شهدت الأيام الأخيرة تصعيداً نوعياً في الحراك الطلابي الداعم للقضية الفلسطينية في عدد من الجامعات الأمريكية الكبرى، وذلك في أعقاب قيام إدارة جامعة كولومبيا بقيادة المصرية الأمريكية مينوش شفيق باستدعاء قوات الشرطة لفض مخيم اقامه الطلاب داخل حرم الجامعة تضامناً مع أهل غزة، وقامت قوات الشرطة باحتجاز عدد كبير من الطلاب، كما قامت الجامعة بوقف عدد منهم عن الدراسة وأعلنت عن تعطيل الدراسة والتحول إلى الدراسة الافتراضية في محاولة لاحتواء الحراك المتزايد داخل الجامعة.
ولكن عوضاً عن احتواء الحراك الداعم لفلسطين، أدت هذه الإجراءات التعسفية من قبل إدارة جامعة كولومبيا إلى توسع الحراك الطلابي في جامعة كولومبيا وامتداده لعدد كبير من الجامعات الأمريكية الكبرى تجاوز الثلاثين جامعة ومنها جامعات النخبة الأمريكية مثل هارفارد وييل ستانفورد وام أي تي ومشيجين، حيث قام الطلاب في هذه الجامعات بنصب مخيمات شبيهة بتلك التي أقامها طلاب جامعة كولومبيا تضامناً مع طلاب كولومبيا من ناحية ومع القضية الفلسطينية من ناحية أخرى.
وقد شهد عدد من الجامعات الأمريكية منذ اندلاع أحداث 7 أكتوبر والعدوان الإسرائيلي على غزة تصاعداً ملحوظاً في الحراك الطلابي الداعم للقضية الفلسطينية في الولايات المتحدة، وأدى هذا الحراك الطلابي غير المسبوق إلى تحركات مضادة من قبل اللوبي الصهيوني والقوى الديمقراطية والجمهورية الداعمة لإسرائيل والتي اتخذت عدداً من الإجراءات في محاولة لتقويض وتجريم هذا الحراك، حيث تم إجبار عدد من رؤساء الجامعات الكبرى مثل هارفارد وبنسلفانيا على الاستقالة من مناصبهم، كما قام عدد من الممولين اليهود الكبار بسحب تمويلهم لهذه الجامعات، وقام سياسيون من اليمين واليسار بإدانة هذا الحراك والمطالبة بحظر التنظيمات الداعمة له مثل "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" وإدراجها كمنظمات داعمة للإرهاب.
ولكن التصعيد الأخير في عدد من الجامعات الكبرى يشير إلى أن محاولات تقويض الحراك الطلابي سوف تؤدي إلى نتائج عكسية وأن الحراك الطلابي الحالي والذي يتشابه في الكثير من جوانبه مع الحراك الطلابي ضد حرب فيتنام في الستينات مرشح للتصاعد والتوسع في الشهور القادمة والتي سوف تشهد انعقاد الانتخابات الرئاسية الأمريكية مما سوف يكون له تداعيات سلبية على فرص انتخاب الرئيس جو بايدن وعلى السلم المجتمعي في الولايات المتحدة في حال انتخاب الرئيس السابق دونالد ترامب، خاصة وأن الأخير معروف بمواقفه الأكثر انحيازاً لإسرائيل وباستعداده لتجييش قوى اليمين المتطرف وباستخدام القمع والعنف ضد معارضيه مما قد يودي إلى تصاعد نسب العنف في المجتمع الأمريكي بين أنصار إسرائيل من ناحية والداعمين للقضية الفلسطينية من ناحية أخرى.
تحولات الرأى العام الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية
شهدت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة وخاصة منذ العدوان الإسرائيلي على غزة وفلسطينيي الداخل عام 2021 تحولات مهمة في الرأي العام الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية، حيث أشارت استطلاعات الرأي إلى تزايد التأييد للقضية الفلسطينية وتراجع نسب التأييد لإسرائيل، خاصة في أوساط أنصار الحزب الديمقراطي وفي مقدمتهم الشباب والأقليات العرقية. وأشار استطلاع للرأي أجرته مؤسسة جالوب في مارس 2023 قبيل أحداث 7 أكتوبر إلى أنه في سابقة تعد الأولى من نوعها تجاوزت نسبة التأييد للقضية الفلسطينية في أوساط أنصار الحزب الديمقراطي نسب التأييد لإسرائيل بنسبة 49٪ مقابل 38٪، وهو تطور نوعي مهم في توجهات الرأي العام الأمريكي الذي انحاز بشكل كبير للسردية الإسرائيلية منذ تأسيس دولة إسرائيل عام 1948.
