على هامش التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل والرد والرد المقابل خلال الأسبوعين الماضيين، عاد حزب الله إلى واجهة الأحداث بتنفيذ عملية نوعية، في 17 أبريل الجاري (2024)، ضد مقر سري لاستخبارات اللواء الغربي بالجيش الإسرائيلي في قرية عرب العرامشة الحدودية. وقد أسفر الهجوم عن إصابة نحو 18 من جنود الاحتياط، منهم 4 إصابات خطيرة قبل أن يتم الإعلان عن مقتل ضابط احتياط برتبة رائد[1].
سبّب هذا الهجوم هلعاً كبيراً في الشمال الإسرائيلي الأسبوع الماضي بسبب دقته وازدواجيته، حيث نُفذ بالصواريخ والطائرات المسيّرة معاً، مما أوقع الكثير من الإصابات، فضلاً عن عنصر المفاجأة، خاصةً أن صافرات الإنذار التحذيرية لم تعمل قُبيل الهجوم كما هو معتاد. وكان حزب الله قد فجر قبل يومين من هذا الهجوم ألغاماً أرضية مستهدفاً قوة من لواء غولاني كانت قد تخطت الحدود المشتركة ودخلت إلى لبنان يوم الاثنين 15 أبريل، مما أدى إلى إصابة 4 جنود[2].
فيما ردت إسرائيل، في 23 أبريل، بقصف استهدف طريق عدلون وأسفر عن اغتيال قيادي ميداني جديد في حزب الله تزعم أنه مسئول وحدة الدفاع الجوي في الحزب، بينما رد الحزب بتوجيه قصف إلى مقر لواء غولاني ووحدة إيغوز بالقرب من عكا بهجوم مسيّرات أصابت أهدافها. وإذ لم تعلن إسرائيل عن خسائر نجمت عن استهداف عكا، قتل القصف الإسرائيلي على بلدة حانين سيدة وطفلة وأوقع إصابات في صفوف المدنيين. فيما وجه حزب الله، رداً على مقتل المدنيين في حانين، هجوماً بالمسيّرات على مرغليوت أصاب القطاع الكهربائي فيها وأدى إلى انقطاع التيار[3].
دلالات ورسائل هجوم عرب العرامشة
أراد حزب الله من هجوم عرب العرامشة توجيه عدة رسائل للجانب الإسرائيلي أبرزها أن لبنان ليس الحلقة الأضعف في التراشق الإسرائيلي-الإيراني. فخلال الأيام التي تلت الرد الإيراني واستعراض خيارات إسرائيل في توجيه رد مقابل دون أن يتسبب في إشعال حرب شاملة، برز خيار توجيه الرد على إيران على الساحة اللبنانية. ومن هنا أراد حزب الله توجيه ضربة نوعية تنفي عن لبنان صفة الهدف السهل الذي يمكن الاستعاضة به عن استهداف إيران، فكان الهجوم على مقر استخباراتي سري تم استحداثه حديثاً في المنطقة الحدودية بين البلدين وتم تنفيذ الضربة ابتداءً بطائرة مسيّرة استطاعت خداع منظومة القبة الحديدية والتسلل في شمال إسرائيل دون أن تطلق صافرات الإنذار[4].
إذ كشف هذا الهجوم عن القدرات المتصاعدة لحزب الله في الحصول على معلومات دائمة التحديث عن المقرات العسكرية الإسرائيلية المستجدة في الشمال، فضلاً عن قدرته على تطوير طائراته المسيّرة لتنفيذ مهام قتالية وليست استطلاعية فحسب. فمسيّرات الحزب أصبحت تصنف إما استطلاعية أو هجومية أو حتى مسيّرات إشغالية لإرباك الرادارات العسكرية حتى تصيب المسيّرات الهجومية أهدافها. ويتميز هذا النوع من الطائرات الخفيفة التي استخدمها حزب الله بقدرته على خداع الرادارات العسكرية والالتزام بالمسار المبرمج سلفاً لاعتماده على نظام ملاحة مستقل دون الحاجة للاتصال الخارجي لإعادة توجيه المسار إلى الموقع المستهدف[5]، بما يعني أن الفريق القائم على توجيه هذه المسيّرات على درجة تقنية كبيرة ونجح في استغلال ثغرات القبة الحديدية وتنفيذ هجمات موجعة.
