. يُطلق على النظام الدولي الحالي أنه قائم على القواعد. ويعكس هذا النظام، الذي أنشأته إلى حد كبير الولايات المتحدة وحلفاؤها في نهاية الحرب العالمية الثانية، مجموعة من القواعد والمبادئ المتعلقة بالأمن والاقتصاد والحكم العالمي. لقد سعى مهندسو نظام ما بعد الحرب إلى تقديم أفكار ومعايير تتوافق مع المصالح الأمريكية والأوروبية. ويتكون النظام القائم على القواعد من هيئات مؤسسية رسمية، مثل الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي، والتي تعمل على إضفاء الشرعية على هذه القواعد ودعمها، وتوفر منتدى لمناقشة النزاعات وتسويتها؛ ودور الدول الديمقراطية القوية في المساعدة في الحفاظ على النظام والدفاع عنه.
ومع ذلك، فإن متابعة هذا النظام الدولي الذي تغيب عنه صفة العدالة تجعلنا ندرك بسهولة أن الأفكار التي يُفترض أنها عالمية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والسوق الحرة والتعددية وما إلى ذلك ليست عالمية وأنها تتطبق بشكل انتقائي. لم تستطع مؤسسات النظام الدولي حماية الدول الضعيفة كما حدث أثناء غزو الولايات المتحدة وحلفائها لأفغانستان والعراق وليبيا أو قيام روسيا بغزو أوكرانيا. ولا أعتقد أن المنظمة الأممية تستطيع توفير الحماية للدول الأفريقية في حال قررت أي دولة أوروبية العدوان عليها. ولعل ذلك هو ما يدفع بعض الدول الأفريقية إلى تبني مقاربات أمنية بديلة مثل تحالف دول الساحل عام 2023 أو اللجوء إلى قوى دولية منافسة مثل روسيا أو الصين طلبًا للحماية.
ثانيًا: التحيز المعرفي والإعلامي
من الملاحظ أن دراسة فقه المؤشرات والمعايير الدولية مثل هشاشة الدول أو تصنيف الجامعات أو معايير المهنية الإعلامية تظهر مركزية أوروبية منحازة. ولعل مشاهد الهجوم على مبني الكابيتول في 6 يناير 2021 من قبل أنصار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لتغيير نتائج الانتخابات الرئاسية بالإضافة إلى اقتحام قوات الشرطة للحرم الجامعي في عدد من الجامعات الأمريكية لقمع التظاهرات الطلابية المؤيدة لغزة يمكن أن تدخل في وصف هشاشة الدول لو تحدثنا عن عالمية المعايير.
في الواقع، يتعين على البلدان الأفريقية أن تولي اهتمامًا جديًا للسلوك السياسي للهياكل التي يفترض أنها غير سياسية مثل وسائل التواصل الاجتماعي، والشركات المتعددة الجنسيات، والمنظمات الرياضية العالمية، ووسائل الإعلام الدولية، وحتى المنظمات الإنسانية العالمية. وعندما تدعو الحاجة، فإن كل هذه المؤسسات الدولية تلتحف بغطاء سياسي مكثف شأنها شأن المؤسسات والهياكل السياسية، إن لم تكن أكثر من ذلك. لقد استمرت سردية أفريقيا باعتبارها قارة ميؤوس منها على مر السنين. وعلى سبيل المثال، أشار توسان نوثياس، بجامعة ستانفورد، في تحليله لأكثر من 282 مقالاً ظهرت في الصحف البريطانية والفرنسية خلال الفترة بين عامي 2007 و2012، إلى وجود نمط فكري عام لتصوير أفريقيا من خلال مصطلحات مثل "الظلام" و"القبلية". ويلاحظ أن هذه المصطلحات لم تستخدم قط لوصف المجتمعات في الغرب.
إن الحالات والأمثلة العديدة التي سارعت فيها وسائل الإعلام الدولية إلى تصوير أفريقيا بشكل سلبي إنما تعكس العنصرية الخفية وتعبر عن نهج الاستعمار الجديد. إنها علامة واضحة على وجود جيل من وسائل الإعلام لديه عقليات محددة سلفًا تسترشد بسرد لا يعرفه إلا من كتب التاريخ المنحازة.
لقد قطعت أفريقيا خطوات هائلة في مجال الابتكار وأنتجت بعضًا من أكبر الرموز على مستوى العالم، إلا أن هؤلاء لا يحظون إلا بتغطية قليلة أو معدومة. ولعل ذلك يعكس عدم وجود توازن في تغطية الصحافة الغربية!