وقد أثرت عدة عوامل على توجهات الرأي العام الأمريكي، خاصة في أوساط الأجيال الأصغر سناً تجاه القضية الفلسطينية، وفي مقدمتها تراجع تأثير دور وسائل الإعلام التقليدية التي يسيطر عليها اللوبي الصهيوني وتصاعد تأثير منصات التواصل الاجتماعي والصحافة الشعبية، حيث أصبح معظم الشباب يحصلون على معلوماتهم من خلال هذه المنصات، وأتاحت لهم هذه المنصات فرصة الوصول إلى المعلومات بشكل مباشر من خلال متابعة النشطاء والصحفيين الفلسطينيين على الأرض.
وقد اتضح تأثير منصات التواصل الاجتماعي في العدوان الحالي على غزة، حيث تراجعت الثقة في وسائل الإعلام التقليدية بسبب انحيازها الفج للطرف الإسرائيلي ومحاولاتها التعتيم على الجرائم التي يرتكبها في غزة، بينما تصاعد تأثير الصحفيين والنشطاء الرقميين على منصات التواصل الاجتماعي وتجاوز المحتوى الداعم لفلسطين بشكل كبير المحتوى الداعم لإسرائيل على هذه المنصات، وذلك رغم كل المحاولات التي قامت بها الشركات المالكة لهذه المنصات مثل شركة ميتا من أجل حجب وتقويض المحتوى الداعم لفلسطين.
من ناحية أخرى، كان لتزايد نسبة التنوع العرقي في المجتمع الأمريكي في العقود الأخيرة وتصاعد أهمية قضايا العدالة العرقية دور مهم في تصاعد دور وتأثير الحركات الاجتماعية الممثلة للأقليات وللجماعات العرقية المهمشة مثل حركة "حياة السود مهمة"، وساهم ذلك في تزايد دور القوى التقدمية في المجال السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، مما كان له تأثير على تشكل رأي عام أكثر تعاطفاً مع المواقف الفلسطينية. وأدت التحولات التي يشهدها المجتمع الأمريكي نحو المزيد من التنوع العرقي إلى تصاعد كبير في دور الأقليات العرقية والقوى التقدمية الداعمة لحقوق هذه الأقليات داخل الحزب الديمقراطي مما ساهم في وصول عدد من النواب التقدميين من الشباب والنساء والأقليات الي الكونجرس الأمريكي ومنهم النائبة الهان عمر ذات الأصول الصومالية ورشيدة طليب ذات الأصول الفلسطينية وألكسندريا اوكاسيو كورتيز ذات الأصول اللاتينية، ولعبت تلك النائبات الذين عرفن باسم "الفريق" The Squad دوراً مهماً في طرح قضايا المساواة والعدالة العرقية داخل الكونجرس الأمريكي.
وقد مثل خطاب العدالة العرقية الذي هيمن على الحزب الديمقراطي وعاءً قابلاً لاحتواء المظلومية الفلسطينية بشكل سلس، حيث أن محنة الشعب الفلسطيني تتشابه في كثير من جوانبها مع محنة الشعوب الأصلية في القارة الأمريكية التي تعرضت للإبادة الجماعية من قبل المستعمر الأبيض. ومع اندلاع الحرب في فلسطين كان لتلك النائبات خاصة رشيدة طليب دور مهم في طرح السردية الفلسطينية في الكونجرس الأمريكي، ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة ودخوله مرحلة الإبادة العرقية تزايد عدد النواب الديمقراطيين المطالبين بوقف إطلاق النار، وفي آخر تصويت على حزمة المساعدات المالية لإسرائيل اعترض 37 نائب مقابل 173 نائب ديمقراطي على القرار وهو تحول مهم في السياسة الداخلية الأمريكية.
