لا يبدو أن إيران انتهت بعد من قراءة المعطيات الاستراتيجية الجديدة التي فرضها التصعيد العسكري المباشر الذي جرى مع إسرائيل على مدار الفترة من 1 إلى 19 أبريل الحالي (2024)، وتأثيراته على المسارات المحتملة للتفاعلات بين طهران وتل أبيب خلال المرحلة القادمة.
إذ بدا لافتاً أن طهران ما زالت حريصة على الترويج إلى أن عملية "الوعد الصادق"- وهى التسمية التي أطلقتها على الهجمات التي شنتها ضد إسرائيل في 13 أبريل الجاري بواسطة الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز والطائرات من دون طيار رداً على الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف القنصلية الإيرانية في دمشق في أول أبريل الجاري وأسفر عن مقتل 7 من كوادر الحرس الثوري في مقدمتهم قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان محمد رضا زاهدي- ما زالت تفرض انعكاسات مستمرة داخل إسرائيل، التي ردت بدورها بعد ذلك بستة أيام داخل إيران وتحديداً في محافظة أصفهان.
من هنا، بدت طهران مصرة على الربط بين توقيت الاستقالات التي بدأت تعلن في الجيش الإسرائيلي- على غرار استقالة رئيس شعبة المخابرات العسكرية اهارون هاليفا في 22 أبريل الجاري وما يمكن أن يتبعها من استقالة رئيس هيئة الأركان هرتسي هليفي- وبين الهجمات التي شنتها على إسرائيل، رغم أن الأسباب الرئيسية التي يمكن أن تفسر ذلك تكمن في الإخفاق في توقع عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر الماضي والتعامل معها.
هذا الربط يوحي بأن إيران ترى أنها حققت مكاسب عديدة من الهجمات التي شنتها ضد إسرائيل في 13 أبريل الجاري، رغم أن هذه الهجمات تم التعامل معها ليس فقط من جانب الأخيرة، وإنما أيضاً من قبل دول غربية عديدة، في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، شاركت في صدها قبل أن تصل إلى أهدافها.
من هنا، كان لافتاً أيضاً أن المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي شبّه عملية "الوعد الصادق" بأنها مثل "عصا موسى"، حيث اعتبر- في أبيات للشعر من تأليفه- أن الصواريخ والطائرات من دون طيار التي أطلقتها إيران ضد إسرائيل أشبه بالعصا التي ألقاها موسى أمام سحرة فرعون فابتلعت ما سبق أن ألقوه من حبال وعصى.
ولم تنته القصة عند هذا الحد، بل إن بعض وسائل الإعلام الإيرانية انبرت ليست فقط في تكرار التشبيه نفسه، بل في الترويج إلى أنه إذا كانت العصا تشبه الصواريخ والمسيرات، فإن الدور الذي قام به خامنئي- باعتبار أنه أعطى الأوامر لتنفيذ الهجمات ضد إسرائيل- هو دور شبيه بما قام به موسى أمام فرعون وسحرته، بل إن وكالة أنباء "مهر" نشرت أبيات للشاعر ميشام رنجبر، رداً على أبيات خامنئي- بعنوان "أنت موسى لنا".
دلالتان رئيسيتان
هذا الربط المتعمد من جانب إيران يطرح دلالتين رئيسيتين: الأولى، أن إيران اعتبرت أنها تمكنت من تحقيق الهدف الذي سعت من أجله عندما شنت تلك الهجمات. فرغم أن الآلة الإعلامية الإسرائيلية والغربية، فضلاً عن تصريحات بعض المسئولين الإسرائيليين والأمريكيين، قللت من تأثير تلك الهجمات، في ظل مشاركة العديد من الدول الغربية في التصدي لها، إلا أن إيران في النهاية اعتبرت أن الأهم هو إثبات القدرة على الوصول إلى أهداف داخل إسرائيل.
وبمعنى أدق، فإن الهدف بالنسبة لإيران لم يكن تكبيد إسرائيل خسائر بشرية أو مادية، وإنما توجيه رسالة بأن لديها القدرة على تحقيق ذلك. وربما وضعت إيران ضمن حساباتها أن إسرائيل، والدول الغربية بالطبع، أدركت مغزى استخدام طائرات مسيرة استغرق وصولها إلى أهدافها أو على الأقل الاقتراب منها ساعات عديدة.