فيما يرى آخرون أن هجوم عرب العرامشة منفصل بالكلية عن سياق تبادل الرد بين إيران وإسرائيل، على اعتبار أن الرد الإيراني على إسرائيل قد جاء مكتملاً وناجحاً ولا يلزمه مشاركة من حزب الله من الجبهة اللبنانية. بل إن هجوم عرب العرامشة هو استكمال لمعركة "إسناد ودعم" غزة عبر الحدود اللبنانية ويخضع لنفس قواعد الاشتباك المتبعة بين الطرفين، ولكنه جاء في سياق الرد على اغتيال عدد من مقاتلي حزب الله خاصة في "عين بعال" و"الشهابية"[6].
فقد نجحت إسرائيل خلال الأسابيع الماضية في استهداف عدد من العناصر الميدانية لحزب الله، فيما تم الترويج له باعتباره انكشافاً للبنية الميدانية لحزب الله وفقدانه القدرة على ضبط أدائه الهجومي في الجنوب. فجاء هجوم عرب العرامشة ليثبت استمرار قدرة حزب الله على توجيه ضربات مباغتة وموجعة بالاستناد على تكنولوجيا تستطيع خداع تكنولوجيا الدفاع الجوي الاسرائيلية وإحداث فجوات مقلقة فيها.
توازن حذِر لعدم خرق قواعد الاشتباك
ورغم هذا الهجوم النوعي، يحرص حزب الله على عدم التصعيد الكلي على جبهة لبنان الجنوبية، فهو يعيد ترتيب مشهد قواعد الاشتباك بدقة كي لا تنزلق الأوضاع بشكل منفلت إلى حرب موسعة. فضربات القرى الحدودية الجنوبية يتم توجيه ضربات مقابلة لها للمواقع العسكرية الإسرائيلية الشمالية، والضربات التي توجه إلى قرى البقاع يتم الرد عليها برشقات صاروخية تطال إصبع الجليل والجولان على حد سواء، بينما استهداف عناصر حزب الله الميدانيين يتم الرد عليه باستهداف مقابل لتجمعات جنود ضمن المقرات العسكرية على طول الحدود المشتركة. فيما استهداف المدنيين في جنوب لبنان يتم مقابله قصف مرافق شبه مدنية تخدم المقرات العسكرية في شمال إسرائيل. والأهم من ذلك هو المحافظة على وتيرة مستقرة من تبادل القصف على مختلف محاور الجبهة الحدودية بين البلدين بما يوحي أنه روتين مستقر على هامش الحرب الدائرة في غزة.
وكان لافتاً أن هجوم عرب العرامشة جاء بعد يومين فقط من محاولة تسلل قوة من لواء جولاني إلى داخل الأراضي اللبنانية حيث تم تفجيرها بعبوات ناسفة كانت معدة سلفاً تحسباً لتسلل من هذا النوع. ورغم أن محاولة التسلل تلك لم تحظ باهتمام إعلامي كبير، إلا أنها كانت على ما يبدو بالون اختبار لمدى جهوزية عناصر حزب الله على الحدود. بينما حزب الله نفسه لم يبالغ في الترويج لإحباط محاولة التسلل تلك وأعلن عن الأمر في إطار البيانات الروتينية التي تصدر عن كل عملية ينفذها.
ولكن هجوم حزب الله الأخير على عرب العرامشة سلّط الضوء على حقيقة الانكشاف الذي يعاني منه الجيش الاسرائيلي في الشمال. فإذا كان الهجوم الإيراني قد تم التحسب له وأُسقطت أغلب المسيرات والصواريخ الإيرانية بمساعدة حلفاء إسرائيل، فإن مسيّرات حزب الله ذات المدى القصير كانت قادرة على اختراق القبة الحديدة في الشريط الحدودي بسهولة كبيرة، وهو ما يُخشى معه من تنفيذ هجمات أوسع من مسيّرات مشابهة في العمق الإسرائيلي، خاصةً أن مدى بعض المسيّرات لدى حزب الله قادر على بلوغ صحراء النقب إذا ما أطلق من أدنى نقطة في الجنوب اللبناني.
ومن هنا تأتي الرغبة الملحة لدى لإسرائيل بإبعاد حزب الله إلى شمال نهر الليطاني في الجنوب اللبناني لتتقلص قدراته على إصابة مختلف الأهداف الإسرائيلية، ولكن أيضاً كي يتمكن سكان المستوطنات الشمالية من العودة إليها. ولكن خطة اليوم التالي الخاصة بلبنان لا تزال متعثرة وتتوقف بالأساس على نجاح جهود وقف إطلاق النار بغزة أولاً طبقاً لشروط حزب الله بالارتباط بين جبهتي غزة وجنوب لبنان.