تدعي شركات التواصل الاجتماعي الحياد أو أنها تدعم الديمقراطية. ولكنها تظل منظمات غربية تعمل في خدمة المصالح السياسية والاقتصادية الأوسع للدول التي تأسست فيها. وفي أي معركة من أجل البقاء بين أي دولة أفريقية وأي قوة كبرى، لن يترددوا في الانحياز إلى الجانب الأقوى. وينطبق الشيء نفسه على الشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات الرياضية وجميع المنظمات غير الحكومية الدولية التي تعمل في المجال الإنساني.
ثالثًا: غياب الأجندة الأفريقية
على النقيض من السردية المهيمنة من قبل المؤرخين الأوروبيين، فإن المساهمات الاقتصادية والبشرية لأفريقيا شكلت عاملاً حاسمًا في الانتصار على ألمانيا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. ولم تكن نهاية الحربين بمثابة انتهاء عمليات نهب وسلب الموارد الاقتصادية لأفريقيا من قبل المستعمرين الأوروبيين. وينطبق الشيء نفسه على نهاية الاستعمار الفعلي الذي اتخذ شكلاً قانونيًا. إذ لا تزال الخزانة الفرنسية تتلقى أكثر من 500 مليار دولار سنويًا من المستعمرات الفرنسية السابقة في غرب إفريقيا نتيجة للترتيبات النقدية المستمدة من الاتفاقيات الاستعمارية.
وعلى الرغم من أن الصراع الحالي في أوكرانيا تدور رحاه في أوروبا، فإن هناك أدلة كافية على أن أفريقيا والأفارقة ليسوا أكثر من بيادق يمكن استخدامها والتخلص منها في السعي لتحقيق غايات الشعوب الأخرى. في بدايات الاندلاع الفعلي للحرب عندما زعمت روسيا أنها "اعترفت" باستقلال المنطقتين الشرقيتين لأوكرانيا، ألقى السفير الكيني لدى الأمم المتحدة، مارتن كيماني، خطابًا موجزًا ولكنه حماسي أدان فيه بحق محاولات روسيا لإعادة رسم خريطة أوكرانيا. وقارن كيماني ذلك الوضع بتجربة أفريقيا الاستعمارية المتمثلة في إعادة رسم الحدود والتعايش في مرحلة ما بعد الاستقلال مع هذه الحدود الموروثة. وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك حرب طاحنة بمقربة من كينيا تدور رحاها في إقليم التيغراي شمال أثيوبيا ولكن لم يتم إدراج هذا الصراع على أجندة الأمم المتحدة.
لقد صوتت الأمم المتحدة لصالح إدانة اعتراف روسيا بمنطقتين أوكرانيتين كدولتين مستقلتين، وبقوة أكبر لإدانة الغزو الروسي لجارتها أوكرانيا. ولكن هل صوتت الأمم المتحدة لصالح إدانة التمييز العلني ضد اللاجئين الأفارقة الفارين من أوكرانيا؟. مجرد بيان مقتضب بعد مناشدات قوية من الجمعيات الحقوقية. ولم يكن بوسع الاتحاد الأفريقي نفسه إلا أن يقول إنه "منزعج" من هذا التطور، وحتى بعد فترة طويلة من تحدث دول مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا ضده علناً.
ولعل الحرب في السودان تعطي مثالاً آخر على ما نقول. وعليه يتعين على الزعماء والشعوب الأفريقية أن تتعلم كيف تفكر وتتصرف بشكل استراتيجي لتحقيق مصالحها الخاصة في هذا العالم. إنها ليست ساحة لعب، بل ساحة نزال كبرى يسعى كل طرف إلى تعظيم مصالحه فيها.
وفي الختام، تقف أفريقيا عند منعطف حاسم في عملية إعادة تشكيل النظام الدولي. وبينما نتعامل مع تعقيدات ديناميكيات القوة العالمية والتطبيق الانتقائي للقيم العالمية، يصبح من الواضح بشكل متزايد أن الدول الأفريقية يجب عليها أن تؤكد قوتها ورؤيتها الإستراتيجية على المسرح العالمي. ومن خلال الاعتراف بالقيود المفروضة على الهياكل والمؤسسات القائمة، وعبر الانخراط بنشاط في الدبلوماسية والتعاون الاقتصادي والتعددية، تستطيع أفريقيا أن تمارس دورًا أكثر تأثيرًا في تشكيل مستقبل الحوكمة العالمية. إن تاريخ القارة الغني وثقافاتها المتنوعة ومواردها الهائلة يضعها كطرف فاعل محوري في تعزيز السلام والمساهمة بشكل مفيد في بناء نظام عالمي أكثر إنصافًا وشمولاً. ولعل ذلك كله يساعد في تحقيق أجندة 2063.