وهنا تكمن المفارقة، إذ ربما يمكن القول باطمئنان إن الهدف كان منح إسرائيل وحلفائها الفرصة للتصدي لها، لأن إيران لم تكن لديها رغبة في تسجيل خسائر لدى تل أبيب على نحو كان يمكن أن يدفعها إلى الرد بشكل أكبر بكثير مما جرى عليه الأمر في 19 أبريل الحالي.
والثانية، أن طهران قرأت الهجوم الذي شنته إسرائيل ضدها على نحو يتوافق مع رؤيتها وحساباتها، رغم أن هذا الهجوم المحدود كان يتضمن بدوره رسائل لا يمكن تجاهلها، خاصة فيما يتعلق بالقدرة على استهداف المنشآت النووية، التي يرمز لها مفاعل "ناتانز" لتخصيب اليورانيوم، الذي يعد أحد أهم أركان البرنامج النووي الإيراني برمته. فقد اعتبرت إيران أن إسرائيل تبدو حريصة بدورها على ضبط مستوى التصعيد وعدم تطويره ليتحول إلى حرب مباشرة وواسعة النطاق بينهما، بدليل أنها لم تعلن صراحة مسئوليتها عن الهجوم وتركت هذه المهمة لوسائل الإعلام.
هنا، فإن ربط إيران بين عملية "الوعد الصادق" و"عصا موسى" يواجه إشكاليات لا تبدو هينة. فرغم أن حرص إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية على التقليل من أهمية وتأثير الهجمات التي شنتها إيران في 13 أبريل الجاري قد لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، فإن هذه الهجمات في النهاية فرضت مفاعيل عكسية لم تتماهى مع حسابات طهران.
أهم هذه المفاعيل يتعلق بتشكل جبهة غربية مناوئة لإيران. فمع أن الخلافات بين إيران والدول الغربية ليست جديدة، بل إنها توسعت بشكل كبير خلال الفترة الماضية، خاصة بعد أن اتهمت الأخيرة الأولى بتقديم دعم عسكري إلى روسيا لمساعدتها على إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا، فإن مجرد إقدام إيران على شن هجمات داخل إسرائيل نفسها استنفر تلك الدول التي لم تشارك فقط في صد تلك الهجمات، على غرار بريطانيا وفرنسا، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية بالطبع، وإنما بدأت في بحث اتخاذ إجراءات أكثر تصعيداً ضد إيران، مثل الدول الأوروبية التي تجري نقاشات حالياً بشأن إمكانية إدراج الحرس الثوري على قائمة التنظيمات الإرهابية.
من هنا، بدأت اتجاهات داخل طهران نفسها تحذر من التمادي في تضخيم الضربات العسكرية الإيرانية ضد إسرائيل، بل إنها بدأت تدعو إلى تفعيل ما يسمى بـ"صواريخ الدبلوماسية" وليس "دبلوماسية الصواريخ"، عبر العمل على تعزيز فرص استئناف المفاوضات مع الدول الغربية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل الوصول إلى تسوية لبعض الخلافات العالقة، وفي مقدمتها الملف النووي.
وفي رؤية هذه الاتجاهات، فإن إنقاذ الاتفاق النووي عبر إبرام صفقة جديدة من شأنه أن يقلص من احتمالات اندلاع حرب مباشرة لم تعد مستبعدة في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة.
ورغم أن القيادة العليا في طهران، ممثلة في المرشد علي خامنئي، والمؤسسات الرئيسية في النظام لا ترفض هذا النهج، بل إنها باتت ترى أن الهجمات التي شنتها إيران ضد إسرائيل سوف تعزز موقعها التفاوضي في المستقبل، إلا أن ذلك لا ينفي أنها ما زالت في مرحلة قراءة المعطيات الجديدة التي فرضها التصعيد العسكري مع إسرائيل.
لكن هذه القراءة قد تفرض أكثر من نتيجة. فإما أنها ستقود إيران إلى تغليب الدبلوماسية بعد أن أدركت التداعيات التي يمكن أن يفرضها اندلاع حرب شاملة تشارك فيها بشكل مباشر. وإما أنها ستمعن في تبني المقاربة نفسها القائمة على الربط بين الهجمات ضد إسرائيل و"عصا موسى"، على نحو قد يُبقي كل الاحتمالات واردة في المستقبل.