استئناف خجول لجهود الوساطة على جبهة لبنان
كان البحث في خطط اليوم التالي على الجبهة اللبنانية مطروحاً في لقاء رئيس الحكومة اللبناني نجيب ميقاتي والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في 19 أبريل الجاري، قبل أن ينضم إليهما كل من قائد الجيش اللبناني ورئيس الجيوش الفرنسية. ارتكز اللقاء على تجديد دعم فرنسا للبنان وعمل باريس الدؤوب على عدم توسيع رقعة الصراع في الشرق الأوسط، فضلاً عن دعم المؤسسات اللبنانية وخاصة الجيش اللبناني وتوفير احتياجاته اللوجستية التي تضمن استدامة عمله في حفظ أمن البلاد[7].
ومن المرتقب أن يتم استكمال ملامح هذه الخطط بزيارة مرتقبة لبيروت أشيع عن إجرائها قريباً من جانب المبعوث الأمريكي آموس هوكشتاين. إذ يسعى الوسطاء الدوليون إلى التقدم في الملف اللبناني على مسارين، مسار الهدنة على الجبهة اللبنانية بما يضمن ترتيبات عسكرية ولوجستية تُبعد القدرات العسكرية لحزب الله بعيداً عن الحدود لمسافة معينة، في مقابل منع استباحة الطيران الإسرائيلي للأجواء اللبنانية، مع إمكانية شمول الاتفاق لصفقة ترسيم الحدود البرية بين البلدين بشكل نهائي وبرعاية أمريكية. أما المسار الثاني والذي يحظى برعاية فرنسية بالأساس فيتمثل في إعادة انتظام الحياة السياسية اللبنانية من خلال انتخاب رئيس جديد للبلاد ليملأ الفراغ الدستوري المستمر منذ نحو عام ونصف، ويمهد للإسراع بخطة الإنقاذ الاقتصادي التي طال انتظارها.
وكان يتردد أن التنسيق بين الفرنسيين والأمريكيين يشهد بعض التذبذب، فالأمريكيون لا يريدون للمبعوث الفرنسي جان إيف لودريان مصادرة تمثيل اللجنة الخماسية التي تضم كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والسعودية ومصر وقطر. بينما يرى الفرنسيون أن الوصول لتسوية في لبنان لا يتطلب انتظار وقف الحرب في الغزة بل يجب فصل المسارين للإسراع بانتخاب الرئيس اللبناني وعقد تسوية منفصلة تتعلق بلبنان[8]. فيما يبدو أن الأمريكيين يسلمون بمنطق التوالي، إذ لا يتصور أن يتم إنجاز تسوية في لبنان قبل الانتهاء من مهمة وقف الحرب في غزة، وهم للمفارقة يتفقون في ذلك مع تفضيلات حزب الله.
ويعطل حزب الله بحزم إتمام أي صفقة برعاية دولية على كلا المسارين على حدٍ سواء في انتظار وقف الحرب الجارية في غزة، مما أدى إلى تصاعد حالة من التململ في الجبهة الداخلية اللبنانية مع اتساع رقعة المناطق المستهدفة بالقصف الإسرائيلي في الجنوب والبقاع وغياب أفق تعويض المنشآت والممتلكات الخاصة. فضلاً عن نشاط المعارضة المناوئة لحزب الله في إبراز رغبتها لإتمام انتخاب رئيس الجمهورية قبل انتهاء الحرب وليس بعده. بينما جدد حزب الله مرة أخرى إصراره على ربط جبهتيّ غزة ولبنان من خلال سماحه لحماس لبنان باستئناف ضرباتها للشمال الإسرائيلي انطلاقاً من الجنوب اللبناني بعد نحو شهرين من تعليق هذا النشاط[9]، فيما فُسر باعتباره تجاهلاً للمبادرة الفرنسية التي ترغب في فصل مصير جبهتيّ غزة ولبنان، ويعيد الأولوية لمساندة جبهة غزة مواكبةً لمفاوضات الهدنة الجارية وتحسباً لأي تطور ميداني جديد يتعلق بتنفيذ عملية عسكرية في رفح.
[7] موقع النشرة اللبنانية، "في صحف اليوم ماكرون يستعجل الرئيس ويعد بحل لملف النازحين ولجنة ثلاثية لدعم الجيش"، 20-4-2024، https://shorturl.at/iyCY0