كذلك، كان لتراجع القوى اليسارية والليبرالية والعلمانية في المجال السياسي الإسرائيلي وهيمنة القوى اليمينية المتطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو على المجال العام في إسرائيل دور في تراجع شرعية وشعبية إسرائيل في أوساط أنصار الحزب الديمقراطي الأمريكي، حيث أن اليسار الإسرائيلي في العقود السابقة كان قادراً على تصدير صورة لإسرائيل كـ"واحة من الليبرالية والديمقراطية والتقدم في محيط من التطرف والإرهاب والتخلف". وكذلك نجحت هذه القوى في تصدير صورة لإسرائيل كـ"الشريك الحريص على تحقيق السلام مع الطرف الفلسطيني ولكن التعنت والتطرف والانقسام الفلسطيني هو الذي حال دون تحقيق السلام وحل الدولتين". ولكن مع تصاعد قوى اليمين المتطرف في المجال السياسي الإسرائيلي وتراجع دور اليسار العلماني بشكل كبير ومع رفض اليمين المتطرف لتأسيس دولة فلسطينية وسعيه للاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية، أصبح من الصعب تصدير هذه الصورة المثالية عن إسرائيل وأدت أحداث العدوان المتتالية على الشعب الفلسطيني وخاصة بعد أحداث 7 أكتوبر إلى كشف الوجه الاستعماري والعنصري للمشروع الصهيوني.
أخيراً، هناك انطباع عام لدى قطاع مهم من الرأي العام الغربي بأن العدوان على غزة كشف وفضح الحقيقة العنصرية والاستعمارية للدول الغربية، وأن هذه الدول تلتزم بمبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان كوسيلة لتحقيق أطماعها السياسية والاستعمارية، ولكن حين تتعارض هذه المبادئ مع مصالحها فإن هذه الدول تتجاهل هذه المبادئ بشكل فج كما فعلت في حالة العدوان الحالي على غزة وقد أدى استمرار الدعم العسكري والمالي لإسرائيل رغم جرائمها المتتالية إلى انتشار شعار Not In Our Name أو "ليس باسمنا" في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في أوساط التنظيمات اليهودية الرافضة للمشروع الصهيوني والانتهاكات الإسرائيلية.
تصاعد الحراك الداعم للقضية الفلسطينية في الجامعات الأمريكية
بعد أحداث 7 أكتوبر، ولفترة وجيزة، كان هناك تعاطف واسع مع إسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على عزة وتهجير 2 مليون فلسطيني واستهداف المدنيين والأطفال وتدمير البنية التحتية بشكل واسع، بدأ هذا التعاطف يتراجع حتى وصل إلى أدنى درجاته في مارس 2024 حين أشارت استطلاعات الرأي إلى أن 55٪ من الأمريكيين يعارضون استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة.
ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، بدأت العديد من المجموعات في الولايات المتحدة الأمريكية في التحرك للمطالبة بوقف إطلاق النار وتشكلت كتلة واسعة ضمت أمريكيين من أصول عربية وإسلامية وتنظيمات يهودية داعمة للسلام وحركات اجتماعية تقدمية لمعارضة الحرب الإسرائيلية في فلسطين وتركز الحراك الداعم لفلسطين على فعاليات احتجاجية في الأماكن العامة في عدد من المدن الأمريكية، حيث تم تنظيم التظاهرات واحتلال الطرق والمحطات والمطارات وتعليق اللافتات ومهاجمة السياسيين الداعمين لإسرائيل خلال فعاليات انتخابية ونيابية. ووفقاً لبعض التقديرات، فقد شارك حوالي مليون أمريكي في مثل هذه الفعاليات المختلفة في الشهور السابقة.[i]
وامتد هذا الحراك إلى الجامعات الأمريكية، حيث نشطت مجموعات مثل "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" Students for Justice in Palestine SJP في العديد من الجامعات الأمريكية وقاموا بإصدار بيانات للمطالبة بوقف إطلاق النار وبوقف الدعم الأمريكي لإسرائيل وبتنظيم استفتاءات طلابية للمطالبة بمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات الجامعية في الشركات الداعمة لإسرائيل، وفي الأيام الأخيرة قام الطلاب في أكثر من ثلاثين جامعة أمريكية بإقامة مخيمات داخل حرم الجامعات للتضامن مع فلسطين.
وأثار الحراك الداعم لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية الكبرى والتي تضم أبناء النخبة الأمريكية وقادة الغد استياءً واسعاً داخل الدوائر السياسية والاقتصادية الداعمة لإسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكية، وقامت هذه القوى باتخاذ العديد من الإجراءات في محاولة لتقويض هذه الحراك، حيث تم وصم هذا الحراك بأنه معادٍ للسامية وداعم للإرهاب وقام أعضاء في الكونجرس الأمريكي في ديسمبر 2023 باستجواب رؤساء جامعات هارفارد وأم أي تي وبنسلفانيا، مما أدى إلى استقالة رئيستي جامعتي هارفارد وبنسلفانيا، كما قام الكونجرس في أبريل 2024 باستجواب رئيسة جامعة كولومبيا، وقام العديد من الممولين الكبار من اليهود الأمريكيين بسحب المنح المقدمة للجامعات الأمريكية بسبب هذه الحراك.
وتحت وطأة هذه الضغوط، قامت إدارات هذه الجامعات بمحاولات لحظر التنظيمات الطلابية الداعمة لفلسطين مثل SJP وفصل الطلاب المشاركين في أنشطة هذه التنظيمات، وفي الأيام الأخيرة تم تصعيد الهجوم على الحراك الطلابي من خلال استدعاء قوات الشرطة في جامعة كولومبيا والعديد من الجامعات الأخرى وذلك بهدف فض المخيمات التي أقامها الطلاب، كما قام الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي والعديد من أعضاء الكونجرس الأمريكي بإدانة هذا الحراك بوصفه معادٍ للسامية وداعم للإرهاب.
ولكن هذه الإجراءات أدت إلى نتائج عكسية، حيث امتد الحراك الطلابي ليشمل عشرات الجامعات الأمريكية الكبرى وليقوم الطلاب في هذه الجامعات بنصب المخيمات للتضامن مع غزة ولتمتد المواجهات العنيفة مع قوات الشرطة إلى عدد كبير من الجامعات. كما اتسع الحراك الجامعي ليشمل أساتذة الجامعات والفنانين والنشطاء التقدميين الذين توافدوا على الاحتجاجات الطلابية للتضامن مع الطلاب ليصبح الحراك الطلابي في قلب الحراك المناهض للعدوان الإسرائيلي على فلسطين ليتشكل مشهداً شبيهاً بالحراك الطلابي المناهض للحرب في فيتنام في منتصف الستينات والذي ساهم بشكل كبير في الضغط على الساسة الأمريكيين من أجل إنهاء هذه الحرب.
التداعيات المحتملة
رغم كل الإجراءات التي اتخذتها النخبة الأمريكية الداعمة لإسرائيل لتقويض الحراك الطلابي، إلا أن هذا الحراك من المرشح أن يستمر وأن يتمدد ليشمل عدداً أكبر من الجامعات وعدداً أكبر من الطلاب في الفترة القادمة، ويمكن لهذا الحراك أن يؤثر بشكل سلبي على فرص نجاح جو بايدن في الانتخابات الرئاسية القادمة، حيث يشكل الشباب والأقليات العرقية في المجتمع الأمريكي جزءً مهماً من القاعدة الانتخابية للحزب الديمقراطي.
ولكن من ناحية أخرى، فإن نجاح ترامب في الانتخابات القادمة قد يؤدي إلى تصاعد المواجهات بين القوى الداعمة لفلسطين داخل وخارج الجامعات الأمريكية وبين قوات الشرطة والقوى اليمينية المتطرفة في المجتمع الأمريكي، مما سوف يعمق حالة الاستقطاب ويهدد السلم المجتمعي في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة وأن ترامب معروف بدعمه الأوسع لإسرائيل وباستعداده لاتخاذ إجراءات تصعيدية في مواجهة خصومه. وقد أعلن ترامب في العديد من المناسبات أنه في حالة انتخابه سوف يتخذ إجراءات صارمة ضد القوى الداعمة لفلسطين مثل طرد الطلاب العرب والمسلمين من الولايات المتحدة الأمريكية وانتزاع الجنسية الأمريكية منهم وتصنيف التنظيمات الداعمة لفلسطين كتنظيمات إرهابية.
لكن رغم ذلك، فإن تصاعد الحراك الداعم لفلسطين قد يؤدي إلى تزايد الضغوط السياسية والانتخابية على الساسة الأمريكيين لاتخاذ مواقف مغايرة تجاه إسرائيل، خاصة وأن هناك تحولاً يحدث داخل تيار اليمين الشعبوي الداعم لترامب تجاه إعادة النظر في مكانة إسرائيل والمشروع الصهيوني في ضوء حرب الإبادة الراهنة.